الأولى
بقلم |
![]() |
م.فيصل العش |
ثلاث عشرة سنة من العمل والعطاء |
(1)
رغم قتامة المشهد العربي وقساوته، ورغم ما تعيشه الشّعوب العربيّة من يأس وإحباط، وفقدان الأمل في المستقبل، ورغم اللآلام والمآسي التي تعصر قلوبنا وتهاجمنا بقسوة نتيجة عجزنا عن تقديم المساعدة لأخوتنا في فلسطين وهم يجوّعون ويشرّدون ويقتلون، ورغم أنّ كلّ شيء حولنا يبدو باهتًا، فاقدًا لألوان الحياة، فإنّ الأمل يبقى قائما في أن يشرق نور الفرج يومًا ما، وأن يتبدّد ظلام الحزن الذي يلفّنا، بل هو حقيقة ووعد صادق من اللّه﴿..سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾(الطلاق:7) إن نحن رفضنا الاستسلام والتّبعيّة وغيّرنا ما بأنفسنا بالاجتهاد والبحث والكدّ والعمل كلّ من موقعه وكلّ حسب اختصاصه، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(الرعد:11) وتوكّلنا على اللّه حقّ التوكّل، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾(الطلاق: 3) لانّ التوكّل على اللّه يمنحنا القوّة التي تجعلنا أكثر قدرة على مواجهة التّحديات والصّعاب وتحمل المسؤوليّة، وتجعلنا أكثر صبرًا وثباتًا. والتوكّل على اللّه ليس مجرّد كلمة تقال، بل هو حالة قلبيّة عميقة، وإيمان راسخ بأنّ اللّه هو المدبّر والميسّر لكلّ الأمور، وهو ناصرنا إن نصرناه بسلوكنا للطريق المستقيم﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَـوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج: 40). هو تسليم الأمر للّه بعد الأخذ بالأسباب، وثقة تامّة بأن اللّه سيختار لنا الخير في كلّ شيء.
والتوكّل لا يعني التّواكل، بل هو بذل الجهد والسّعي في الحياة، وترك النّتائج على اللّه. من هذا المنطلق نواصل نضالنا الفكري وسعينا إلى تنوير العقول والدّعوة إلى العمل والكدّ وعدم التّواكل ورفض الهزيمة وذلك من خلال مجلّة الإصلاح التي أشعلت مع هذا العدد شمعتها الرّابعة عشرة.
(2)
إذن هي سلسلة جديدة نأمل أن ننجح خلالها في المحافظة على استمراريّة صدور المجلّة في مواعيدها والثّبات على المبادئ التي بنينا على أساسها هذا المشروع. ولأنّنا نسعى دائما إلى تقديمها في أحسن حلّة من حيث الإخراج والمضمون، أحدثنا -ككلّ عام- بعض التّجديد على مستوى الشّكل والإخراج الفنّي، وعملنا على أن يكون المحتوى متنوّعا كالعادة يجمع بين مقالات دسمة وأخرى خفيفة، في محاولة لتقديم غذاء فكريّ محترم يليق بقرائنا الأعزّاء في أنحاء المعمورة وطلبا لرضائهم، آملين التّوفيق من اللّه.
ولأنّنا واعون كلّ الوعي بما تتعرّض إليه الأمّة العربيّة الإسلاميّة من غزو شامل على جميع الواجهات العسكريّة والثقافيّة والإعلاميّة والسياسيّة لتدمير ما تبقّى من مقوماتها، وتكريس واقع التبعيّة، ووأد أيّة محاولة للنّهوض، فقد تبنّينا في «الإصلاح» منذ انطلاقتها الأولى خطّا تحريريا يؤكّد على الهويّة ويبرز الخصوصيّة الثقافيّة لأمّتنا التي وازنت بين العقل والوجدان وارتبطت ارتباطا وثيقا بالدّين الاسلامي الحنيف، وذلك في تناسق تامّ مع منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل الذي تبنّى المجلّة والذّي يعرّف نفسه بأنّه منتدى «عروبيّ إسلامي» من أهدافه «تعميق الوعي الجمعي بمعنى الإنتساب إلى العروبة والإسلام وايجاد التّعبيرات الثّقافيّة الكفيلة بتجسيد هذا الإنتساب»الذي يتجسّد من خلال «اعتبار الإسلام (وحيا وتجربة تاريخيّة وأفقا حضاريّا) مرجعيّة تتجذّر فيها البدائل». فدعونا إلى الغوص عميقا في تراثنا للاستفادة من كنوزه التي أخفتها قرون التخلّف والانحطاط، وفتحنا المجال لطرح التّساؤلات حول المعوقات التي حالت دون الانطلاقة الحقيقيّة للإنسان العربي نحو التّقدّم والتّنمية، والتي يتأتى بعضها كنتاج لقراءات خاطئة للتراث وتأويلات مغلوطة لنصوصنا الدّينيّة التي ترتكز عليها ثقافتنا العربيّة الاسلاميّة.
تصدر«الإصلاح» إذن عن خلفيّة عروبيّة إسلاميّة تجديديّة وتنويريّة، ترى أنّ بناء الإنسان الحرّ القادر على الابداع لا يكون بالتنكّر لهويّته والانسلاخ عنها وإنّما بالانطلاق منها والاستفادة من مخزونها الثّقافي والفكري الغنيّ بقيم الإسلام الخالدة وتعاليمه السّمحة.
ولأنّ الحرّية كقيمة إسلاميّة إنسانيّة هي من فطرة الإنسان وهي منطلق حركته ومقصدها، وهي إحدى الدّعائم الأساسيّة في بناء الحضارات وتقدّم الأمم واستقرارها، فإنّ مسألة «الحرّية» كانت ولازالت حاضرة بقوّة في مجلّة «الإصلاح»، وهي بالنّسبة للقائمين على هذه الدوريّة قيمة ثابتة في فلسفة التّكوين وإحدى ركائز عمليّة الإصلاح المرجوّة، وهي في نفس الوقت قيمة مناضلة ومقاومة للانحراف الذي ينخر المجتمعات العربيّة. وبما أنّ ارتقاء الإنسان لاحدّ له يقف عنده، إذ هو سائر من المحدود إلى المطلق، فإنّ الأصل في الحرّية الإطلاق، لهذا أخذت مجلّة «الإصلاح» عهدا على نفسها أن لا تضع حدودا لحرّية الكتابة على أعمدتها، ففتحت صفحاتها لكلّ من أراد أن يعبّر عن رأيه مادام هذا الرّأي لا يدعو إلى عنف أو تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدّين، ولا يتضمّن شتما أو قذفا للآخرين. وفتحت الباب على مصراعيه للذين يسعون إلى بناء فكر جديد يساعد على الخروج من خندق التخلّف والتّبعيّة، ويساهم في إصلاح جذري لثقافة المجتمعات العربيّة عبر مقاومة ثقافة الخوف والرّهبة والاستكانة وثقافة التّواكل والاستسلام وثقافة الكسل ونبذ العمل. إصلاح عميق يقضي على معيقات النّهضة والتحرّر ويؤسّس لمجتمع يكون فيه الإنسان إنسانا بأتمّ معنى الكلمة وتنتشر فيه قيم العدل والحريّة والكرامة. مجتمع يؤمن بالإختلاف والتّنوع ويرفض النّمطيّة مهما كان مأتاها.
(3)
لم تكن المجلّة منبتّة عن واقعها بل كانت وسيلة للتّأثير فيه ومحاولة للرّقي به نحو الأفضل. لهذا أعلنت منذ انطلاقتها على نواياها في المساهمة في التّغيير بأسلوب غير راديكاليّ، فاتخذت من كلام اللّه على لسان النّبي شعيب عليه السّلام ﴿..إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ٱلْإِصْلَاحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ..﴾ (هود:88) شعارا، وجعلت هدفها الأسمى المساهمة مع من يعمل من أجل إصلاح واقع الأمّة المشوه نتيجة عقود الاستبداد والفساد، وذلك بطرح أفكار وازنة بعيدا عن الطوبويّة والتّطرّف، والمشاركة في بلورة فكرة وسطيّة تتفاعل مع محيطها وتقترح عليه الحلول لمختلف مشاكله الفكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والإجتماعيّة. وسعت إلى أن تكون حاضنة لأفكار ورؤى تناضل من أجل مجتمع مبنيّ على التّعاون والتآزر والعيش المشترك في كنف الحريّة والمساواة.
(4)
بدأت المجلّة الكترونيّة وستبقى بحول اللّه كذلك لأسباب عديدة من بينها: أنّ ما يشهده عالم التكنولوجيات من تطور منقطع النّظير وما يوفّره هذا العالم من إمكانيات وتسهيلات لا يوفّرها العالم «الورقي»، فإنّ المستقبل سيكون حتما للدّوريّات الإلكترونيّة. ومن يجد اليوم صعوبة ما في قراءة مقالات المجلّة الإلكترونيّة نتيجة عدم تأقلمه مع عالم التكنولوجيا الحديثة أو رفضه اللاّشعوري لما هو بديل عن الموجود، سيغيّر موقفه حتما في القريب العاجل لأنّ الأدوات المتوفّرة من حواسيب محمولة و«أي باد» وشبكات تواصل إجتماعي وواب وبرمجيّات متطوّرة سهلة الإستعمال، ستمكّنه من ولوج العالم الإفتراضي بسهولة إذا ما توفّرت لديه الإرادة.
ومن مزايا النّشر الالكتروني أنّه يساعد على تخفيض المدّة التي يستغرقها نشر العمل ويفتح المجال أمام عدد كبير من المؤلّفين المبتدئين، وهو مع كلّ هذا قليل التّكلفة ومربح للوقت وسهل التّخزين والتّبويب. ومع الصّعوبات المادّية التي تتعرّض إليها الدّوريات الورقيّة وارتفاع نسبة استعمال الوسائط التكنولوجيّة لدى النّاس، فإنّ الدّوريات الورقيّة ستسير نحو الاندثار والفناء مهما كانت القوى التي تدعّمها وتسهر عليها وستتحوّل عاجلا أم آجلا إلى الكترونيّة.
ولأنّنا نراهن على الشّباب الماسك بتلابيب التّكنولوجيا والكهول الذين يؤمنون بأنّ الأميّ ليس من لا يعرف القراءة والكتابة بل الأميّ هو من لا يعرف كيف يستخدم الحاسوب ويستفيد من جميع الامكانيات التي توفرها التكنولوجيا الحديثة، لأننا نراهن على هؤلاء وهؤلاء فإنّنا سنواصل تحقيق حلمنا «الالكتروني» وسنعمل على تدعيمه.
إذا، بهذا العدد تطفئ مجلّة «الإصلاح» الشّمعة الثّالثة عشرة وتودّع عاما من حياتها وتستقبل آخر، لتستمرّ المسيرة بحول اللّه بمزيد من الحماس والإصرار، آملين أن تكون مجلّة «الإصلاح» ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ ولا تكون ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾. |