شخصيات الإصلاح
بقلم |
التحرير الإصلاح |
إبن الرزّاز الجزري «المهندس الذي سبق عصره» |
بديع الزمان أَبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري الملقب بـ «الجزري» (1136-1206) عالم مسلم وواحد من عمالقة الهندسة في التّاريخ، ويعتبر من أعظم المهندسين والميكانيكيّين والمخترعين في تاريخ البشريّة إذ ساهمت اختراعاته في فتح الباب لظهور كثير من الآلات التي لعبت دورا محوريا في الثورة الصناعية في أوروبا، والتي أصبحت فيما بعد عماد المدنيّة الحديثة.
ولد هذا العالم الجليل في منطقة جزيرة «ابن عمر» ومنها جاء لقبه «الجزري» وتعرف اليوم بـ (جزرة) في منطقة (بوطان) الواقعة على ضفاف نهر دجلة قرب حدود العراق وسوريا. كانت هذه الجزيرة جزءا من بلاد الشّام، وهي اليوم تتبع محافظة شرناق في منطقة جنوب شرق الأناضول في تركيا. ورغم أنّها لا تطلّ على البحر، فإنّ تسمية الجزيرة أطلقت عليها لكثرة الأنهار حولها. وهناك رأي يقول إن الاسم اشتق من لفظ سرياني قديم هو «جزرتا» يعني «البعيدة» وتحول إلى جزيرة بالعربية مع مرور الزمن.
درس «الجزري» الرياضيات وما توفّر في عصره من معلومات فيزيائيّة ومعلومات خاصّة بالتطبيقات الصناعية، وكان دائمًا يقرن الدراسة النظرية بالتّجريب، ولا يثق بالنظريات الهندسية ما لم تؤكدها التجارب العملية. اشتغل مبكّرا منذ عام 1174م في بلاط «بني أرتق» ملوك «ديار بكر» لمدّة خمس وعشرين سنة وحظي برعاية خاصّة من طرفهم، وقد رفعته خبرته العلمية وقدراته الابتكارية في الاختراع والإنشاء إلى مرتبة كبير مهندسي الدولة. وكانت مهمّته استخدام الحقائق العلمية والخبرة التكنولوجية في صناعة ما ينفع المجتمع من آلات مبتكرة.
يعتبر «الجزري» من أوائل من فكروا ونجحوا في صنع آلات ذاتيّة الحركة، تعمل من دون قوّة دفع بشريّة، وقد استخدم الجزري الماء المتدفق وسيلةً لتشغيل آلاته واختراعاته.
يرى المؤرخون أن «الجزري» حلقة وصل مهمة في تاريخ تطور صناعة الآلات، فقد استفاد من أفكار من سبقوه، وأضاف لها إضافات جعلت تلك الأفكار مهيأة لتنتقل إلى الصورة الحديثة التي نعرفها بها اليوم، مثل توصله لأسمى اكتشافاته وهو النظرية التي تقول «إن الحركة الدائرية يمكنها أن تولّد قوة دافعة إلى الأمام». وقد قاده اكتشافه هذا إلى اختراع عمود الكامات (Camshaft)، وهو العمود الذي يدور بضغط مكابس المحرك فتتولد قوة دافعة للأمام كما يحدث في محرك السيارة. استخدم الجزري هذه التقنية في بناء مضخات مياه دافعة وساحبة، تمتعت بتقنية الحركة الذاتية من دون قوة دفع بشرية أو حيوانية، كما استخدمها في صناعة تحف ميكانيكية الحركة غالبا على شكل طاووس استخدمت في قصور بني أرتق. تلقف الأوروبيون اختراع الجزري بعد قرنين، وبنوا عليه حتى توصلوا إلى اختراع المحرك وبدأ عصر القطارات البخارية، التي كانت العمود الفقري لعصر النهضة والثورة الصناعية الأوروبية في القرون الوسطى.
ومن مساهماته القيمة في مجال تطوير الآلات الزراعية، استخدامه سلسلة معدنية لتدوير عمود الكامات، وهي التقنية نفسها التي تستخدم في محركات السيارات.
صنع هذا المهندس النابغة أدقّ ساعة شمعيّة في التّاريخ لقياس الزمن الذي تستغرقه عمليّة ما. واستخدم «الجزري» في هذه السّاعة تقنية لم يسبقه إليها أحد ولا تزال مستخدمة إلى يومنا هذا، وهي تقنية توصيل الأجزاء بطريقة الفحل والأنثى (male female connector). وفي مجال السّاعات الميكانيكيّة، قدّم «الجزري» اختراعين كانا أساس صناعة السّاعات في أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي. الاختراع الأول هو المسنّنات الدّقيقة، والثّاني هو ميزان السّاعة، وهو الجهاز الذي يحافظ على ثبات سرعة دوران المسنّنات.
أمّا في مجال الإنسان الآلي، فقد صنع أوّل نسخة بدائيّة من الألعاب التي صنعت بصورة إنسان، وتعمل بوظيفة مبرمجة لها مسبقا. وهي عبارة عن مجموعة من الموسيقيّين تطفو على سطح الماء، ويصدر كلّ واحد منها صوت آلة موسيقيّة معينة.
من أهمّ مؤلّفات الجزري: كتاب «معرفة الحيل الهندسيّة» الذي شرح فيه كيف صنع آلات قياس الزمن بأنواعها خاصةً السّاعة المائية اللّيلية، وكتاب « الهيئة والأشكال»، و«الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل» وقد وضع فيه عصارة اختراعاته بطريقة مفصّلة تدلّ على أن هذا العالم كان يريد للمهتمين من بعده أن يستفيدوا من علمه. يقع الكتاب في خمسة أجزاء يختص كل منها بقسم من أقسام الحيل أو تكنولوجيا الصناعات في مواضيع الساعات المائية، السفن، أحواض القياس، النافورات، آلات رفع المياه التي تعمل بقوة جريان الماء، بعض الآلات المفيدة كالأبواب والأقفال... وقد ركز «الجزريّ» في كتابه، على أهميّة التجريب وأهمية الملاحظة الدقيقة للظواهر التي تكون أساسًا للاستنتاجات العملية. ترجمت كتبه إلى لغات عدّة، وهي تعرض حاليا في متاحف عديدة حول العالم.
ومما حفل به الكتاب؛ وصف «الجزري» لخمس آلات لرفع المياه تعمل بقوة جريان الماء في مجراه الطبيعي، وقد جعلها الجزريّ ذات تصميمات مختلفة لتناسب الارتفاعات المتباينة التي يلزم نقل الماء إليها، وقد تركت هذه الآلات بصمة واضحة على تاريخ صناعة الآلات في العالم، وكذلك وصف «الجزريّ» النموذج الأول للمضخة المائية التي مهّدت السبيل لابتكار المحرك البخاري وآلات الضخ التي تعمل بالمكابس أو الأسطوانات المتداخلة.
ترجم الكتاب الذي أبهر الغرب إلى لغات عدة، وهو يعرض في متاحف عديدة حول العالم مثل تركيا وفرنسا وبريطانيا.
وبالإضافة إلى إنجازاته كمخترع ومهندس، كان «الجزري» فنانا بارعا متمكّنا من خصائص الفن الإسلامي في القرون الوسطى، ويبرز ذلك جليّا في مخطوطاته الكثيرة التي جاءت في شكل رسوم متقنة فيها وصف دقيق لأجزاء كلّ اختراع وكيفيّة العمل بها.
كان علم الجزري أحد أسس النهضة العلمية في الحضارة العربية الإسلامية التي انتقلت فيما بعد إلى أوروبا
|