في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
أثر سلوك الافراد والجماعات على مستوى الفقر (2-2)
 بلورنا في عدد سابق من مجلة الإصلاح(1) دالّة لمستوى الفقر، وبيّنا أنّ ثلاثة متغيّرات يتغيّر بتغيّرها مستوى الفقر، وهي المقاربة المعتمدة(2) والنّظرة للإنسان،  ثمّ شرعنا في العدد السّابق في تحليل سلوكيّات الإنسان(3) التي كانت وراء ارتفاع مستويات الفقر(4). وكما وُجدت سلوكيّات  تسبّبت في ارتفاع مستويات للفقر، توجد سلوكيّات أخرى تخفض منها ومن بينها: 
1.  سلوك سياسة الأجور المرتفعة 
توجد لدى النّاس خاصّية الرّغبة في الفخامة وذَوق طعم التّغيير، والرّغبة في مضاعفة الجهد وتخطي الصّعاب وكذلك الرّغبة في مضاعفة المدخول، وقد اعتبر آدم سميث أنّ «الرّغبة في مضاعفة الرّبح دافعة الى مُضاعفة الجهد والتّفاني في العمل الشّاق» (5)  
وقد دفعت هذه الخاصّية بعض الاقتصاديّين الى الانتصار الى التّحاليل التي تُشاطر الرّأي القائل باتباع سياسة الأجور المرتفعة، فبالأجور المُرتفعة- حسب هؤلاء - نجد من يشتغل لإنتاج الفخامة ومن يبتكر، إحداثا للتّغيير في نمط الحياة، كا نجد كذلك من يقدر على استهلاك تلك المنتجات، فعمليّة إنتاج الفخامة والرّغبة في تغيير نمط الحياة تستوجب مُنتجين، الأمر الذي يُوفّر مواطن شغل للفقراء، وقد ذكر «ماندفيل» في هذا السّياق أنّ «الفخامة تُعطي العمل لمليون فقير، والتّعطش للتّغيير يُعطي مليونا لآخرين»(6) وبذلك تنخفض مستويات الفقر.
وحتى لا يكون الفرد محتاجا، وجب اتباع سياسة الأجور المرتفعة كما ذكر «آدم سميث»، حين يؤكّد أنّه «من الواجب ضرورة أن يعيش الإنسان من عمله، وأن يكون أجره يكفي لسدّ حاجاته كما يجب أن يكون له فائض لمواجهة ظروف أخرى، فبدون ذلك لا يمكن للمرء أن يعيل أسرة»(7) فسياسة الأجور المرتفعة من شأنها خفض مستويات الفقر.
2. سلوك سياسة العدل كإنصاف
تكتسي «نظريّة العدالة» حسب واضعها «جون رولز» سنة 1971 أهمّية ما إنْ تمَّ أخذ مصالح الأكثر حرمانا في الاعتبار، إذ يرى «رولز» أنّ «أهمّية نظريّة العدالة لا تتحقّق الاّ حينما تُؤخذ مصلحة الفئة الأكثر حرمانا والأكثر ضعفا في الاعتبار» (8) 
فتحقيق الرّفاهة، في نظره وما تعنيه من مُحاصرة للفقر وخفضٍ لعدد الفقراء يمرّ عبر تحقيق العدل بالمغهوم الذي يتبنّاه «رولز»، وهو يختلف كثيرا عن المفاهيم التي سادت لعصور عديدة مِن اعتبار العدل هو «العمل لمصلحة الأقوى والأكثر امتيازا» أو هو «الخير الذي يؤدّي الى الرُّقيِّ بالجنس البشري» أو هو «الذي قُوامه الانسجام التّام مع الطّبيعة والتّناغم معها».
فالعدل حسب رولز هو «الإنصاف»، وبه يُحدِّدُ الكسب الذي به يقي الإنسان نفسه من الفقر والحرمان وليس أصوله الاجتماعيّة أو العرقيّة أو الجنسيّة أو الطّبيعيّة أو السّلطويّة، فالمُحدّد في الكسب هو طبيعة العدالة ذاتها اذ يعتبرها إنصافًا بمعنى إنصاف النّاس -كلّ النّاس- عبر توزيع مُنصف للثّروات، وليس بمعنى تسخير البعض لخدمة الأقوى أو غيرها من المعاني التي سادت حينها.
ولتحقيق هذه العدالة التي يُقرّ «رولز» بإمكانيّة تحقيقها، يرى لُزومَ توفير شرط الايمان بمبدأ التّعاون كعنصر استراتيجي لتوفير الرّفاهة للجميع، في ظلّ الحُرّية -حسب رولز- برزت الرّوح الأنانيّة وتعاظمت الفردانيّة وتضخّمت، واستشرت اللاّمبالاة السّياسيّة، وتفاعلا مع هذا المشهد وضع «رولز» «مبدأ التّعاون» شرطا لتحقيق العدالة كإنصاف، وبذلك نضمن التّوزيع العادل للثّروات.
ولهذه العدالة ثلاثة مبادئ هي المساواة والحرّية والتّعاون الاجتماعي، والمُساواة التي نادى بها هي في الحرّية وكذلك في الفُرص أو ما عبّر عنه بالتّساوي في المنافع الأساسيّة من حُقوق وسُلطة وفُرص ودخل وثروة ومخولات احترام الذّات(9) وذلك من خلال توزيع عادل لهذه المنافع وهي أهمّ نقطة عمليّة، حسب رولز نحو استعادة العدالة داخل المجتمعات الحديثة لضمان خفض مستويات الفقر أو القضاء عليه.
وفي ظلّ تساوي الحرّيات يوجد حتما تفاوت، لكنّه تفاوت لا ينبغي أن يُفرِز ضحايا محرومين وفقراء، وللحيلولة دون ذلك لا بدّ من توافق أدنى لما هو عادل أو غير عادل، وكذلك إيجاد صيغ مشتركة تضمن الحرّيات الأساسيّة للأفراد والمساواة في توزيع الثّروات باعتبار مبادئ العدالة كإنصاف.
3. سلوك سياسة النّمو الشامل
رأينا حين حلّلنا بعضا من السّياسات التي تسبّبت في ارتفاع مستويات الفقر كيف أنّ سلوك سياسة النّمو الاقتصادي لم تفلح في الحدّ من الفقر والتّفاوت داخل المجتمع الواحد خاصّة مع شهادة البنك الدّولي سنة 2016 في أنّ النّمو الاقتصادي، الذي كان يُعتقد في قدرته على التّقليل من الفقر، أصبح مخيبا للآمال، ولعلّ عدّة أسباب مجتمعة تفسّر ذلك الفشل منها أساسا الانشغال بالثّراء المادّي والاعتماد على نهج محوره الاقتصاد واتخاذ زيادة الدّخل كهدف والنّمو الاقتصادي كمقياس.
وتفاعلا مع هاته النّتيجة، ومع تبنّي مفهوم متعدّد الأبعاد للفقر وكذلك مع ما لحق آليّة التّمويل الأصغر التّقليدي من إشكالات أعاق عملها في الحدّ من الفقر خاصّة ندرة الموارد الماليّة وكلفتها الباهظة، اتجهت المجموعة الدّولية الى البحث عن آليّات أخرى في تعاطيها مع ظاهرة الفقر تكون أكثر نجاعة للحدّ من الفقر، وذلك من خلال وضع سياسات وطنيّة ضمن استراتيجيّة من أربعة محاور:
1 - الوصول الى الفقراء بسياسات التّعميم
2 - اتخاذ تدابير للمجموعات ذات الاحتياجات الخاصّة
3 - تمكين الفقراء
4 - تحصين منعة التّنمية البشريّة
ويُقصد بسياسات التّعميم، السّياسات التي تهدف لتعميم التّنمية على الجميع بما فيهم الفقراء والتي تعتبر مهمّة شاقّة، فقد يوجد بلد ملتزم بتعميم الرّعاية الصّحيّة ولكن خصائصه الجغرافيّة قد تحول دون تقريب الخدمات الصّحيّة لجميع السّكان، ممّا يتطلب جهدا نحو إعادة توجيه السّياسات بما يُصحّح التّفاوت في التّنمية حتّى يستفيد الفقراء من ثمارها. 
ومن أسس هذا المسار حسب تقرير التّنمية البشريّة لسنة 2016 الاستثمار في الإمكانات مدى الحياة وتعبئة الموارد لأولويّات التّنمية البشريّة وتحسين الفرص للنّساء باعتبارهنّ ذوات النّصيب الأكبر من الفقر في العالم، إذ أنّ أغلب فقراء الدّخل في العالم (بين 800 مليون و1,2 بليون) من النّساء ومعظمهنّ خارج سوق العمل أو يعملن بأجور متدنّية (10). 
 ومن أسس سياسات التّعميم المركزيّة السّعي نحو ما أسماه البرنامج الانمائي للأمم المتّحدة «النّمو الشّامل» كرافعة بديلة لمعالجة الفقر والبطالة، فما المقصود بالنّمو الشّامل وما هي دعائمه؟
انطلاقا من أدبيّات البرنامج الانمائي للأمم المتّحدة وبالتّحديد تقرير التّنمية البشرية لعام 2016 فإنّ النّمو الشّامل هو أسّ من أسس سياسات تعميم التّنمية يهدف الى أن يستفيد منها الجميع وأساسا الذين تمّ إقصاؤهم منها اقتصاديّا وماليّا.
ولتشجيع النّمو الشّامل يتمّ اتباع سياسات وإقامة مؤسّسات تساعد أشد النّاس فقرا على الاستفادة من النّمو الاقتصادي، وتشجّع على الإنصاف والاحتواء الاجتماعي واستدامة الاقتصاد الكلّي وتعزيز الشّفافيّة والكفاءة بالقطاع العامّ، وزيادة الإنتاجيّة وتقوية القطاع المالي واستقراره، وهي كما وصفها التّقرير السّنوي للبنك الدّولي 2016 عناصر جوهريّة للحدّ من الفقر وتشجيع النّمو الشّامل للجميع.
والنّمو الشّامل مسار يُمَكِّن من الحصول على الفرص الاقتصاديّة والخدمات الأساسيّة عالية الجودة ويتطلّب مزيجا من أعمال التّحليل والمشورة القويّة والخدمات الماليّة والاقراض والقدرة على تعبئة الجهود للتّصدي للتّحدّيات التي تواجه تحقيق الإنصاف والاحتواء الاجتماعي واستدامة الاقتصاد الكلّي، وللمؤسسات الدّوليّة على غرار البنك الدّولي في هذا المجال دور هامّ.
 ويقوم النّمو الشّامل على ركائز أربع:
• استراتيجيّة النّمو المحرّك للتّشغيل 
• التّمويل الشّامل
•الاستثمارات في أولويّات التّنمية البشريّة
• التّدخّلات المتعدّدة الأبعاد عالية التّأثير والمحقّقة للمكاسب للجميع.
ويقع التّركيز ضمن استراتيجيّة النّمو المحرّك للتّشغيل على إزالة الحواجز التي تحول دون التّنمية المرتكزة على التّشغيل وتصميم إطار تنظيمي للعمل غير النّظامي وتنفيذه، وتعزيز الرّوابط بين الشّركات الكبرى والمتوسّطة والصّغيرة، والتّركيز أيضا على القطاعات التي يعيش منها الفقراء ويعملون فيها لاسيما في المناطق الرّيفيّة، وتصحيح التّوزيع بين رأس المال والعمل في الإنفاق العام لاستحداث فرص التّشغيل.
كما يرتكز النّمو الشّامل على التّمويل الشّامل، فإلى جانب السّياسات المستدامة في مجالي الاقتصاد الكلّي والماليّة العامّة والتّكامل الاقتصادي بين البلدان تساعد حسب البنك الدّولي في تقريره السّنوي لعام2016(11)  الأنظمة الماليّة الشّاملة للجميع والكفؤة والمستقرة في تعزيز النّمو الاقتصادي والحدّ من الفقر ويتمّ ذلك عبر ما يلي:
- إزالة العراقيل مثل الفجوات التّمويليّة للشّركات والفقراء عبر توسيع نطاق الخدمات المصرفيّة لتشمل الفئات المحرومة والمهمّشة، وتبسيط الاجراءات وتسخير التّكنولوجيا الحديثة لتحقيق التّمويل الشّامل.
- تعزيز الشّفافيّة والمساءلة
- الحدّ من التّدفقات الماليّة غير المشروعة 
- تدعيم المؤسّسات الماليّة الرّئيسيّة بهدف الحفاظ على الاستقرار المالي ودفع النّمو الاقتصادي
- بناء القدرات اللاّزمة لإعداد استراتيجيّات إدارة الدّين وتنفيذها باعتبارها حجر الزّاوية للاستقرار المالي واستدامة سياسة الماليّة العامة
 ومن ركائز النّمو الشّامل أيضا الاستثمارات التي تركّز على أولويّات التّنمية البشريّة من بنى أساسيّة خاصّة في الأرياف من طرق وكهرباء وماء ومرافق صحيّة وتعليميّة بهدف تأمين خدمات مُنخفضه الكلفة وعالية الجودة للمحرومين والمهمّشين ويمكّن من تحسين جودة البنى التّحتيّة عبر شراكات القطاع العام والقطاع الخاصّ كما يرى البنك الدّولي، واعادة توزيع الأصول وذلك لاستيعاب من تركوا خارج مسار النّمو ورأس المال البشري من الأصول.
والى جانب الركائز الثّلاث السّابقة الذّكر للنّمو الشّامل من استراتيجيّة النّمو المحرّك للتّشغيل والتّمويل الشّامل والاستثمارات في أولويّات التّنمية البشريّة، نجد دعامة رابعة هي التّدخّلات المتعدّدة الأبعاد العالية التّأثير والمحقّقة للمكاسب للجميع والتي يقع ترجمتها من خلال إعطاء الحكومات المحلّيّة استقلاليّة في صياغة خطط التّنمية المحلّية وتنفيذها، واللاّمركزية العالية لتمكين الحكومات المحلّية من جمع الايرادات الخاصّة بها والحدّ من اعتمادها على منح الحكومة المركزيّة، وهذا يستوجب توسيع نطاق المشاركة وتعزيز القدرات الإداريّة المحلّية.
4. سلوك سياسات متعدّدة الأبعاد وبشكل متوازن
لمواجهة الفقر والبطالة، تُوجد من بين دول العالم من استطاعت أن تنحت تجارب خارج سرب البنك الدّولي، القائل بأنّ «النّمو يقلّل من الفقر»، فوضعت سياسات حقّقت من خلالها نجاحات في مواجهتها لظاهرة الفقر والبطالة، تجارب جديرة بالعرض والدّراسة، علّنا نخلص لعبر نستأنس بها في بحثنا للكيفيّة الّتي نُخفّض بها مستويات الفقر.
 ومن بين هاته الدّول نجد ماليزيا التي استطاعت أن تقلّل من الفقر، في ثمانينات القرن الماضي، على الرّغم من أنّ الدّخل المتوسّط سجّل انخفاضا، ممّا يلفت الانتباه الى أنّ الصّدمات الخارجيّة أو التّغيرات الهامّة في السّياسة قد تغيّر من مدى انتشار الفقر عن طريق التّغيّرات في التّفاوت في الدّخل. 
ومن السّياسات التي اثبتت جدواها ومكّنت من تخفيض ملحوظ ومُستمرّ لمستويات الفقر نذكر:
- سياسة إعادة توزيع الرّصيد القائم من الأصول على الفقراء (مثل الأرض) وما أفضت إليه من تمليك الفقراء أصولا ساهمت في خفض ملحوظ لمستوى الفقر، ولنا في تجربة كلّ من اليابان وكوريا خير مثال، حيث أدّت تلك السّياسة الى انخفاض ملحوظ ومستمر في الفقر.
- زيادة عوائد الأصول الخاصّة بالفقراء سواء من خلال زيادة إنتاجيّة النّشاطات الاقتصاديّة عبر زيادة الاستثمار العام في العنصر البشري للفقراء أو من خلال توفير بنية أساسيّة مادّية أفضل، ولنا في تجربة كلّ من كولومبيا وماليزيا خير مثال.
- الاهتمام بالتّعليم، فلزيادة إنتاجيّة القطاع الزّراعي، باعتبار أنّ الكثير من الفقراء يعتمدون، بصورة مباشرة أو غير مباشرة على هذا القطاع، ولزيادة انتاجيّة بقيّة النّشاطات لابدّ من تعليم أفضل، إذ أثبتت الدّراسات حسب البنك الدّولي أنّ هذا النّوع من التّعليم «مسؤول عن نحو ربع الزّيادة في الايرادات الزّراعيّة وعن نحو ثلاثة أرباع الايرادات غير الزّراعيّة، فالاستثمار في العنصر البشري للفقراء وتوفير بيئة يمكن فيها استخدام المهارات الجديدة بطريقة منتجة أثبتتا نجاعتها في تحسين الرّفاهيّة قصيرة الأجل للفقراء وآفاق زيادة الدّخول في الأجل المتوسّط كما حصل في ماليزيا.
-  توفير بنية أساسيّة مادّية أفضل من شأنها توفير إمكانيّة وصول معظم الفقراء إلى الأسواق كما حدث في أندونيسيا، حين استخدمت عائداتها من النّفط لتحسين البنية الأساسيّة وتوسيع نطاقها عبر جاوا الرّيفيّة بأسرها، ممّا قلّل من أعداد الفقراء بشكل واضح، وعلى النّقيض من ذلك، استمرّت البنية الأساسيّة غير الكافية أصلا في كثير من بلدان إفريقيا جنوب الصّحراء في التّدهور.
- سياسة التّحويلات التي تكون عادة في شكل دعم غذائي، فقد تمّ القيام بتحويلات معتدلة تتّسق مع النّمو الاقتصادي السّريع في كلّ من اندونيسيا وتايلاند تقدّر بـ 2 %من النّاتج القومي الاجمالي، تحويلات لم تضر لا بالنّمو ولا بمستقبل الأجيال على عكس تجارب أخرى في كثير من البلدان أظهرت أنّ المستفيد من التّحويلات ليس ضرورة الفقراء، كالتّحويلات في مصر في أواخر السّبعينات التي بلغت 7 % من النّاتج القومي الاجمالي، لكنّها حسب البنك الدّولي (12) لم تصل معظمها للفقراء، كما أنّها تسبّبت في صعوبات اقتصاديّة كلّية شديدة بتخفيضها للنّمو، وحكمت على الأجيال القادمة أن تعيش في الفقر.
وبعد عرض السّياسات التي أحدثت نموّا اتسم بكثافة نسبيّة للعمالة ومعدّلات نمو مرتفعة تجاوزت 6 % ودامت لسنين، وإنفاقا اجتماعيّا كافيا في كلّ من اندونيسيا وتايلاند وماليزيا، لابدّ من الإشارة الى أنّ التّوازن السّليم بين مجموع تلك السّياسات سواء تلك التي تستحثّ النّمو أو تلك التي مكّنت الفقراء من المشاركة فيه كانت حاسمة في تحقيق النّتائج الايجابيّة التّالية:
- تحقيق هذه الدّول تعليما ابتدائيّا شاملا 
- تسجيل معدّلات لوفيات الأطفال أدنى من تلك التي تحقّقت في البلدان ذات الدّخول المماثلة
- تحسّن في مهارات القوّة العاملة من الفقراء ممّا مكّنهم من اغتنام الفرص التي أتاحها لهم النّمو الاقتصادي.
وفي المقابل ورغم ما حقّقته البرازيل من نسب نمو فاق معدّلات نموّ البلدان الثلاثة التي سبق ذكرها  وتحقيق باكستان لنفس نسب نمو الاقتصادي لديها، فإنّ خلق الفرص للفقراء وتطوير قدراتهم في هذين البلدين لم يكن في المستوى الذي وصلت إليه البلدان الثلاثة، ولم تتحسّن المؤشّرات الاجتماعيّة سريعا في أي من البلدين حيث كانت معدّلات وفيات الأطفال دون الخامسة في البرازيل من أعلى المعدّلات بين البلدان متوسّطة الدّخل وكانت معدّلات القبول بالمدارس الابتدائيّة في باكستان من أدنى المعدلات في العالم، ولم يتحقّق تحسين مهارات القوّة العاملة ممّا حرم الفقراء القدرة على الانتفاع بالنّمو.
وما نستنتجه من تجارب كلّ من اندونيسيا وتايلاند وماليزيا من جهة والبرازيل وباكستان من جهة أخرى أنّه من الممكن حدوث نمو إقتصادي دون حدوث كثير من التّقدم الاجتماعي والعكس صحيح أيضا، وهذا يعود الى مدى اتخاذ سياسات تستحثّ النّمو وتمكّن في الوقت ذاته الفقراء من المشاركة فيه ومدى إحداث التّوازن السّليم بين مجموع تلك السّياسات، ليتأكّد ما انطلقنا منه حين اعتبرنا أنّ كلّ من النّمو الاقتصادي والفقر هما نتائج لسياسات وليسا أدوات لها.
وإذا تناولنا تجارب دول أخرى في حالة الرّكود الاقتصادي المتّسمة بجمود أو تراجع نصيب الفرد من النّاتج المحلّي الإجمالي، وجدنا منها من توقّف تحسّن الفقر لديها مثل كوستريكا، ومنها من بذلت جهودا لتحسين المؤشّرات الاجتماعيّة ونجحت في ذلك كسريلانكا إذ بلغ معدّل وفيات الأطفال دون الخامسة 66 في الألف في 1980 والذي اعتبره البنك الدّولي «إنجازا رائعا بالنّسبة لبلد منخفض الدّخل» (13) 
أما في حالة النّمو البطيء للنّاتج المحلّي الإجمالي، تبيّن تجربة المغرب والهند أنّه من الصّعب التّقليل من الفقر باعتبار أنّ رفع دخول الفقراء يتطلّب نموّا اقتصاديّا عريض القاعدة.
وفيما يخصّ الفقراء غير القادرين على الكسب بسبب إعاقة أو مرض مقعد أو هرم أو غير ذلك فلسياسة التّحويلات والدّعم وشبكات الضّمان دور في الإحاطة بهم ورعايتهم.
نستنتج ممّا سبق، أنّ البلدان التي كانت أكثر نجاحا في خفض مستويات الفقر، هي التي شجّعت نمطا من النّمو يحقّق الاستخدام الفعّال للعمل واستثمرت في العنصر البشري للفقراء، لأنّ ذلك يقلّل من الفقر ويزيد في الدّخل معا، وهذا يجعل المفاضلة ليست بين الدّخل والنّمو من ناحية والفقر من ناحية أخرى بل بين الاعتماد على الثّراء المالي أو الاعتماد على الإنسان، خاصّة وأنّ النّهج الأول أفرز تهميشا وإقصاء لفئات عريضة من النّاس، ممّا فاقم من ظاهرة الفقر، أمّا النّهج الثّاني فقد عزّز الإدماج والمشاركة وهذه قيم أسّست فيما بعد لمقاربة جديدة للتّعاطي مع الفقر والفقراء اطلق عليها «مقاربة التّمكين الاقتصادي».
الهوامش
 (1) راجع مجلة الإصلاح العدد 203 (جوان 2024) من الصفحة 44  الى الصفحة 47
 (2) راجع مجلة الإصلاح العدد 204(جويلية 2024) من الصفحة 32 الى الصفحة 37
(3)  راجع مجلة الإصلاح العدد 205 (أوت 2024) من الصفحة 36 الى الصفحة 41
(4) راجع مجلة الإصلاح العدد 206 (سبتمبر 2024) من الصفحة   30 الى الصفحة  36
(5) آدم سميث،  ثروة الأمم، ص 100  / آدم سميث(1767 - 1832)
(6)  MANDEVILLE B. (1705 -1714), The fable of bees, ReprintedF. B. Kaye P 33 (éd.), Oxford, Clarendon Press, 1924
(7) المصدر السابق ص 77
(8) المصدر السابق ص 37
(9)  Patrick Cotelette,et John Rawls : la juste comme équité une reformulation de théorie de la justice 
        https://fi :wikipedia.org/wiki/Théorie de la Justice    
(10) لجنة الامم المتحدة المعنية بوضع المرأة لعام 2017      http://www.unmultimedia.org
(11) تقرير البنك الدولي (2016) ص 13 - 14 
(12) تقرير البنك الدولي (1990)  ص 67
(13) تقرير البنك الدولي (1990)  ص 70