الأولى

بقلم
فيصل العش
الأسباب الحقيقيّة وراء انحسار دعم الشعوب العربية للقضيّة الفلسطينيّة
 تمهيد
يتحدّث الكثير منّا عن سقوط ورقة التّوت عن الغرب، وعن حضارته وشعاراته التي يحلم بها كلّ البشر كالحرّية والكرامة والمساواة والعدالة والدّيمقراطيّة. لكنّ القليل من توقّف ليتساءل لماذا يتعاظم زخم التّجمعات والمظاهرات المندّدة بالكيان الصّهيوني وبجرائمه الشّنيعة في غزّة لدى شعوب الدّول الغربيّة وأمريكا بالرّغم من غياب روابط بينها وبين فلسطين سوى الرّابط الإنساني، في حين نراه ينحسر لدى شعوب الدّول العربيّة والإسلاميّة بالرّغم من وجود روابط عديدة تربطها بفلسطين أهمّها الدّين واللّغة والجوار؟
نحن لا نتحدث هنا عن الأنظمة بل عن الشّعوب، فتخاذل موقف الأنظمة العربيّة والإسلاميّة في نصرة الفلسطينيّين - الذين يعمل الكيان على إبادتهم في قطاع غزّة- واضح ولا يتطلّب جهدا كبيرا لمعرفة أسبابه، فجلّها يعود أساسا إلى ارتباط معظمها بالقوى المهيمنة على السّاحة الدّوليّة وخاصّة الإدارة الأميركيّة الاستعماريّة الرّاعية للاحتلال الصّهيوني، فمعظم هذه الأنظمة «وظيفيّة» خاضعة لهذه القوى وتابعة لها.
 ويمكن تصنيف مواقف الأنظمة العربيّة والإسلاميّة إلى أربعة : موقف يتماهى مع الموقف الصّهيوني في إلقاء اللّوم على المقاومة الفلسطينيّة وخاصّة حماس، وموقف يحاول أصحابه الضّغط باتجاه تحقيق هدنة إنسانيّة لاغير، وموقف يتاجر بالقضيّة الفلسطينيّة، فيظهر ما لا يبطن، وموقف خارج الخدمة فلا صوت لأصحابه إزاء المجازر التي يرتكبها الكيان بحقّ أهل غزّة.
ما يهمّنا في هذا المقال هو البحث في أسباب انحسار الدّعم الشّعبي العربي والإسلامي، لأنّ معرفة الأسباب قد تساهم في الفهم وتساعد على البحث عن الآليّات المناسبة لتفعيله، والغاية من ذلك ليست نصرة القضيّة الفلسطينيّة وحسب بل خدمة لمشروع النّهوض الحضاري الذي نحلم به، فلا أمل في نهوض حضاري لهذه الأمّة وشعوبها غائبة عن وعيها، لا تفكّر إلاّ في شهوات البطن والفرج. فما هي الأسباب الحقيقيّة التي تقف وراء انحسار دعم الشّعوب العربيّة لإخوانهم في غزّة خصوصا وفلسطين عموما؟ الأسباب عديدة لكنّنا سنكتفي بالتّطرّق إلى أهمّها ونلخصها في ثلاثة:  
1 - ثقافة الهزيمة
ليس من الصّعب أن نستنتج أن ثقافة الهزيمة تغلغلت في الشّعوب العربيّة فقيرها وغنيّها، وأصبحت سمة من سماتها، ومازاد في تغلغلها تتالي الهزائم العسكريّة والاقتصاديّة (1)، وتحويل الانتصارات على قلّتها إلى هزائم(2) بفعل الخيانات وحالة الاستلاب الحضاري التي تعيشها الأنظمة العربيّة والإسلاميّة ونخبها قبل شعوبها. ولنا في «طوفان الأقصى» دليلٌ على ما نقول، فما فعلته المقاومة الفلسطينيّة في السّابع من أكتوبر وما بعده من سحق أسطورة «إسرائيل التي لا تقهر»، وفضح هشاشة المشروع الاستيطاني العنصري للكيان جيشا وسياسة ومجتمعا، مثّل لحظة شعور بالعزّة والكرامة اجتاحت شعوب العالم كلّه،وهي لحظة نصر عظيم كان يمكن أن تكون حافزا للشّعوب العربيّة الإسلاميّة للقطع مع ثقافة الهزيمة واعتمادها كمنطلق للتّغيير، لكنّها لم تفعل، واكتفت بتعبير صامت عن ألمها لواقع الفلسطينيّين الذين يستشهدون يوميّا نتيجة الهمجيّة الصّهيونيّة، وذرف دموع المهزوم على الأطفال الذين يموت بعضهم جوعا نتيجة حصار ظالم ويتحوّل آخرون إلى أشلاء بصواريخ العدو، وتستبطن قناعة - نتيجة القصف المستمر من وسائل الإعلام وبعض النّخب المأجورة- بأنّ الكيان سينتصر في النهاية لا محالة، وأنّ المقاومة ربّما أخطأت في مقارعتها الكيان الصّهيوني.
تتبلور أفكار الشّعوب، وتتحدّد رؤاها نتيجة الغذاء الثّقافي الذي تتلقّاه، فإذا فسد هذا الغذاء وغابت القدوة، فسدت المطامح وتبلّد الفكر، فتتولّد ثقافة الهزيمة التي تخلق اللاّمبالاة، وتتفشّى حالة من عدم الانتماء لدى شرائح واسعة من الجماهير، ويتربّى في أحضانها التّقاعس والنّفاق. لقد أصبحت هذه الثّقافة واقعا ملموسا عربّيّا وإسلاميّا يمكن تشخيصه من خلال أعراض العطالة وموت الفعل والرّكون إلى الصّمت وانعدام الفاعليّة. 
هذه الثّقافة نلمسها في الشّارع والسّوق والإدارة، وفي المؤسّسات التّربويّة، وأماكن العبادة، وبرامج وسائل الإعلام، والمسرح والسّينما والرّوايات، والأغاني، من أهمّ صفاتها أنّها ثقافة تابعة،«مغلوبة»، فاقدة للأصالة، تستمد قيمها من الثّقافة «الغالبة»(3)، عاجزة عن أي خلق أو إبداع. وهي فاقدةٌ للإرادة والمبادرة، عاطلةٌ عن الفعل الحرّ المستقل، منزوعة من كلّ سلاح. وهي ثقافة «قَدَريّة» يائسة، لا حول لها ولا قوّة، تؤمن بخنوع واستكانة وتذلّل بأنّ قدر الإنسان العربي أن يعيش تابعا لا متبوعا. وهي ثقافةٌ نفعيّةٌ فردانيّةٌ أنانيّةٌ، تسعى للكسب الخاصّ، ولا تأبه بالكسب العام، ترفض مفردات مثل الثّورة والغضب الشّعبي وإرادة التّحرّر بالكامل وتحاصرها؛ 
وفي علاقة بالقضيّة الفلسطينيّة، تكرّس هذه الثّقافة الاستسلام لدولة الاحتلال التي يتمّ تصويرها على أنّها قوّة لا تقهر، وأنّ داعميها يديرون العالم بأسره ويتحكّمون في مصيره بالسّلاح تارة وبحقّ الفيتو تارة أخرى، الأمر الذي يخلق نوعا من اللاّمبالاة تجاه القضيّة، وقبولا بالأمر الواقع، فيصبح دعم المقاومة لا مبرر له، والتّعبير عن رفض ما يحصل في فلسطين لا فائدة ترجى منه.  
 2 - غياب الحرّية والعدالة
ليس هناك ما يفسّر التّناقض بين تعاظم زخم التّجمعات والمظاهرات المندّدة بالكيان الصّهيوني وبجرائمه في غزّة لدى شعوب الدّول الغربيّة وأمريكا وانحساره لدى شعوب الدّول العربيّة والإسلاميّة سوى حالة الحرّية التي يعيش فيها المواطن الغربيّ وتشبّعه بمبادئ الدّيمقراطيّة والعدالة، التي أصبحت جزءا من ثقافته، وبالرّغم من محاولات تدجينه من طرف النّخب السّياسيّة والإعلاميّة الموالية للكيان الصّهيوني، فهو سرعان ما ينهض للتّعبير عن رفضه لخيارات حكوماته بمجرّد اكتشافه للحقيقة، ليتحوّل ذلك الرّفض إلى حراك يومي يتنامى باستمرار ويتعاظم. 
أمّا نحن شعوب الدّول العربيّة والإسلاميّة، فإنّنا لا نعرف معنى الحرّية ولا نعيشها، ولم نؤمن في يوم من الأيام بالدّيمقراطيّة الحَقّة والعدالة والمساواة، ولم نتشبّع يوما بمبادئها، لذلك فنحن نتحرّك بدافع العاطفة،لا غير، نتألّم لما نراه في التّلفاز وعلى مواقع التّواصل الاجتماعي، فنهيج ونزمجر، ولكن سرعان ما يهدأ هذا الهيجان وتنطفئ شعلته، ونعود إلى مشاغلنا اليوميّة، فلا تسمع لنا ركزا. 
إنّ من يراجع تاريخ نهضة الأمم والشّعوب يكتشف أنّ وراءها إيمانًا بفكرةٍ ورغبةً في تحقيقها.هذا الإيمان وهذه الرّغبة لا يجتمعان إلاّ في إنسان متشبّع بالحريّة. فالحرّية هي القاسم المشترك بين أغلب الأمم التي تمكّنت من بناء نهضتها، لأنّ الحرّية على المستوى الفردي والجماعي هي أساس قويّ وحيويّ للعمل والإبداع، فالقدرة على العطاء تتناسب طرديّا مع وعيّ الإنسان وشعوره بحرّيته، فكلّما كان الإنسان حرّا كانت قدرته على التّفكير في التّغيير ومن ثمّ الإبداع والابتكار والرّغبة في تحسين العمل والأخذ بزمام المبادرة أكبر. أمّا الإنسان المسلوبة حرّيته فهو عاجز حتّى عن تسيير أموره الشّخصيّة، فما بالك بالمساهمة ضمن المجتمع في عمليّات التّغيير أو مساندة الشّعوب المضطهدة في دفاعها عن حقّها في تقرير مصيرها. يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾(النحل:76)، فكيف نطلب من إنسان مسلوب الحرّية، غير راغب في افتكاكها (نتيجة ثقافة الهزيمة)، أن يضحّي حتّى بالقليل (التّظاهر والتّنديد) من أجل حرّية الفلسطينيّ، بالرّغم من روابط الدّين واللّغة والجوار التي تجمعهما؟ 
3 - العقليّة الوطنيّة أو القُطْريّة
برزت العقليّة الوطنيّة أو القُطريّة مع بناء الدّولة الوطنيّة بُعيد الاستقلال السّياسي للدّول العربيّة، وهي عقليّة مخالفة للعقليّة القوميّة والعقلية الإسلاميّة في آن، وهي في كثير من الأحيان معادية لها. تؤمن العقليّة الوطنيّة(القُطريّة) بسيادة كلّ دولة عربيّة على ترابها وفي اختيار طريقة عيش شعبها.
لا يكمن الخطر في قيام الدّولة القطريّة في حدّ ذاتها أو تبنّي العقليّة الوطنيّة(القُطريّة) لبناء الدّولة، وإنّما المشكل في كون هذه العقليّة - بتحريض شيطاني وتوجيه من أعداء الأمّة - تؤدّي إلى الانكماش على الذّات والاهتمام بالمشاغل القطريّة على حساب القضايا الرّئيسيّة للأمّة، ومنها قضيّة فلسطين، والأخطر من ذلك أنّها تتحوّل إلى مفاعل لمعاداة الأقطار العربيّة الأخرى يصل في بعض الأحيان إلى الصّراع العسكري وقطع العلاقات، خاصّة وأنّ العديد من الدّول القطريّة في الوطن العربي تأسست كأوعية شبه فارغة، لأنّها بنيت على أسس ضعيفة وبقيادات موالية لقوى الاستكبار. وبدلاً من بناء المؤسّسات الدّيمقراطيّة وترسيخ مفاهيم المواطنة والهويّة الوطنيّة دون قطيعة مع مفهوم الانتماء إلى الأمّة العربيّة والاسلاميّة، استعيض عن ذلك بأنظمة وفيّة لتبعيّتها لقوى الاستكبار فرضت الاستقرار الأمني بالقوّة وبشكل مصطنع، وحرصت على صبغ مجتمعاتها بالعقليّة القطريّة، وعلى تكديس الأسلحة والإستقواء بالأجنبي في مواجهة جيرانها من الأقطار العربيّة عوضا عن الاتجاه إلى التّعاون والاستثمار المشترك معها لحلّ المشاغل الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تعيشها هذه الدّول. النّتيجة مزيد من التخلّف والفشل والأزمات أدّت إلى إنكفاء شعوب هذه الدّول على حالها، كلّ همّ أفرادها بحث عن لقمة عيش وشغل يضمن الاستمرار في الحياة، فانحسر - بدفع ثقافي إعلامي وأمني من الأنظمة- اهتمامها بالقضايا الكبرى للأمّة وعلى رأسها قضيّة فلسطين. على عكس الكيان الصّهيوني وقوى الاستكبار الدّاعمة له، التي لا تستهدف الفلسطينيين فحسب بل الأمّة الاسلاميّة جمعاء، وهي تسعى بجميع الأساليب لتكريس التّفرقة بين الشّعوب العربيّة وتعميق أزماتها وتلهيتها، لأنّها تعلم جيّدا أنّ بقاء الكيان مرتبط ببقاء حالة التّشتت والتّشرذم والتّناحر بين الأقطار العربيّة نفسها.
هذه أهمّ ثلاثة أسباب، في تقديرنا، تقف وراء غياب دعم الشّعوب العربيّة لإخوانهم في غزّة خصوصا وفلسطين عموما، علينا أن نبحث لها عن حلول إذا ما أردنا الخروج من حالة العجز واللاّمبالات التي نعيشها
الهوامش
(1) نكتفي هنا بالتّذكير بهزائم العرب مع الصّهاينة في سنتي 48 و67 والغزو الصّهيوني للبنان في 1982 والغزو الأمريكي للعراق في 2003
(2) نكتفي هنا بالتّذكير بانتصار مصر في 1973 الذي سرعان ما تحوّل إلى هزيمة بعد اعتراف مصر بإسرائيل في اتفاقية «كامب ديفد» المشؤومة، وثورات الرّبيع العربي التي كانت انتصارا على الدكتاتوريات لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى خريف موحش سقطت معه أوراق الحرّية والديمقراطيّة والكرامة، ودخلت على إثره دول كسوريا واليمن في دوامة من الارهاب والقتل والدمار
(3) كان ابن خلدون أول من لفت الأنظار إلى ثقافة الهزيمة، وخصّص لها فصلا في مقدّمته تحت عنوان « في أنّ المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»، حيث أشار إلى أنّ لها لغة ومفردات ومصطلحات، تبرز خاصّة في ممارسات النّخب السّياسيّة والثّقافيّة والدّينيّة والمجتمعيّة، فاعتبر التّطبيع الثّقافي والسّياسي من أبرز تجليّات سيطرة ثقافة الغالب على المغلوب وهيمنتهافي مفردات الحياة، بحيث تقوم العلاقة بينهما على أساس تبعية وتقليد وإذعان المغلوب للمنتصر، وما يتبع ذلك من سلسلة انكسارات متتالية