فقه الميزان
بقلم |
![]() |
الهادي بريك |
الحلقة الثالثة :ميزان يوسف عليه السّلام. |
لو أتيح لي أن أذكّر بالميزان في الدّين والحياة لما تردّدت أن أقول أنّه إستلهام الحكمة عند معالجة مشهد تختلط فيه موجبات الدّين مع ممكنات الواقع. أو هو إجتراح معالجة إستثنائيّة لأجل إشباع المشهد بأكثر ما يمكن من قيم العدل والإحسان. ذلك أنّ صروف الحياة لا يقرّ لها قرار لفرط تقلّبها. فلا مناص من نشدان أقلّ المعالجات سوء. وليس أكثرها نفعا عندما يصطدم واجب (دينيّ أو عقليّ) مع ممكن.
الميزان هو عمليّة جراحيّة فيها ما فيها من الألم، ولكن لا بدّ من ألم عاجل يغني عن ألم آجل. فقه الميزان هو ما يقوم به الأطبّاء كلّ يوم مع مرضاهم.
من معالجات يوسف عليه السّلام :
(1)
نبدأ بمعالجة وردت على لسان بعض إخوته، وذلك عندما تيقّن أنّ يوسف مقتول لا محالة من إخوته الآخرين، وهم الأكثرية. إذ أزّهم الحسد أزّا ألجأهم إلى قتل أخيهم، وأغراهم الشّيطان بأنّ صدر أبيهم بعد ذلك سيكون منفتحا لهم وحدهم. قال في مشهد من فقه الميزان ﴿قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾(يوسف: 10). أمام هذا الأخ طريقان : إمّا أن يصمت على جريمة إخوته، والقتل جريمة لا تُجبر، إذ من قُتل لا يعود. هذا خيار الفرار والتّواري. وهو ممكن نظريّا، أو أن يقاومهم دون ذلك. ولكنّه خيار ممتنع عقلا، إذ هم عشرة وهو مفرد واحد. نتيجة المقاومة هنا هي كمثل مقاومة « الخضر» صاحب موسى للملك الذي يأخذ كلّ سفينة غصبا. يعني مغامرة محسومة النّتيجة لصالح «الملك» هناك، ولصالح «الإخوة»هنا.
هنا يجترح صاحب الحكمة فقه الميزان ليخترع خيارا ثالثا. ليس هو الأمثل، ولكنه كذلك ليس هو الأسوأ. قيمة الميزان هنا هو إنقاذ طفل صغير من القتل وإنقاذ عشرة من الإخوة من جريمة يظلّون يتجرّعون سمّها ما ظلّوا فوق الأرض، وما بقوا تحتها، وما في يوم العرض أشدّ وأخزى. لذلك لا يجدي لا فرار ولا مقاومة، عدا المقاومة بالذّكاء والحكمة والميزان. إذ عندما ينجح في إقناعهم بالعدول عن القتل والإستعاضة عنه بجبّ يكون قد منح ذلك الطّفل - بل منحهم هم أنفسهم - فرصة حياة أخرى.
(2)
مشهد آخر يعالجه يوسف بنفسه عليه السّلام، وذلك بعدما أصبح نبيّا. وعلم بطريق رؤيا الملك أنّ البلاد التي هو فيها سجين مظلوم (مصر) ستجتاحها - وعامّة منطقة الشّرق الأوسط بتعبيرنا نحن اليوم ومنطقة الشّام كذلك - مجاعة كاسحة لسبع سنين كاملات بعد سبع خضر راغدات. بل أوحي إليه أنّ بعد ذلك عاما ﴿ .. فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾(يوسف: 49). كان ذلك لمّا دعاه الملك إليه واعدا إياه بالتّمكين والأمان. إذ هو من عبّر له رؤياه في مجتمع مفتون بالرّؤى وتعبيرها. سيما أنّ يوسف - وقد ألِف السّجن بعدما أُنسي صاحبه الأسبق في السّجن أن ينقل حاله إلى ربّه أملا في العفو عنه - حرص على نقاوة عرضه من واقعة قدّ القميص، إذ عرض عليه الملك الخروج من السّجن. بل كان متألّق الذّكاء إذ كنّى عن تلك المظلمة بما لا يقدح في عرض زوج الملك بفجاجة. فقال:﴿ .. فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ..﴾(يوسف: 50).
خيارات الميزان هنا أمام يوسف هي : إمّا أن يقتصر على خروجه من السّجن نقيّ العرض، وربّما مع ذلك يكون «سكرتيرا» خاصا للملك، أو مستشارا مكرّما، أو أن يطالب بفتح تحقيق في التّهمة التي لأجلها سجن زهاء تسع سنوات قهرا. هناك خيار ثالث وهو أن يعود إلى فلسطين بعد فراق طويل لأبيه. كلّها خيارات ممكنة. ولكنّه مشغول بمجاعة عاتية تهجم على كلّ مناطق الشّرق والشّام ويذهب ضحيّتها ما لا يعلمه إلاّ اللّه من الأطفال والأيتام والأرامل والمعوزين. شوقه إلى أبيه لا حدود له، وحياته في مصر مواطنا حرّا بعد سنوات قهر كالحات أمل يداعبه. وأكثر من ذلك مقرّبا من الملك. ولكنّ كلّ ذلك يهون كلّ هوان في وجه تحمّل المسؤوليّة الحكوميّة في دولة لا تحكمها قيم مقبولة والمساهمة في إدارة أزمة ماليّة وغذائيّة حادّة.
فقه الميزان هو تحمّل المسؤولية لأقامة العدل والقسط بين النّاس سيما أنّ المناخ ملائم، فلم يتردّد. ذلك فقه تنبّه إليه ذلك النبيّ بيسر وسرعة، فحرّر اللّه به من الجوع شعوبا كانت ستفترسها المجاعة وتتفشّى فيها الجريمة تبعا لذلك. وما إن تقهقر ذلك الألق الفقهيّ حتّى تقهقرنا إلى قاع سحيق عنوانه (هل يجوز طلب الحكم أم لا؟. وهل يجوز ذلك في دولة غير مسلمة؟) وما إلى ذلك من مشاغل البطّالين وإهتمامات العطّالين. ولو علم هؤلاء أنّ أولئك الذين لأجلهم طلب يوسف وزارة الماليّة غير مسلمين - أو أنّ جلّهم كذلك - لأضافوا إلى بطالتهم سؤالا آخر (هل يجوز إنقاذ كافر من الجوع؟). لذلك لا يؤتى فقه الميزان عدا من تشبّع بقيم الإسلام قبل كلّ شيء كلّ تشبّع.
(3)
مشهد ثالث أخير من مشاهد فقه الميزان كما عالجه يوسف عليه السّلام، وهو أنّ يوسف لم تشغله مسؤوليّته الحكوميّة عن أبيه وأهله. بل عمد إلى توظيف جزء من ذلك في خدمة هدف كبير هو لمّ شمل العائلة اليعقوبيّة (عائلة إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم) بعضها هناك في فلسطين وبعضها هنا في مصر. وفراق بينهما منذ سنوات طويلات. طفل صغير أُلقي في جبّ قبل سنوات طويلات. من يصدّق أنّه مازال حيّا يرزق؟ أمّا أن يكون هو الوزير الذي يدير أعتى أزمة غذائيّة تعصف بالشّرق كلّه والشّام فهذا خيال. ومع كلّ فجر جديد تبزغ مشاهد جديدة في الحياة وأكثرها مشاهد معقّدة، أي متداخلة العوامل ومتعدّدة الأبعاد. فلا يمكن معالجتها بالمنوال الأمثل، ولكن لا مناص من إجتراح ما يكون الأدنى ضررا فحسب. خيارات جديدة أمام يوسف : هل يتجاهل أباه وأهله أو يتّكل على القدر الإلهيّ إتكال العاجز القاعد؟ أم ينتظر نهاية المجاعة ثمّ يعود إليهم؟ هناك خيار ثالث هو فقه الميزان الذي هُدي إليه يوسف، وهو أن يوظّف جزءًا من مهمّته الحكوميّة لأجل لمّ شعث عائلته، ولو على مراحل وسنوات، ولكن بما لا يخصم أمانته، ولا حقّ الجوعى الذين يفدون عليه من أطراف المنطقة بمئات الأميال يضربون أكباد الإبل. هناك من أطّر هذا ضمن الحيل الشّرعيّة المأذون فيها. فليكن. ولكنّ تأطير ذلك تحت سقف فقه الميزان أنسب، فلا نحتاج إلى حيلة مشروعة وأخرى غير مشروعة. ولكن لا مشاحّة في المصطلح كما قيل.
إقترف يوسف في سبيل ذلك الهدف الكبير (وهو حقّ أبيه عليه وكذا إخوته) ما فيه بعض الضّرر ببعض إخوته ضررا مؤقّتا. بل بعضه معلوم ومقدور عليه، وهو محلّ توافق. ولكنّ العملية من أوّلها إلى آخرها لم تنل قلامة ظفر واحد من حقوق الجوعى وقوافلهم ولا من أمانته لدى الملك وسيادة البلاد. كان ذلك لمّا إشترط على إخوته في أوّل لقاء بهم إصطحاب أخ لهم من أبيهم، وأغراهم في سبيل ذلك بردّ بضاعتهم لتكون لهم رحلة مضاعفة الكسب. وحتّى عندما أراد إحتجاز أخيه عنده بدعوى أنّه سرق كان ذلك توافقا معه في حيلة شديدة الذّكاء. عدا أنّ أخاه الآخر ظلّ هناك في مصر وهو لا يعلم حقيقة ما جرى خجلا من أبيه الذي إستأمنه على أخيه. هناك ضرر، ولكن لا مهرب منه، وهو ضرر صغير. ضرر تعرّض له واحد من العائلة وليس خارجها.
خلاصة :
فقه الميزان لا يتنزّل في الحال العاديّة، ولكن عندما تصطدم المصالح أو المفاسد، وعندما لا يمكن أداء واجب، عندها يصار إلى الممكن. أليست السّياسة هي (فنّ الممكن)؟ فقه الميزان هو سياسة الحياة بما هو أقلّ أذى عندما يكون الأمثل مستحيلا. في قصّة يوسف - التي هي نموذج حيّ لحياة كلّ مخلوق من النّاس تعتوره الدّروب بكلّ طيّب يحبّه وكلّ خبيث يرغب عنه - أمثلة لفقه الميزان يحتاج إليها العاجز عن مقاومة الفساد لضعفه وقوّة المفسدين. فهو يختار الضّرر الأدنى ليتجنّب الأعلى حماية لحقّ الحياة المقدّس. كما يحتاج إليها المصلح الذي لا يمكنه تقلّد كلّ الصّلاحيّات وقيادة إصلاح بالقوّة، فهو ينقذ ما يمكن إنقاذه، وخاصّة لتحرير الإنسان من براثن الجوع الكافر الذي يجلب التّبعيّة والإحتلال والذّلّة. كما يحتاج إليها صاحب هدف نبيل لا يمكنه تحقيقه عدا بتحمّل ضرر - أو تحميل غيره ضررا - يحرص أن يكون هو الأصغر. وأنّه ضرر لا يخرج عن دائرة ولايته العائليّة التي يمكن له بعد ذلك تفهيمهم حقيقة ما كان.
فقه الميزان موضوع لنا لنحرّر به الإنسان من العدوان والقتل ومن الجوع والفقر والأسرة من التمزّق.
|