صفحات من التاريخ
بقلم |
![]() |
عبدالقادر رالة |
مجالس الرشيد |
يعتبُر الخليفة هارون الرّشيد (1) من أشهر الخلفاء العبّاسيين، إن لم يكن أشهرهم،وهو من أعظم ملوك الدّنيا ،ازدهرت في عهده التّجارة والآداب والعلوم والفنون والاقتصاد...
« هارون الرّشيد الذي كان مضرب المثل في العدل، والذي كان في قلبه توازن عجيب بين العصف بالعدوّ، وبين العطف على الرّعيّة، وهذا التّوازن يشبه توازنه البريء الطّاهر العفيف، و بين إيمانه وورعه والتزامه بإسلامه»(2).
« وكان فصيحا له نظر في العلم والأدب»(3). ومجالسه العامرة كانت انعكاسا لتوازنه وعدله وحبّه للعلم والأدب، وللشّعراء والفقهاء..
كان لهارون الرشيد مجالس العلم والأدب مثل باقي الخلفاء الذين سبقوه أو الذين جاؤوا بعده، فالمجالس العلميّة والأدبيّة، والمناظرات الفقهيّة والسّجلات الفكريّة هي مظهر من مظاهر تفوّق الحضارة العربيّة الإسلاميّة، لم يكد يخلو منها مجلس ملك أو خليفة في أيّ مكان من العالم الإسلامي، في بغداد، وفي دمشق، والأندلس، وفي بخارى، وفي اشبيلية، وفي قرطبة، أو في تيهرت والقيروان..لكنّ مجالس الرّشيد تميّزتْ كما تميّز روّادها ومنشّطوها، واختلفوا عن غيرهم..
وهي مجالس تكاد تظهر متناقضة حيث الجدّ مع الهزل، والورع مع الغناء، غير أنّها في الحقيقة تعكس المدى الحضاري الذي بلغته مدينة السّلام؛ بغداد في عهد هارون الرّشيد!..
من أشهر من كان ينشّط مجالس الشّعر والأدب في حضرة الخليفة هارون الرّشيد، شاعر المدح «أشجع بن عمرو السلمي» (4)، والشاعر «أبو جعفر محمد بن مناذر» (5)، و«أبو العتاهية» (6)، و«الكسائي»(7) عالم اللّغة الكبير الذي استخدمه الرّشيد لتأديب ولديه الأمين والمأمون، و«أبو يوسف القاضي»(8) ...
أما مجالس الوعظ والفقه، فأشهر من كان يحضرها إمام المدينة «مالك بن أنس» الذي كان هارون الرّشيد يلتقيه في المدينة المنورة، لأنّ مالكا قلّ ما كان يفارق المدينة إلاّ للضّرورة الملحّة! والزاهد «ابن السمّاك»(9)، الذي كان الخليفة يحبّ الاستماع الى مواعظه، والرّجل الصّالح «الفضيل بن عياض»(10) الذي كان له تأثير بالغ وعميق في شخصيّة هارون الرّشيد وورعه...
كان الرشيد يعرف قدر العلماء، فكان يقرّبهم ويصلهم ويدارسهم الفقه ويناقشهم في العلم ..
وكان للبرامكة نصيب وافر ومميّز في مجالس الرّشيد قبل أن ينقلب عليهم وينكّل بهم..
أما مجالس الغناء والطّرب، وإن ذكرتها كتب الأدب والسّير، غير أنّ المؤرّخين المدقّقين يجزمون بأنّها أخبار موضوعة وقصص مدسوسة، لكنّ نفرا من الباحثين المتخصّصين يرون أنّ ذلك أمر عادي ومظهر من مظاهر الحضارة في بغداد في ذلك العهد، وبالأخصّ إذا علمنا أن الجواري اللّواتي كن يُغنّين في حضرة الرّشيد أو غيره من الخلفاء كنّ مثقّفات؛ يحفظن القرآن الكريم، والحديث الشّريف والأنساب وسير العرب، وبالطّبع أجود الشّعر وأملحه! ولا يمكن أبدا أن نقارنهنّ بمغنّيات عصرنا هذا !..
ويعتبر المغني «إبراهيم الموصلي» أشهر المغنّيين الذين ارتبط اسمهم بهارون الرّشيد، وأيضا إبنه «إسحاق الموصلي» الذي خلف أباه في مجالس الرّشيد!..
أمّا الجواري المغنّيات فما أكثرهن، وقد اشتهرت بينهن «دنانير» و«عنان»...
الهوامش
(1) أبُو جعفر هارُون الرَّشيد بن مُحمَّد المَهْدي بن عبد الله المَنْصُور بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المُطَّلب الهاشميُّ القُرشيُّ (1 مُحرَّم 149 – 30 جُمادى الأولى 193هـ / 19 فبراير 766 – 24 مارس 809م). هو خامس خُلفاء بني العبَّاس، والخليفة الرَّابع والعشرُون في ترتيب الخُلفاء عن النَّبيُّ مُحمَّد. حكم دولة الخلافة العبَّاسيَّة منذ يوم 15 ربيع الأوَّل 170هـ / 14 سبتمبر 786م حتى وفاته.
(2) شوقي أبو خليل ،كارل بروكلمان في الميزان ،ص120
(3) السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 220
(4) شاعر فحل من بني سليم من قيس عيلان ، كان معاصراً لبشار، ولد باليمامة ونشأ في البصرة، واستقر ببغداد، توفّي نحو 195 ه / 811 م.
(5) شاعر وخطيب عربي من العصر العباسي الأوَّل، من العلماء بالأدب واللّغة، نشأ واشتهر في البصرة، ثمّ انتقل إلى بغداد، توفّي 198ه/ 813م.
(6) إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني ,العنزي (من قبيلة عنزة) بالولاء، أبو إسحاق الشّهير بأبي العتاهية.(130ه - 211ه/747م- 826م)
(7) شيخ القراءة والعربية أبو الحسن علي بن حمزة ، بن عبد الله الأسدي ، مولاهم الكوفي ، الملقب بالكسائي، توفي 189هـ عن سبعين سنة.
(8) ولد أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيُّ سنة 113ه، تفقّه على أبي حنيفة، وأخذ الحديث، وتولّى منصب قاضي القضاة، توفي 182 ه
(9) أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله بن يزيد البغدادي الدقاق الشهير بـ ابن السماك، مسند العراق، محدث من الثقات، توفي 344 ه
(10) الفضيل بن عياض، أحد أعلام أهل السنة في القرن 2 الهجري، لقب بـ «عابد الحرمين» ولد بسمرقند سنة 107 ه وتوفي ببغداد سنة 187 ه.
|