الأولى

بقلم
فيصل العش
...وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ...
 مع احتدام الصّراع في غزّة بين قوى المقاومة وجيش الكيان الصّهيوني، وتمادى الصّهاينة في غيّهم وتدميرهم وجوه الحياة في القطاع بقتلهم الأطفال والنّساء وتخريب ممتلكات الغزّاويين من مبان وأراض زراعيّة، يزداد حزننا وألمنا كمسلمين لحال إخوتنا في فلسطين، وعجزنا عن مساعدتهم على وقف العدوان عليهم، وتضيق صدورنا وتتسرّب إلى قلوبنا مشاعر الهزيمة، لكنّ عقولنا تأبى قبول ذلك، فنهرع إلى كتاب اللّه نتدبّر آياته ونبحث فيها عن بشائر تعدّل مشاعرنا وتجعلنا نأمل بغد أفضل، فنعمل من أجل الوصول إليه، ألم يقل اللّه عزّ وجل: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾(الإسراء:9)؟.. فتدبّر سور القرآن وآياته يجعلنا نهتدي حتما إلى أقوم السّبل التي  تخرجنا ممّا نحن فيه، ويبشّرنا إن عملنا الصّالحات (أي كلّ عمل لا يدخل في خانة الفساد في الأرض) أن يكون لنا أجر كبير في الدّنيا وذلك بالنّصر والعزّة والحياة الكريمة، وفي الآخرة بالفوز بالجنّة والنّجاة من النّار.
وفي علاقة بموضوعنا، أي بالصّراع مع الكيان الصّهيوني، يحمل القرآن الكريم في دفّتيه الكثير من السّور والآيات التي تحدّثنا عن اليهود وعن بني إسرائيل، لكنّ سورة «الإسراء» هي أكثرها التصاقا بموضوعنا وأهمّها من حيث المبشّرات القرآنيّة.
نزلت سورة «الإسراء» في السّنة العاشرة للبعثة أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، أي قبل أن يكون هناك أيّة علاقة أو صلة بين المسلمين الذين كانوا يومئذ مُستضعفين ومضطهدين بمكّة، واليهود الذين كانوا يسكنون المدينة، ومع ذلك أخبر اللّه عن إسرائه برسوله ﷺ في آية واحدة أوّل السّورة، ثمّ انقطع بعدها الحديث عن الإسراء جُملة إلى آخرها، ليخصّص عدد من آيات في بداية السّورة وفي آخرها لبني إسرائيل والإخبار عن إفسادهم في الأرض ممّا لم يذكر في سواها من قصص بني إسرائيل في القرآن الكريم، لدرجة أنّها كانت تسمّى أيضا بسورة «بني إسرائيل»(1)، فما السرّ في ذلك ونحن نعلم أنّ بني إسرائيل لم يذكروا في السّور المكيّة- على عكس السّور المدنيّة- إلاّ بمقدار ما تُساق العبرة من مواقفهم من موسى ووصاياه، وموقفهم من فرعون وجنوده؟ وما علاقة الآية الأولى بما يليها من آيات؟
قال سبحانه وتعالى:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ...﴾(الإسراء : 1) حدّث اللّه في هذه الآية عن هذا الإسراء بأنّه انتقال من مسجد إلى مسجد،ولم يقُل من «مكّة» إلى «بيت المقدس» كما هُو الحال، إذ الكعبة يومئذٍ لم تكن مسجداً، وإنّما كانت بيتاً توضع فيه الأصنام، ويطوفُ به المشركون، ولم تكن بيت المقدس مسجداً، وإنّما كان بيتاً يأكل بنو إسرائيل من حوله السُّحت ويعيثون الفساد، وهذا  تبشير للمسلمين وإشارة من اللّه عزّ وجلّ بأنّ أمرهم سيعلو ويتمّ، بحيثُ يُصبح البلد الذي استُضعفوا فيه وهانوا وحُلّت حُرماتهم فيه «مسجداً حراماً» ودار أمن وإسلام، ليس هذا فحسب بل سيمتد نُفوذه وضياؤه بحيثُ يصل مدينة القدس، ويُصبحُ فيها مسجدا تشدّ إليه رحال المسلمين، فهم أولى به (إِنْ أَوْلِيَاؤهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ)»(2) ..   
ويرى الدّكتور سامي العريان(3) أنّ السّورة جاءت لتضع إطارا مهمّا لعلاقه فلسطين بالإسلام والمسلمين، ففلسطين استمدّت قدسيّتها الحقيقيّة وأهمّيتها الدّينيّة والرّوحيّة من رحلة الإسراء، ففي هذه الرّحلة جمع اللّه بين مسجدين «المسجد الحرام» و«المسجد الأقصى»، فما مدلول هذا الجمع؟ وأيّة علاقة بما جاء في الآيات التي تلت آية «الإسراء»؟.
يقول تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا * إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾(الإسراء:4-9)
نشير بدءا، أنّنا لسنا مختصّين في تفسير آيات القرآن الكريم، لكنّنا نرفض تأويل النّصّ بالتّشهي(توجيه للآيات القرآنيّة المدروسة نحو قصد يتناغم مع آمالنا في التّحرّر من الاحتلال الصّهيوني)، وأنّنا نرجّح فهما على فهم بما نراه أقرب إلى قلوبنا وعقولنا، ويناسب وضعنا وموضوعنا الذي نحن بصدد معالجته، فنقترحه على القارئ الكريم، غير مدّعين التّأويل الصّحيح للآيات، ولا التماهي مع مراد اللّه سبحانه منها، فلا يعلم التّأويل الصّحيح للآيات إلاّ اللّه: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ...﴾(آل عمران:7).
استقصى شيخ الأزهر السّابق محمد طنطاوي، في بحثه حول بني إسرائيل في القرآن والسّنة؛ أقوال المفسّرين الأوائل في الموضوع، وخلص إلى اتفاق المفسّرين لهذه الآيات الكريمة،على أنّ مرّتي إفساد بني إسرائيل في الأرض كانتا قبل الإسلام. وأنّ العباد الذين سلّطهم اللّه عليهم ليذلّوهم عقب إفسادهم الأول هم «جالوت وجنوده»، وبعد إفسادهم الثّاني هم «البابليّون بقيادة بختنصر»... وآثر طنطاوي  أن يكون المسلّط عليهم بعد إفسادهم الثّاني هم الرّومان بقيادة تيطس»(4).
أمّا المعاصرون فإنّهم اتفقوا على أنّ الإفساد الثّاني هو ما نعيشه اليوم من طغيان للصّهاينة المجرمين وما اقترن به من إفساد وإهلاك للحرث والنّسل، وأنّ المسلمين الرّبانيّين هم المرشّحون للقضاء على اليهود، لكنّهم انقسموا إلى فرقتين في تحديد زمان الإفساد الأول، فالبعض اتفق مع الأوائل في أنّه حصل قبل البعثة المحمّدية(5) والبعض الآخر اعتبر حصول الإفساد الأول كما الثّاني بعد البعثة(6). وقد أرجع المعاصرون إجماع المفسّرين الأوائل على أنّ الإفسادين حصلا قبل البعثة كونهم «كانوا يعيشون في نظام إسلامي قائم... وقد نظروا في اليهود.. فإذا هم مجموعات من الأفراد المشتّتين الأذلاّء الضّعاف، لا يتصوّر أن يكون لهم كيان في المستقبل، ولا أن يقع منهم علو وإفساد في الأرض... ولهذا توجّه هؤلاء إلى التّاريخ اليهودي القديم، فاستقرؤوه، وبحثوا فيه عن الإفسادين المذكورين، فقالوا ما قالوا»(7).
فما هي حجج المعاصرين في ترجيح حصول الإفسادين بعد البعثة؟
الحجّة الأولى: أنّ نظم الآيات يأبى أن يكون القوم المسلّطون على اليهود في المرّة الثّانية غير المسلّطين عليهم في الأولى؛ فإنّ قوله تعالى:﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ... ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ...فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ...﴾يدلّ على أنّ القوم الذين سلّطهم اللّه على اليهود هم أنفسهم في المرّتين، يدلّ على ذلك قوله تعالى ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ...﴾فمن دخل المسجد أوّل مرّة هم أنفسهم من يدخله في الثّانية.
الحجّة الثّانية: أنّ الأوصاف التي أسندتها الآيات للذين سيسلّطهم اللّه على بني إسرائيل لا تنطبق على من ذكره المفسّرون الأوائل(بختنصر أو غيره)، لأنّ اللّه استعمل في خطابه كلمة (عباداً) وأضافها إليه بلام الاختصاص: (لنا)، وهذا يوحي بأنّ الذين سيزيلون إفساد اليهود هم من المؤمنين الرّبانيّين... وتوحي كلمة (لنا) -كما يرى الخالدي - بمزيد من التّكريم الرّباني لهؤلاء العباد المؤمنين، فهم عباد للّه خالصون له (8). 
غير أنّ البعض(9) يرى أنّ وصف العبوديّة مضافاً إلى ذات اللّه لا يُختَصّ به العبادُ المؤمنون، بل يُوصَف به أيضاً المشركون والكافرون. والمتأمّل في كتاب اللّه يجد أنّ اللّه وصف الوثنيّين بالعبوديّة، وأضافهم إلى نفسه كما في قوله تعالى: ﴿أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾(الفرقان:17)، لكنّ نسق سورة الإسراء يميل كفّة الحجّة الأولى، خاصّة إذا ربطنا هذه الآيات بالآية الأولى التي جاء فيها: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدهِ...﴾أي الرّسول محمد ﷺ. فطبيعة انتساب الرّسول إلى اللّه في الآية الأولى (تكريما وتبجيلا) هي نفسها بالنّسبة لعباد اللّه في بقيّة الآيات.   
الحجّة الثّالثة: أنّ اللّه سبحانه وتعالى ذكر في آخر السّورة: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا...﴾(الإسراء: 104) ووعد الآخرة أي عقاب الإفساد الثّاني أي الوعد الثّاني والأخير، فلا يتحقّق هذا الوعد إلاّ بعد أن يأتي اليهود إلى فلسطين لفيفا، و«اللَّفِيفُ : ما اجتمع من النّاس من قبائل شتَّى، أَو من أَخلاط شتَّى ، فيهم الشَّريفُ والدّنئ، والمطيعُ والعاصي، والقويُّ والضّعيف : مجتمعين مختلطين»(10)، وهذا ما نراه تحقّق اليوم، جاؤوا من بريطانيا ومن أوروبّا الغربيّة والشّرقيّة ومن روسيا ومن الهند ومن الصّين ومن دول القارّة الأمريكيّة ومن استراليا ومن كلّ الدّول العربية، لم يكن هناك بلد تواجدوا فيه من قبل إلاّ وجاؤوا منه، هذا لم يحدث في التّاريخ منذ أن تشتّتوا في الأرض. 
الحجّة الرّابعة: في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ...﴾(الإسراء: 6) ،تقتضي (ثُمّ) في العطف تراخياً في الأجل فقد رُدّت لليهود (الكَرَّة) بعد قرون طويلة، وأُمدّوا بثلاث، ما أُمدّوا بمثلها في تاريخهم: الأموال (وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ): التي تتدفّق عليهم من جميع أقطار الأرض، بل أنّ اليهود أصبحوا يتحكّمون في سوق المال ويملكون البنوك ويتحكّمون في المؤسّسات المالية العالميّة، والبنين (وَبَنِينَ) و(وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا): ليس من حيث العدد، وإنّما من حيث القدرة  على استنفار العالم وحشده لصالح مشروعهم الاستيطاني، فلم يتمتع اليهود في تاريخهم، ولا أمّة في الأرض غيرهم، بمثل ما يتمتّعون به من كثرة النّاصرين لهم والنّافرين لنجدتهم، إذا غضبوا غضبت لهم أمريكا وانجلترا وفرنسا وأمم الغرب جميعاً، وإن دعوا أجابهم الظّالمون وتنادوا لنصرتهم(11). 
وفي الآية إشارة واضحة بأنّ ما ذهب إليه المفسّرون الأوائل بعيد عن الصّواب، فلم يذكر التّاريخ أنّ اليهود أصبحت لهم قوّة، وارتدت لهم بذلك الكرّة على الرّومان ولا على الفرس، ولا على الذين ذكرهم المفسّرون.وهذا يرجّح التّأويل الذي يرى أنّ فساد اليهود وإفسادهم المذكور في سورة الإسراء حدث مرّتين بعد البعثة، وأنّ تأديب اللّه لهم كان في الأولى على عهد رسول اللّه ﷺ وأصحابه، بعد أن أفسد اليهود في المدينة، بنقضهم لعهدهم مع رسول اللّه ﷺ في ساعة العسرة (حصار المدينة في غزوة الأحزاب)، عبر تهييجهم لقريش وغطفان والقبائل العربيّة وفتحهم ديارهم لهم، وانضمامهم إليهم قصد القضاء على رسول اللّه ﷺ ودعوته وأتباعه، وفي الثّانية التي نعاصرها اليوم ونعيش مآسيها على يد عباده المسلمين، بعد أن أصبح لليهود كيان مزوّد بكلّ وسائل التّدمير والإرهاب والاستعلاء. لكن ما جاء في قوله تعالى: ﴿... وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾(الإسراء:7)، يضعنا أمام إشكال في دخول المسجد مرّتين في الأولى والثّانية، فالضّمير في قوله تعالى:﴿لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ...﴾ عائد بالضّرورة على العباد أولي البأس الشّديد الذين جاسوا خلال الدّيار في المرّة الأولى؛ وقوله تعالى: ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يدلّ على أنّهم دخلوا المسجد في المرّة الأولى أيضاً، فهل سُلّط المسلمون يوماً على بني إسرائيل في فلسطين، ودخلوا المسجد من قبل؟ هذا ما لم يحدث في التّاريخ، فكيف إذن سيكون المسلمون هم المسلّطين على بني إسرائيل في مرّة إفسادهم الثّانية، وهم لم يسلطوا عليهم في الأولى؟
لتجاوز هذا الاعتراض ادّعى أصحاب هذا التّأويل أنّ المسلمين دخلوا المسجد الأقصى أوّل مرّة في الامتداد الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، لكنّ المسجد الأقصى أيام عمر بن الخطاب لم يكن تحت سيطرة بني إسرائيل وحكمهم؛ فكيف يكون دخوله عقوبة لهم، وأمارة انتصار عليهم؟
وسواء أصاب المفسرون الأوائل أوالمعاصرون منهم أم أخطؤوا، في تحديد من سيقوم بتأديب اليهود بعد الإفساد الثّاني، فإنّ الآية التي تلي حسمت الأمر، حيث يقول تعالى : ﴿...وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا  ...﴾(الإسراء: 8)، أي كلّما أفسد اليهود وعلوا في الأرض، وخالفوا سنّة اللّه إلاّ وبعث اللّه عليهم من يسوء وجوههم ويتبّر ما علوا تتبيرا. هذا وعد اللّه الحقّ وسنّة من سننه ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا ولا تحويلا.
نحن نعيش اليوم إفسادا صهيونيّا ما بعده إفساد، يشاهده العالم على شاشات التّلفاز في المباشر. تدميرٌ للمباني والطّرقات وتخريبٌ للأراضي الزّراعيّة وتجريفها، وقتلٌ للمدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وتشريدهم، وحرمانُ النّاجين منهم من الماء والطّعام والدّواء، تنكيلا بهم وإذلالا لهم. هذا الإفساد لم يبدأ اليوم بل منذ ثلاثينيّات  القرن الماضي.  ولأنّ اللّه قال، وقوله الحقّ، : ﴿...وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا  ...﴾، فإنّ العقاب آت بلا شكّ وزوال حكم الفاسدين سيتحقّق لا محالة. وما يهمّنا هنا هو كيف يمكن أن نكون نحن من يختارهم اللّه لإنهاء حكم الصّهاينة الملعونين؟ وكيف السّبيل إلى ذلك؟ وكيف نجعل من تدبّرنا لسورة الإسراء دافعا للمقاومة والتّصدّي للمشروع الصّهيوني الذي يهدّد جميع المسلمين بل النّاس أجمعين، ولا نسقط في التّواكل وانتظار نصر اللّه مادام النّصر حتمّيا وزوال حكم اليهود قضاء من اللّه؟ 
الهوامش
(1) وردت تسمية سورة « الإسراء» بسورة « بني إسرائيل» في حديثين صحيحين موقوفين من كلام الصّحابة رضوان اللّه عليهم :
الحديث الأول : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي اللّه عنه قال في بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطه وَالْأَنْبِيَاءُ : «هُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي»
رواه البخاري (4994)، والحديث الثاني : عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ  لا يَنَامُ حَتَّى يَقرَأَ بَنِي إِسرَائِيلَ وَالزُّمَر» رواه الترمذي (3402)،  وقال المؤرخون بأنّ تسمية السّورة بسورة « بني إسرائيل» كانت هي الأشهر في عهد الصّحابة والتّابعين.
(2) أنظر  الشيخ عبد المعز عبد السّتار (رحمه الله)، مجلّة «الأزهر»، الجُزء 6– عدد غرّة جُمادى الآخرة 1376هـ - 2 جانفي 1957م – المجلد  28 
(3)  الدّكتور سامي العريان مؤسّس مركز الإسلام والشّؤون العالميّة (CIGA) في جامعة إسطنبول ومديره، من مواليد 14 جانفي 1958 بالكويت، ناشط سياسي فلسطيني، كان أستاذا لهندسة الكمبيوتر في جامعة جنوب فلوريدا، فُصل من مهامه وحوكم في أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بتهمة الابتزاز لصالح حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين،  احتُجز رهن الإقامة الجبريّة في شمال فيرجينيا من عام 2008 حتّى عام 2014، ثمّ تمّ ترحيله إلى تركيا في 4 فيفري 2015. 
(4) محمد سيد طنطاوي، «بنو إسرائيل في القرآن والسّنة»، ط. دار الشّروق، القاهرة، ط2، (1420هـ/2000م)، ص667-673 بتصرّف.
(5) كالشّيخ متولّي شعراوي  في «تفسير الشّعراوي: الخواطر»، نشر مطابع أخبار اليوم،  14/8366، والأستاذ عبدالكريم الخطيب في كتابه اليهود في القرآن.
(6) كالشيخ عبد المعز عبد الستار من علماء الأزهر، في مقال له نشر بمجلة الأزهر، بعنوان «سورة الإسراء تقصّ نهاية إسرائيل»، والشيخ أسعد بيوض التميمي في كتابه «زوال إسرائيل حتمية قرآنيّة»، والدكتور محمد هلال في كتابه «الإسراء وإسرائيل»مؤسسة الرسالة ط.1، 1997، والدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي في كتابه «الشّخصيّة اليهوديّة من خلال القرآن»،دار القلم دمشق ط.2-2013، والدكتور سامي العريان (خريطة تفكيك إسرائيل وعودة العالمية الإسلامية الثانية | بودكاست الشّرق24-02-2024
(7) د.صلاح عبد الفتاح الخالدي ، «الشّخصيّة اليهوديّة من خلال القرآن»،دار القلم دمشق ط.2-2013،ص330
(8) نفسه، ص339.
(9) د. الحسين بودميع، «هل في القرآن تنبؤ بنهاية الكيان الصهيوني ؟» مجلّة البيان العدد 361. رمضان 1438 هـ / ماي - جوان 2017 م
(10) معجم المعاني الجامع:   https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar
(11) رأيناها بأم العين عندما جاء طوفان الاقصى كيف هرع كل العالم لمساندة الكيان  فوفّروا له السلاح والدّعم  الدّبلوماسي والسّياسي والعسكري والتّكنولوجي والإعلامي، هذا هو معنى ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ...﴾