أهل الاختصاص
بقلم |
![]() |
أ.د. ناصر أحمد سنه |
أدمغة الرّخويات المُحيّرة |
يبلغُ متوسّط وزن دماغ الإنسان البالغ 1,2-1,4 كغ (نحو 2 % من وزن جسمه)، ويتلقّى ما يعادل 15 % من نتاج التّروية الدّمويّة. ويستهلك ما بين 20-30 % من السّعرات الحراريّة المتولّدة يوميّاً، ليؤدّي عمليّاته الحيويّة، وهيمنته على أنشطة الجسم. فماذا عن أدمغة الرّخويات وحجمها؟، وهل تقوم بعمليّات حيويّة، وقدرات إستراتيجيّة، ومهارات سلوكيّة (ذكيّة) تقارب ذكاء الإنسان؟ّ. وبخاصّة أنّ حجم جينومها يماثل حجم الجينوم البشري!، ممّا أدّى إلى إجراء دراسات على أدمغتها (الحبار) لفهم ـ أفضل ـ لكيفيّة عمل أدمغتنا، ولإيجاد علاج لمرض الزّهايمر.
الرّخويّات Mollusca شعبة من اللاّفقاريّات هائلة التّنوّع، تنقسم لسبع طوائف تضمّ 100,000 نوعاً. ويُكتشف حوالي ألف نوع جديد سنويّاً. وهي ثاني أكبر مجموعة (بعد مفصليّات الأرجل/ الحشرات) بالمملكة الحيوانيّة، وأكبر مجموعة مائيّة. تتوافق ـ بكفاءةـ مع معظم البيئات الحيويّة (منها ما هو في القاع، والعائم، والهائم، والشّاطئ السّاحلي ...الخ). وتتكيّف أدمغتها ـ الكبيرة نسبيّاً مقارنة بأجسامهاـ سريعاً مع درجة حرارة الماء وحموضته. وتتراوح أحجامها ما بين الميكروسكوبي إلى «الحبّار العملاق» (طوله بِلَوَامِسِهِ 18 متراً)، وهناك صدفيّات عملاقة «محار ترايدكنا» تزن 225 كغ، (طولها متر ونصف المتر).
وأجسامها رخوة وبعضها هلامي القوام، وبأجسامها ما يزيد على 95 % من وزنها ماء. وتنقسم الأجسام إلى مناطق: رأس ـ قدميّة (أعضاء الحسّ والحركة)، والكتلة الحشويّة (أجهزة الهضم والإطراح والتّكاثر)، و«المعطف» (حول الكتلة الحشويّة ويغطيها)، ويفرز الصّدفة. ويوجد بين المعطف والكتلة الحشويّة فراغ يضمّ الخياشيم، يسمح لمخرجات الهضم والإطراح والتّكاثر. ويمتلك كلاّ من الأخطبوط والحبَّار رأسًا كبيرة، محاطة بالأذرع (للأخطبوط ثمان أذرع كالأقدام، وللحبَّار ثمان أذرع ولامسين). وتنمو الأذرع الطّويلة حول فكّين قويين متقاربي الشّكل أسفل الرّأس، يقومان بتمزيق الفرائس (الأسماك والرّخويّات الصّغيرة)، وهما أشدّ قوّة وكفاءة من الأذرع. وتستعمل الأخطبوطات أذرعها بينما يستعمل الحبّار لوامسه وأذرعه في القبض على فريسته وجذبها لفكّيه.
أنظمة عصبيّة متنوّعة
تتنوّع الأنظمة العصبيّة للرّخويّات مقارنة بغيرها، حيث تمتلك جهازًا عصبياً يتكوّن من «عقد» عصبيّة مخّية، وعقد جانبيّة وقدميّة وحشويّة مزدوجة، ومتّصلة ببعضها بأحبال عصبيّة تحت جلديّة. وتأخذ هذه العقد شكل حلقة عصبيّة مركّبة في الرّخويّات (البطن- قدميّات، والرّأس- قدميّات). وللرّخويّات أعضاء حسّ (شمّ، ولمس، وتذوّق) وعضو اتزان، وأعضاء إبصار (عيون بسيطة أو مركّبة). وأدمغة الرّخويّات «الرّأس ـ قدميّات» (الأخطبوط، والحبّار، والسّبيدج) الأكثر تعقيداً. حيث تحتوي أدمغتهم على 200 مليون خليّة عصبيّة، وتلتف حول المريء أكثر من كونها داخل جماجم صلبة. وللأخطبوطات جهاز عصبي دماغي، لكن معظم خلاياها توجد في أذرعها (قد تعمل باستقلاليّة)!. ولها زوج من العيون كعيون الفقاريّات، بنية وكفاءة تلائم حياتها النّشطة.
الإخطبوطات الذّكيّة
تظهر الإخطبوطات مهارات (إبداعيّة) عندما يتعلّق الأمر بالحفاظ على بقائها، وغذائها، ونسلها. تمثّل بيئة القاع الرّمليّة المنبسطة «المكشوفة» لـ «أخطبوط جوز الهند» (Amphioctopus) بالمياه الاستوائيّة بالمحيط الهادئ، وساحل إندونيسيا «تحدّياً» خطيراً له. فلا تترك له فرصاً للاختباء. فيلجأ ـ بذكاءـ لحشر جسمه في قشرة (أو اثنتين) جوز الهند الصّلدة/ أو علب معدنيّة صدئة، والمرور ـ مختفياًـ أمام أعدائه. لذا يعتبر اللاّفقاري الوحيد «المكتشف» لكيفيّة استعمال الأدوات للحماية. مهارة لا يتقنها إلاّ الإنسان والرّئيسيّات العليا وبعض الطّيور.
ولتجنّب المفترسين وإبعادهم، يستطيع «الأخطبوط المُقلد» (Mimic Octopus) (طوله 60 سم، مع مجسّات بطول 25 بوصة، وقطرها كقطر قلم رصاص) تقليد خمسة عشر حيواناً في ألوانها وأشكالها وحركتها، منها: (أفعي البحر، دجاج البحر، سمكة المفلطحة، السّرطان العملاق، قذائف البحر، سمكة الرّاي اللاّسعة، قنديل البحر، شقائق البحر، الرّوبيان السّرعوف). لونه الطّبيعي بنّي فاتح، لكنّه يظهر بخطوط بنّية وبيضاء ليبعد المفترسين مقلداً أنواعاً سامّة. ويقوم بتقليد شكل الأسماك المفلطحة عبر تسطيح جسمه وتدلّي أياديه للخلف، ويبقى بمحاذاة القاع، ويتحرّك تماماً كالأسماك المفلطحة. وعند تقليده أفعى البحر ـ أكثر مخلوقات البحر سمّيّة ـ يقوم بإخفاء كلّ أذرعه في القاع ويبقي فقط اثنتين ليشبهها. وعندما يخاف أكثر، يفلت أياديه، ويخطّطها كأنّها جسم الأفعى. وتمّ اكتشاف «أستاذ التّنكّر، وبهلوان المحيطات» هذا من قبل العالمان الأستراليّان «جوليان فين» و«يجريان مارك نورمان» عام 1998 قبالة سواحل جزيرة «سولاويزي» في جنوب شرق آسيا. والتّقليد مهارة تنمّ عن ذكاء ومكر ودهاء، كما أدهش الجميع عمليّة الهروب البارعة للأخطبوط «إنكي» من حوض السّمك الوطني/ نيوزيلندا، حيث خرج من السّياج وانزلق إلى فتحة تصريف المياه الأرضيّة ليذهب إلى البحر.
ذكاء الحبار
يخيف الحبّار مفترسيه من الحيوانات التي ترى فرائسها عبر التّخفّي في نحو 27 لونا ومظهراً، حيث يغيّر لونه عشرات المرّات كلّ ثانية. كما يبرع في تشكيل بقع شبيهة بالعين على جسده ليبدو كسمكة عملاقة. ويتمتع الحبار أيضا بالذّكاء الكافي للفرار من الحيوانات المفترسة التي تعتمد على رائحة الفريسة.
وخضعت حبارات لاختبار «مارشميلو ستانفورد 1960». وهو اختبار إدراكي لأطفال البشر، فيخيرون بين قطعة من السّكاكر الإسفنجيّة ليتناولوها فوراً، أو قطعتين عندما ينتظرون 15 دقيقة. وذلك لفهم قدرة تأجيل الرّغبات وتأخير الإشباع والتّخطيط للحصول على شيء ما مستقبلاً. وأمكن تعديل التّجربة لتلائم الحيوانات، وتدريبها على «فهم» أنّ طعاماً أفضل قادم إذا لم يأكل الذي أمامه فوراً. وصمّم فريق دولي ـ ترأسته عالمة البيئة السّلوكيّة «ألكسندرا شنيل»/ كامبريدج ـ من باحثي قسم علم النّفس/ «كامبريدج» البريطانيّة، وكلية «ريبون» الأميركيّة، ومركز «يوجين بيل» الأميركي اختباراً لستّة حبارات تمّ وضعها في خزّان به حجرتان مغلقتان ولهما أبواب شفّافة لتتمكّن الحيوانات من رؤية ما في الدّاخل. وفي إحدى الحجرتين كانت الوجبات الخفيفة قطعة من الجمبري الأقل تفضيلا، أمّا الجمبري العشبي الحيّ، الأكثر إغراء فوُضع في الحجرة الأخرى. وكانت على الأبواب رموز: «الدّائرة» (سيفتح الباب فورا)، و«المثلّث» (سيفتح الباب بعد فترة زمنيّة ما بين 10 و 130 ثانية)، و«المربّع» (سيبقي الباب مغلقا لأجل غير مسمّى). ووضع الجمبري خلف الباب المفتوح، ولا يمكن الوصول للجمبري العشبي الحيّ إلاّ بعد وقت. فإذا ذهب الحبار للجمبري العادي، يتمّ إزالة النّوع الثّاني فوراً. وفي المجموعة «الضّابطة»، ظلّ «الجمبري العشبي الحيّ» خلف الباب ذي الرّمز «المربع». ووجد أنّ جميع الحبارات قرّرت انتظار طعامها المفضّل.
ولاختبار مدى قدرتها على التّعلّم، تمّ عرض إثنين من الإشارات المرئيّة: مربع رمادي، وآخر أبيض. وعندما يقترب أحدهم، يتم إخراج الآخر من الخزان؛ وإذا اتخذا الخيار «الصحيح»، تتمّ مكافأتهما بوجبة خفيفة.
ويقضي الحبار معظم وقته في التّمويه والانتظار وتتخلّل ذلك فترات وجيزة للبحث عن الطّعام. لذلك يمكنه تحسين طريقته في البحث عن الطّعام عبر الانتظار لاختيار طعام أكثر جودة. وأظهرت النّتائج أنّ الحبّار يمكنه ممارسة «ضبط النّفس»، وأنّه من أذكى اللاّفقاريّات. ويخطّط الفريق البحثي لدراسة إذا كان الحبّار قادراً على «التّخطيط للمستقبل». ونشرت نتائج الدّراسة بدوريّة (Proceedings of the Royal Society B) في 3/3/2021.
ذكاء من نوع أخر
الرّخويّات ذات الأصداف: إمّا قطعة واحدة أو اثنتين أو ثمان. وقد تغيب الصّدفة (الأخطبوط والبزاق)، وقد تضمر كثيراً (الحبار). وتأخذ الصّدفة ذات المصرع الواحد شكل أنبوبة حلزونيّة ذات عضلة سفليّة قويّة للحركة. ولأنواع من أحادية المصراع زوجان من اللّوامس الرّأسيّة، يساعد أحدها في تحسّس الطّريق، ويحمل الآخر عينًا (هناك أنواع لا تحمل عيونًا). وهذه الرّخويّات مزوّدة بشريط من الأسنان «الزّائدة الكاشطة» يوظف ـ بمهارة ـ كمبرد يكشط الغذاء، ويبَشْرِ الطّحالب، ويحفر الثّقوب في أصداف أخرى، وقشريّات صدفيّة.
أمّا ذوات الصّدفة بمصراعين Bi-valvia (المحار الملزمي، والمحار المروحي، وبلح البحر، وديدان السُفُن الخ) فتتكوّن من نصفين متشابهين مرتبطين مفصليّاً (على هيئة طبق). ويفتح المصراعان ـ بميكانيكيّة عضليّة ـ عندما يتنفّس الحيوان، ويتناول طعامه، وينغلقان بإحكام إذا أثيرت أو هدّدت بالجفاف. ولديها قدم عضليّة قويّة تحرّكها بدفعها للخارج، وتثبتها في الطّين أو الرّمل. وبعضها (كبطة الأرض، والمحار الملزمي الشّفري) يستعمل قدمه في حفر الفجوات، والوثب هروبا من الضّواري.
أمّا عديدات الأصداف Chiton (نحو 800 نوعاً)، فلها دروع صدفيّة من ثمان قطع متداخلة، يربطها ببعضها بحزام متين كالجلد. للخَيْتُون عضو عضلي كبير ومفلطح (قدم) يستخدمه للالتصاق بإحكام بالصّخور وحينما يجبر على ترك صخرته، فإنّه يتكوّر. ويملك الخيتون رأسًا صغيرًا وفمًا، وليس له عيون أو لوامس. ويستعمل زائدته الكاشطة الطّويلة ذات الأسنان العديدة، لكشط الأعشاب البريّة من الصّخور للغذاء. أمّا زورقيّة الأقدام Scaphopoda، فلها أصداف رفيعة ملتوية تشبه أنياب الفيل (أصداف أنياب الفيل). رخويّات قاعيّة تنتشر حتّى عمق 6000 متر ليس لديها رؤوس ولا عيون، ولديها قدم (تشبه زورقًا صغيرًا) يبرز من الطّرف الكبير للصّدفة، يستعمل للحفر والدّفن في القاع، بينما تبرز قمّة الصّدفة في الماء. وتستطيع العديد من «بطنيّات الأقدام» إفراز سائل لزج تدافع به عن نفسها ضدّ الأعداء، كما تفرز بعض الرّخويّات موادًا كيميائيّة: كالسّموم، أو أحماضاً كريهة الرّائحة، للإخافة أو للتّمويه أو لتثبيط حاسّة الشّمّ لدى المفترسات.
أهمّية الرّخويات
تساهم الرخويّات في النّظام البيئي والسّلسة الغذائيّة البحريّة. لبعضها قيمة غذائيّة وطبّية عالية تزيد أهمّيتها بزيادة المعتقدات المحلّية. فكثير من النّاس عبر العالم، يأكلون الرّخويّات يوميًّا. وتستعمل أصدافها في منتجات: كالأزرار والحليّ والهدايا وتطعيم الأثاث، ومسحوق غذاء الدّواجن، وصناعة البلاط، وإنتاج الجير. والمنتج الرّخوي الأكثر شيوعًا هو اللّؤلؤ الطّبيعي. أمّا طبياً، فيستخدم مسحوق بعض الأصداف لمعالجة نقص الكالسيوم وهشاشة العظام في الإنسان. والبعض من هذه الرخويات ضارّ، حيث تثقب محّارات «دودة السّفن» الحبال والقوارب والمراسي الخشبيّة، وهناك أنواع تتطفّل على النّباتات.
الخلاصة
تمتلك الرّخويات أدمغة كبيرة مقارنة بحجم جسمها، وأنظمة عصبيّة متنوّعة. وتقوم بعمليّات حيويّة، ولديها قدرات إستراتيجيّة، ومهارات سلوكيّة (ذكية) تقارب ذكاء الإنسان: كالتّنكر، والتّمويه، والتّقليد، والهروب، وعمل الأكمنة، وبثّ السّموم، والوثب والحفر والدّفن والإلتصاق، واستعمال الأدوات، وانتظار الطّعام المفضّل، والقدرة على التّعلّم.
|