الأولى

بقلم
فيصل العش
أي دور لتجار السلاح في استمرار العدوان على غزة؟
 مقدّمة
لم يبق في غزّة بيت إلاّ ودُمّر وشجر إلاّ وجرف وإنسان إلاّ وقتّل أوشرّد، ورغم بشاعة الجرم الصّهيوني الذي تجاوز كلّ الحدود، فإنّ حكومات العالم الغربي الذي يدّعي التّحضّر لا تزال تمدّ يد العون لهذا الكيان الغاصب بالمال والعتاد، وتحثّه على مواصلة عدوانه ومزيد التّدمير والتّخريب، ولا تزال الأنظمة العربيّة،   خاصّة القريبة من ميدان الصّراع،  تعتمد سياسة النّعامة، فلا تحرّك ساكنا تجاه ما يحدث في غزّة ولا تمدّ يد العون للفلسطينيين تآمرا مع الكيان أو خوفا من أن يحلّ عليها غضب الأمريكان والصّهاينة ومكوّنات محور الشّر الأخرى.
هناك العديد من الأسباب لاستمرار الكيان في جريمته وتحالف محور الشرّ وأغلب الأنظمة العربيّة معه، منها القضاء على المقاومة العسكريّة لضمان وأد المقاومة الثّقافيّة التي قد تتسرّب لشعوب المنطقة، فتتطبّع بها، ممّا قد يؤدّي إلى حدوث تغيير لا تحبّذه مكوّنات محور الشّرّ  وتخشى وقوعه، ومنها الحفاظ على الكيان الصّهيوني كقوّة ردع في المنطقة، وبالتّالي ضمان الهيمنة على شعوبها واستنزاف خيراتها وثرواتها بأسهل السّبل، ومنها ما هو ديني، فاليهود الصّهاينة يريدون تنفيذ مخطّطهم الإجرامي لتهويد القدس وهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان كما يدّعون. غير أنّ  الباحث في عمق المسألة وخفاياها يكتشف سببا رئيسيّا آخر لا يقلّ أهمّية ولكن نادرا ما يتمّ التحدث عنه، ويتعلّق بسوق تجارة الأسلحة، فما هو حجم مساهمة هذا السّوق في تأجيج العدوان الصّهيوني على قطاع غزّة واستمراره في الزّمان؟  
محور الشرّ وسوق تجارة الأسلحة 
يعيش العالم أزمة إقتصاديّة حادّة منذ سنوات، لكنّ هذه الأزمة لا تنسحب على سوق تجارة الأسلحة، فالأخيرة عادت لتعيش أيّامها الذّهبيّة منذ عام 2021. وحسب تقرير لمعهد ستوكهولم الدّولي لأبحاث السّلام «سيبري» (SIPRI)ا(1)، فقد ارتفعت مبيعات الـ 100 شركة الأولى لتصنيع الأسلحة في العالم بنسبة 1.9 % خلال 2021 مقارنة مع العام 2020. ووفق تقرير نفس المعهد، فقد حقّقت هذه المجموعة من الشّركات مبيعات بقيمة 597 مليار دولار في 2022. وعندما نلقي نظرة سريعة على سوق السّلاح لنتعرف على القوى المتحكّمة فيه، نكتشف أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة وروسيا وفرنسا والصّين وألمانيا هي أهم خمس دول مصدّرة للأسلحة في العالم حسب حجم الصّادرات، وتحتلّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة رأس القائمة كأكبر بائع أسلحة في العالم، حيث هيمنت على تصدير الأسلحة بنسبة 40 % من إجمالي مبيعات الأسلحة الدّولية، فيما يحتل الكيان الصّهيوني المرتبة التّاسعة عالميّا في تصدير الأسلحة، وتتصدّر خمس شركات أمريكيّة قائمة كبرى الشّركات المنتجة للسّلاح في العالم، تليها  شركة (BAE) البريطانيّة.
الواضح للعيان هيمنة محور الشرّ المدعّم للكيان الصّهيوني الذي تحدّثنا عنه في مقال سابق(2) على سوق تجارة الأسلحة، لكن ما حقّقته شركات السّلاح الصّهيونيّة والأميركيّة من أرباح طائلة من جرّاء استمرار الحرب على غزّة بعد 7 أكتوبر 2023، يؤشّر إلى تقاطع مصالح هذه الشّركات مع مصالح اليمين المتطرّف الصّهيوني، ويجعله أحد الأسباب الكامنة وراء استمرار العدوان والوصول به إلى منتهاه. 
لا يتوقّف هدف شركات الأسلحة الصّهيونيّة والأمريكيّة من استمرار العدوان على غزّة وتقوية وتيرته عند جني الأموال الطائلة من جرّاء بيع السّلاح للجيش الصّهيوني فحسب، بل يتعدّاه إلى تحقيق فوائد أخرى من بينها تجربة منتجاتها والدّعاية لها، فوسط المآسي الإنسانيّة والدّمار الذي يحلّ بالفلسطينيّين وممتلكاتهم من جرّاء تلك الأسلحة، تراقب الشّركات المنتجة فعّالية منتجاتها الجديدة على الأرض، من أجل إدخال بعض التّحسينات عليها من جهة وتقديم أدلّة حيّة لممثّلي الدّول التي ترغب في شرائها، بدلا من تجريب السّلاح بميادين المناورات التّقليديّة من جهة أخرى.
قطاع غزّة حقل تجارب 
وقتل الفلسطينيين دعاية مجانية
ففي كلّ مرّة يشنّ فيها الكيان الغاصب عدوانا على غزّة إلاّ ويستخدم مجموعة جديدة من الأسلحة وتقنيات المراقبة، ثمّ يسوِّقها ويبيعها بالاعتماد على نجاحها في التّجربة الميدانيّة، الأمر الذي جعل من القطاع مختبرا عسكريّا إسرائيليّا وميدانا لإنجاز الدّعاية للتّسويق، فالحرب على غزّة تعدّ أهمّ دعاية مجانيّة للذّخائر الصّهيونيّة والأميركيّة، حيث تقوم شركات الأسلحة بعرض لقطات حيّة لقصف المدنيّين على عملائها حول العالم بكلّ أريحيّة في غياب أيّ ردع دولي. يقول فينشتاين(3) الذي صادف أن رأى شركة «إلبيت سيستمز» أكبر منتج للأسلحة في إسرائيل، تعرض منتجاتها لكبار المشترين العالميين في معرض باريس الجوي الدّولي سنة 2009، عبر ومضة ترويجيّة لطائرات درونز تمّ تجربتها في حروب إسرائيل على غزة والضفة الغربية. وأظهرت اللّقطات التي تمّ تصويرها قبل أشهر قليلة رصدا لفلسطينيّين في الأراضي المحتلة، ثمّ قنصهم واغتيالهم: «لن تجرؤ أيّ دولة أخرى منتجة للأسلحة على عرض مثل هذه المشاهد لتسويق تقنياتها العسكريّة. إن إسرائيل بعيدة كلّ البعد عن الضّوابط الأخلاقيّة من خلال تحدّيها الصّارخ للقانون الدّولي» (4) 
ومنذ حرب إسرائيل على غزّة عام 2008، بدأ الجيش الإسرائيلي بالتّنسيق مع شركات صناعة الأسلحة الإسرائيليّة والأميركيّة ، خطّة لتحويل فلسطين وخاصّة غزّة إلى حقل تجارب لأحدث المنظومات العسكريّة، بهدف بيعها وتحقيق أموال طائلة من ورائها. فقد تمّ اختبار  المسيّرة «إيتان» التي تحمل صاروخ «سبايك» وتصنّعها شركة «IAI» الحكوميّة الإسرائيليّة خلال «عملية الرّصاص المصبوب» أو «معركة الفرقان» كما تطلق عليها المقاومة الفلسطينية (2008-2009)، وقتلت نحو 353 طفلا وأصابت 860 فلسطينيّا. 
وبعد عدواني 2012 و 2014 اللّذين شنّهما جيش الكيان على قطاع غزّة حيث استمر الأوّل ثمانيّة أيّام والثّاني خمسين يومًا، أبرم الكيان عقودا مع  10 دول لبيع تلك الطّائرات المسيّرة وفي مقدمتها الهند (34 مسيّرة)، تليها فرنسا والبرازيل (14 طائرة). كما استخدمت طائرات «هيرميس 450» و«هيرميس 900» المصنّعتين عبر شركة «إلبيت سيستمز» في عدوان 2014، وقتلت 37 % من إجمالي الضّحايا، وفقا لمركز الميزان لحقوق الإنسان بغزّة (5). إثر ذلك، حصلت طائرة «هيرميس 900» على عقود مع أكثر من 20 دولة حول العالم منها الفلبين والهند وأذربيجان وكندا والبرازيل. وتوسّعت سوق صادرات السّلاح الصّهيونيّة لتشمل نحو 130 دولة حول العالم. وبعد معركة سيف القدس (2021) شهدت مبيعات الأسلحة الإسرائيليّة قفزة عملاقة غير مسبوقة، إذ ارتفعت المبيعات العسكريّة بنسبة 55 % مقارنة مع 2020، حيث بلغت 11.3 مليار دولار، كان لأوروبا نصيب الأسد من هذه الأسلحة، تلتها آسيا ودول المحيط الهادئ، وشملت مبيعات الكيان صواريخا وأنظمة دفاع جويّة ورادارات وأسلحة سيبرانيّة. كل هذا أفضى إلى دخول إسرائيل نادي كبار مصنّعي الأسلحة، واحتلالها المرتبة التاسعة بين أكبر الدّول المصدّرة للأسلحة في العالم. 
شركات السّلاح الصهيونيّة: أرباح كبيرة ومؤشّرات في ارتفاع متواصل
تجمع التّقارير المختصّة في تجارة الأسلحة بأنّ مؤشّر بورصة تل أبيب، الذي انخفض 9 % في بداية العدوان على غزّة، سرعان ما ارتفع بفعل الأرباح القياسيّة للشّركات العسكريّة الإسرائيليّة (6)، كما ارتفعت أسهم الشّركات الأميركيّة العسكريّة المدرجة في بورصة تلّ أبيب (7)، بفعل المجازر التي خلّفتها أسلحتها، وهكذا تتحوّل المجازر الدّمويّة بغزّة إلى قفزات عملاقة لشركات الأسلحة في البورصة. 
ولإن ساهمت الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة عبر فرضها تجديد المخزون الأوروبيّ بصناعات عسكريّة صهيونيّة بعد أن أُفرغت جرّاء الحرب من جهة، وساهمت اتفاقيّات تطبيع الكيان مع الدّول العربيّة في خلق سوق جديد وهائل لـ 120 شركة أمنيّة صهيونيّة لبيع منتوجاتها العسكريّة من جهة ثانية، ممّا حقّق قفزة نوعيّة في قطاع صناعة الأسلحة وتصديرها بالكيان الصّهيوني، فإنّ تضاعف الصّادرات العسكريّة الصّهيونيّة خلال عِقدٍ واحد، وارتفاعها خلال الـ 3 سنوات الأخيرة بنسبة 50 % يعود أساسا إلى طريقة تسويق الكيان لمنتجاته التي تميّزه عن غيره من الدّول، والمتمثلة كما ذكرنا سابقا في عرض نتائج التّجارب الميدانيّة (وليس المخبريّة) لهذه المعدّات في الحرب على غزّة، ومدى الدّمار والقتل الذي تحقّقه عمليّا (وليس نظريّا) في ميدان المعركة. 
ختاما
للعدوّ الصّهيوني وحلفائه حساباتهم، وبرغم اختلال ميزان القوى بين الطّرفين، فإنّ للمقاومة الفلسطينيّة كلمتها أيضا، فقد أثبتت المقاومة جدارتها في الدّعاية المضادّة وخذلان الكيان الصّهيوني من خلال الومضات المصوّرة التي تبثّها كلّ يوم تقريبا، ويشاهدها العالم على القنوات التلفزية وعلى  مواقع التواصل الاجتماعي، ولئن كان الهدف منها إثبات صمود المقاومة وبثّ روح الصّبر والانتصار في صفوف الشّعب الفلسطيني والتخفيف من معاناته المستمرة، فإنّها أسقطت بالضّربة القاضية الدّعاية الصّهيونيّة بتميّز أسلحتها، فقد رآى العالم أجمع كيف تُدمّر «الميركافا» التي يُقدّر سعرها بقرابة 7 ملايين دولار أمريكي بصواريخ «الياسين 105» وهو سلاح صنعته المقاومة لا تتجاوز تكلفته 500 دولار فقط، ورأينا كيف يتحكّم المقاوم في المسيّرات الصهيونيّة فيسقطها أرضا أو يسيطر عليها ثمّ يستغلّها ضدّ صانعها، وهكذا ينقلب السّحر على السّاحر. 
يمكر الكيان ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين، ويكيد الصّهاينة للفلسطينيّين كيدا، ولكنّ كيدهم كيد شيطان وكان كيد الشّيطان ضعيفا. يقول تعالى:﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾(الطارق: 15-17).
الهوامش
(1) https://www.sipri.org/databases/armsindustry 
(2) أنظر مجلّة الإصلاح العدد 199 ، «الرابط الخفي...بين دمار غزة و دمار العالم»، ص ص 8-13
(3) خبير دولي في قضايا الفساد وتجارة الأسلحة العالمية ،وسياسي جنوب إفريقي وصحفي ومؤلف
(4) «المختبر الفلسطيني:كيف تُصدّر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال حول العالم» للكاتب الأسترالي أنتوني لوينشتاين، ج1، ماي 2023
(5) www.mezan.org 
(6) سجّلت شركات السّلاح، التي تصنّع البنادق الهجوميّة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي بغزة، أرباحا قياسية لأوّل مرّة منذ 1948، وحققت شركة «أيرودوم غروب» لصناعة المسيّرات أرباحا قياسية لم تسجّل من قبل، وحسب جيسون أيكن، نائب رئيس شركة «جنرال دايناميكس»، فإنّ الحرب الحالية خلقت فرصة بأسواق السلاح لتحقيق الأرباح، بينما حلت قذائف المدفعية في مرتبة أفضل بين طلبيات السلاح. https://www.sipri.org/databases/armsindustry
(7) ارتفعت أسهم شركة «ثيرد آي» بنسبة 83.7 %، وأسهم الشركات التي تزوّد إسرائيل بقذائف المدفعية بنسبة 9.72 %. في حين ارتفعت أسهم «لوكهيد مارتن» الأميركية التي تسلّم طائرات «F-16» و»F-35» وصواريخ «هيلفاير» ومعدات أخرى لإسرائيل منذ عقود، بنسبة 10.65 %. https://www.sipri.org/databases/armsindustry