مرايا
بقلم |
![]() |
د.عزالدين عناية |
الفكر المستقيل |
ضمن رصدِ خصائص المثقّفين، كنّا قد أوردنا في مؤلَّف سابق «العقل الإسلامي.. عوائق التحرّر وتحدّيات الانبعاث»(1) أصنافا ثلاثة من «المثقّفين» حاضرة بوفرة في قطاع الثّقافة العربيّة أطلقنا عليها نعوت: النّائم، والسّائم، والهائم. نستعيد توصيفاتها وملامحها بإيجاز في هذا المقال لصلتها بحديثنا عن الفكر المستقيل.
يُعتبَر الصّنف النّائم الأعلى نسبة بين الأصناف الثّلاثة. فقد كانت المؤسّسات التّربويّة والتّعليميّة النّاشئة مع بداية الاستقلال، في حاجّة ماسّة إلى كوادر محلّية مما حثَّ على دمج عناصر واهِنة، يشحذ السّواد الأعظم منها وَهْمُ التّغيير الحالم، فتحوّلت وظيفة التّعليم معهم إلى حرفة ميكانيكيّة.
والصّنف الثّاني، وهو صنف المثقّف السّائم، فقد انعكس الواقع السّياسي الاجتماعي المأزوم على ذهنيّة كثيرين سلبًا، الأمر الذي خلص على إثره المثقّف إلى أنّ دوره في إصلاح تلك البنية الاجتماعيّة الثّقافية متعذّر ومنعدم.
وأمّا الصّنف الثّالث، وهو الهائم: إذ جرّاء التّشتّت الهائل الذي لحق الشّريحة المثقّفة، وقعت فئة من بينهم رهينةَ العبث واللاّيقين، ممّا حوّل منتهى إدراكها إلى انسداد تاريخي، تجلّى في ترديد مقولات موت الفلسفة، وموت الشّعر، ونهاية الكاتب، ونهاية التّاريخ، وغيرها من القوالب البائسة. وتقبّلها العقل المنفعِل وحاكاها، محدِّثا النّفس بالانخراط في حركة الفكر العالميّة، والحقيقة أنّه لم ينخرط سوى باستهلاك موبقاتها.
فمع الفكر المستقيل يغدو تغييب التّفكير تقليدا جاريا العمل به، وإن خلّف ضررًا فادحًا بتحوّل مرويّاته، وحكاياته، وأخباره، وأمثاله، إلى ما هو مألوف ومعتاد بين النّاس. ولا يتوقّف تعطيل التّفكير عند حدود الأفراد، بل يمتدّ ليشمل جموعا واسعة تجد أريحيّة في استحضاره والحفاظ عليه.
يتأمّل المرء فئات متعلّمة لدينا، في مجالات الطبّ والهندسة والتّقنيات، مَثَّل التّفكير العلمي، والاختبار التّجريبي، والتّمحيص العقلي، ديدنَ انشغالاتها، غير أنّ تلك الفئات المهمّة في مجتمعاتنا بمجرّد عودتها إلى مهدها الأوّل، نقصد حاضنة المجتمع، إلّا وتتخلّى عن ذلك الطّابع المعرفي الذي حصّلته طيلة مشوارها التّعليمي وتكوينها الدّراسي. لذلك لا تفرّق في كثير من الأحيان بين المتعلّم وغير المتعلّم، وبين الدّارس والأمّي، في النّهل من معين الخرافة والأسطورة والرّكون سويّا إلى اللاّمعقول واللاّمنطق. فهل هي سطوة التّفكير الخرافي التي تثقل الوعي الجمعي وتحُول دون إرساء رؤية سويّة أم هو الانفصام في الشّخصيّة الذي نعاني منه وآثاره الفاعلة والعميقة؟
ولكن لنشرّح الظّاهرة ونتمعّن في أبعادها: ما الذي تعنيه استقالة التّفكير؟ قد تكون الاستقالة في جوهرها إقالة، يجري بمقتضاها إفقاد المرء قدرات التّفكير، من خلال سلبه أدوات النّقد والتّحليل والتّركيب والاستنباط والاستنتاج، وكلّها مدارج لبلوغ مراقي التّمكين الذّهني. إذ نلاحظ في كثير من البرامج التّعليميّة المعتمَدة في المستويات الجامعيّة وما قبل الجامعيّة، غياب المنزع العملي وفقدان روح التّجديد وضمور المراجَعات، وهو ما يحوّل مؤسّساتنا التّعليميّة والتّكوينيّة إلى مراكز تأهيل للبطالة بدل أن تكون منصّات انطلاق حقيقيّة نحو الإبداع والابتكار. فعمليّة سلب العقل مقدّراته تشبه عمليّة الإخصاء في علم الأحياء وما تخلّفه من انحباس.
وضمن السّياقين التّعليمي والمعرفي تغدو الاستقالة الذّهنيّة حفاظا على السّائد وموالاة للثّبات، والأدهى أنّ الاستقالة لا تقف عند حدود الجمود النّظري، بل تؤثّر في عناصر مادّية يُفترَض أن تشهد تحوّلا بفعل التّقادم. ولا تعني استقالة التّفكير سلبيّة الحضور الذّهني وتواري الفاعليّة فحسب، ولكنّ تلك الاستقالة غالبا ما تفسح المجال إلى بديل غرائزي أو سحري أو أسطوري يقوم مقام التّفكير العقلي، لتغدو عمليّة الاستقالة استعاضة ببديل سلبي.
ولكن استقالة التّفكير تظلّ بالأساس حالة من القناعة النّفسيّة الذّهنيّة، أساسها الاستمراء لما هو جمعي في تفسير الظّواهر والوقائع وإن تَبيّن بطلانها. وبالتّالي هي انسجام مع مخزون أفيوني، شبه مخدِّر، يستمدّ المرء منه أقواله وأحكامه ويقينياته، ويجد يسرًا في استحضاره، بفعل شيوعه بين أطياف واسعة من النّاس. وهذه المعادلة تحكم العديد كلّما جرى التّطرّق إلى مواضيع في الدّين والدّنيا، وبشأن الممات والحياة، وبشأن الشّرق والغرب، وبشأن الأنا والآخر، وغيرها من الثّنائيّات. ومن ثَمَّ يتساءل النّاظر أين يتوارى المخزون المعرفي بأشكاله المتنوّعة، العلميّة والعقليّة والمنطقيّة الذي يتلقّاه المرء طيلة فترة تكوينه؟ ولِمَ لا يحافظ على حضوره ويشهد تطوّرات في مراحل لاحقة يُفتَرض فيها أنّ المرء قد بات مقتدرًا بمفرده على إنمائه وقد تربّت فيه ثقافة الانفتاح وتقاليد المراجَعة؟
ينبغي أن نقرّ أنّ انفصاما عميقا يجثم على مجتمعاتنا، جرّاء غياب إيتيقا المعرفة. ذلك أنّ نظرتنا هي نظرة ظرفيّة ومباشرة للأشياء دون تنزيلها ضمن إطارها الصّائب ممّا يولّد ثنائيّة مقيتة لدينا. إذ لا معنى للعلوم والمعارف والفلسفة والمنطق، التي هي بالنّهاية وسائل، ما لم تربّ في المرء نشدان التّحرّر. ولكن أن تتحوّل تلك المعارف/ الوسائل، التي هي بالحقيقة قدرات، إلى أدوات للتّبرير وليّ عنق الحقائق، فإنّنا حينها نغرق في ثقافة مغشوشة تحتاج إلى عمليّة ترميم هائلة.
وكما يلوح بيّنا، تجد استقالة التّفكير دعائمها في خمول النّظر ووهن المدارك. ليس بالمعنى الذي يتحدّث عنه المفكّران الإيطاليّان «جانّي فاتّيمو» و«بيار آلدو روفاتي» عن «الفكر الضّعيف» في مقابل «الفكر العتيد». لعمري ذلك سياق آخر تناولا فيه انغلاق الفلسفة داخل براديغمات محدّدة، وركونها إلى استعادة المقولات الكلاسيكيّة واستحضارها في زمن ما بعد حداثي. وقد كان «فاتّيمو» و«روفاتي» يصفان تحوّلا أخلاقيّا عكسيّا من «الفكر العتيد» إلى «الفكر الضّعيف»، أي من الفكر الكلاسيكي إلى الفكر المابعد حداثي.
ولعلّ الإشكال الأبرز لدينا أن يتّخذ الفكر المستقيل من حصن المقدّس والعرف والمألوف هيكلا وملجأ، ولذلك كلّما توجّهت سهام النّقد إليه لاذ واحتمى بما هو أثير لدى شقّ واسع من النّاس. ولذا وجب فرز ما هو أصيل عمّا هو دخيل، وما هو جوهري عمّا هو عرضي، وهنا مهمّة الفلسفة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والفكر النّقدي، أي العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة عامّة، لإعادة تصحيح المقولات وبيان الفروقات بين الحقول. إذ عادة ما نلحظ استحواذ الفكر المستقيل على المقولات الأثيرة في المخيال الجمعي وتوظيفها لتبرير مسلكه وإقرار منطقه. والحال أنّ خمول الفكر وغياب النّقد مولّدان للشرّ، كما تذهب إلى ذلك المفكّرة «حنة أرندت».
إذ كما نلاحظ تجتاح حياتنا عوائد جديدة: في متابعة الأخبار، وفي مواكبة الأحداث، وفي استمداد المعلومة، تحثّ على الخمول الذّهني والكسل المعرفي. ووفرة ورود الأشياء على الذّهن من العالم الافتراضي، وعبر مختلف الوسائط، ليست حافزا للتأمّل والتّروّي في ما يجري، بل مدعاة لنسيان ما يجري ومحو اللاّحق السّابق من حيز التّفكّر والتّذكّر.
ولئن يمتاز الزّمن الحالي بتدفّق المعلومة وقربها ويسر الوصول إليها، فإنّه زمن الاستقالة الذّهنيّة الموسَّعة أيضا. والإشكال في ما نعانيه، ليس في وفرة المعلومة، بل في غياب بيداغوجيا التّعامل مع المعلومة. إذ كثيرا ما يرد على مسامعنا: سمعت اليوم كذا، ورأيت اليوم كذا، وتابعت اليوم كذا، ولكن يندر أن نسمع حديثا رصينا عن تمحيص ما يُسمَع ويُرى ويُتابَع. وبالتّالي نحن أمام حاجة إلى تربية جديدة للتّعامل مع هذا الفيض الجارف من الأخبار والمعلومات والمشاهد كي لا يتحوّل المرء إلى آلة فاقدة للأنسة، ولا نقول فاقدة للذّكاء، وقد شُحنت الآلات أيضا بذكاء اصطناعي بعد أن كانت خاوية. |