أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
المعركة بين النّظام والفوضى بين المسار المباشر والمسار الفعلي لجريان الأنهار
 الرحلة من البحار والمحيطات حتي تشكل الأنهار (كلنا نشرب من البحر)
بفعل الطّاقة الشّمسيّة تتبخّر أجزاء من المياه السّطحيّة للبحار والمحيطات، وبفعل العوامل الفيزيائيّة يتكثّف بخار الماء في الغلاف الجويّ ويتحوّل إلى قطرات مطر. تسقط  هذه القطرات على هيئة أمطار على سطح الأرض بفعل الجاذبيّة، وكمّيتها ونمط توزيعها يعتمدان على العوامل المناخيّة والجغرافيّة. وإذا كانت كمّية الأمطار أكبر من قدرة التّربة على الامتصاص، تبدأ المياه بالجريان على السّطح نحو المناطق المنخفضة بفعل الجاذبيّة أيضا. مع استمرار ذلك الجريان السّطحي، تتجمّع المياه في قنوات صغيرة تسمّى «جداول» أو «أخاديد». تتحد هذه الجداول مع بعضها البعض ومع زيادة كميّة المياه، تتشكّل تيّارات مائيّة أكبر وأكبر. تقوم هذه التّيّارات المائيّة بنخر الصّخور والتّربة على طول مجراها ونقلها إلى حيث تستقرّ مكوّنة سهولا فيضيّة. لذلك فإنّ علماء المياه يعّرفون النّهر بإنّه مجرى مائي طولي (للتّمييز عن الشّكل العرضي للبحار والمحيطات) وهو في حركة دائمة ذي ضفّتيين يجرى فيه الماء العذب النّاتج عن هطول الأمطار أو المياه النّابعة من عيون الأرض أو من مسطّحات مائيّة كالبحيرات. يتشكّل المجرى الفعلي للنّهر من تفاعل معقّد بين العمليّات الطّبيعيّة مثل التّآكل، النّقل، والتّرسيب، بالإضافة إلى العوامل الجيولوجيّة والمناخيّة والتّأثيرات البشريّة. تعمل هذه العمليّات معًا على تشكيل مسار النّهر بمرور الوقت وتعديله.
نسبة التّعرّج (استقامة القوس في انحنائه)
 المعركة بين النّظام والفوضى في جريان الأنهار هي واحدة من أكثر الظّواهر إثارة للاهتمام في علم الهيدرولوجيا (علم المياه) والجيومورفولوجيا (علم تشكيل الأرض). هذه المعركة تعكس التّفاعل المعقّد بين القوى الطّبيعيّة التي تحاول تنظيم مجرى النّهر، والعوامل التي تدفع نحو الفوضى والتّعرّجات. يتمثّل النّظام في هذا الصّراع في عوامل طبيعيّة مثل الجاذبيّة التي تدفع المياه نحو الأسفل، ممّا يخلق تدفّقًا منتظمًا باتجاه المصبّ؛ وكلّما زاد انحدار الأرض، يكون تدفّق النّهر أكثر استقامة وسرعة، ويكون تجلّي القوّة الطّاردة المركزيّة التي تظهر فقط عند الحركة في المنعطفات، في دفع المياه نحو الخارج، ممّا يساعد على الحفاظ على توازن معين. أمّا الفوضى في جريان الأنهار فتظهر في التّعرّجات والانحرافات عن المسار المستقيم. هذه الفوضى ناتجة عن عوامل جغرافيّة وكيميائيّة وبيئيّة مثل التّضاريس التي  تجبر النّهر على الانحراف يمينا أو يسارا لتفادي وعورة ما، والرّواسب التي من جرّاء تراكمها تنشأ أنواع معيّنة من التّعرّجات.
قام «هانز – هنريك» أحد علماء الأرض من جامعة كامبردج، بحساب النّسبة بين الطّول الفعلي «الطّول المتعرّج» للأنهار من المنبع إلى المصبّ والطّول المباشر «أي أقصر طريق على سطح الكوكب وهو الخطّ المستقيم في الهندسة الكرويّة». تسمّى هذه النّسبة بنسبة التّعرج، ولها أهمّية كبيرة، فهي تساعد في فهم سلوك النّهر أي كيفيّة تدفّق المياه وتشكيل النّهر لمساره. فالأنهار المتعرّجة تبطئ من تدفّق المياه، ممّا قد يؤثّر على إدارة الفيضانات. كما توفّر موائل متنوّعة للكائنات الحيّة، مثل الأسماك والنّباتات المائيّة أي أنّها تشكّل عامل توازن في  النّظام البيئي المائي، وتساهم في فهم  طبيعة التّضاريس التي يتدفّق فيها النّهر. وقد تكون نسبة التّعرج لنهر ما مرتفعة نسبيًّا بسبب تدفّقه عبر مناطق سهليّة واسعة. 
تفسيرات نشوء المسارات المتعرّجة للأنهار (أينشتين يدلي بدلوه)
في عام 1926 نشر «أينشتاين» ورقة بحث علميّة بعنوان «سبب تكوين تعرجات الأنهار»(1)، حاول فيها تقديم تفسير علميّ لظاهرة تعرّج الأنهار وربطها بنسبة تقريبيّة تُعرف باسم «نسبة التّعرّج» «Sinuosity Ratio». افترض أينشتاين  أنّ التّعرّجات تحدث بسبب قوّة الطّرد المركزي التي تؤثّر على تدفّق المياه في المنعطفات.عندما يتحرّك الماء في مسار منحنٍ، تنشأ قوّة طرد مركزيّ تدفع المياه نحو الجانب الخارجي للمنعطف، ممّا يؤدّي إلى تآكل الضّفة الخارجيّة وتراكم الرّواسب في الضّفة الدّاخليّة. أشار أينشتين أيضا إلى أنّ دوران الأرض(قوّة كوريوليس) قد يؤثّر في اتجاه التّعرّجات. ففي نصف الكرة الشّمالي، تميل الأنهار إلى التّآكل على الجانب الأيمن، بينما في نصف الكرة الجنوبي، يكون العكس صحيحًا(وهذا ما يُعرف بقانون Baer’s Law)
واقترح «أينشتين» أنّ مسار النّهر غالبا ما سيأخذ مسارا متعرّجا، لأنّ أهون انحراف سيؤدّي إلى تيّارات أسرع على الجانب الخارجي للمياه، ممّا سيؤدّي إلى مزيد من التّآكل ودرجة أشدّ من الانعطاف، وكلّما زادت شدّة الانعطاف زادت سرعة التّيارات على الحافّة الخارجيّة وزاد التّآكل، فيزداد انعطاف النّهر. وتؤدّي زيادة انعطاف النّهر إلى إلتفاف النّهر في الاتجاه المعاكس مشكّلا بحيرة قوسيّة تحتجز جزيرة بداخلها، وبذلك يكون النّهر قد سلك مسارا دائريّا أي أنّه عبر من حالة الفوضى إلى حالة النّظام التّام. أظهرت الدّراسات أنّ نسبة التّعرج لمعظم الأنهار تتراوح بين 0.5 ℼ  لأكثر الأنهار استقامة إلى  1.5 ℼ  لأكثر الأنهار تعرّجا، وكأنّ متوسّط نسبة التّعرّج يتمحور حول ℼ. لقد ظهرت تلك النّسبة العجيبة المسماة «بالنّسبة التّقريبيّة = نسبة محيط أي دائرة إلى قطرها» مرّة أخرى من خلال التّوازن في المعركة بين النّظام والفوضى. عادة ما توجد النّسبة في تلك الأنهار التي تتدفّق برفق عبر السّهول المنحدرة مثل تلك الأنهار الموجودة في البرازيل والتندرا السّيبيريّة.
بالرّغم من بساطة تفسير «أينشتين» لنسبة التّعرّج، فإنّه ألهم دراسات لاحقة حول ديناميكيّات الأنهار. كما أشار «أينشتين» إلى أنّ التّضاريس والتّرسّبات تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل التّعرّجات، فالأنهار التي تمرّ عبر سهول مسطّحة تكون أكثر عرضة للتّعرج بسبب انخفاض الانحدار وتراكم الرّواسب. وقد أظهرت العديد من الدّراسات الحديثة أنّ نسبة التّعرّج تعتمد على عوامل أكثر تعقيدًا، كعامل الانحدار، فالأنهار ذات الانحدار المنخفض تميل إلى التّعرج أكثر، وكذلك نوع التّربة والصّخور، فالتّربة الطّريّة قد تسمح بحدوث تعرّجات أكبر، وأيضا التّفاعل بين تدفّق المياه والتّرسّبات قد يلعب دورا هو الآخر.
النّسبة التّقريبيّة  ℼ  ونسبة التّعرّج (من تجليّات الأعداد)
إنّ نسبة التّعرّج تختلف من نهر إلى آخر، لكنّ اللاّفت للنّظر أنّ معظم الأنهار تقع نسبة التّعرج فيها ما بين 0.5 ℼ و 1.5 ℼ) أي ℼ مضافا إليها أومطروحا منها 0.5 ℼ  ، أي أنّ الطّول الفعلي يقع في المدى من 1.53 إلى 4.8 أضعاف الطّول المباشر، ولو تأمّلنا قليلا لوجدنا أنّ متوسّط هذين العددين يقترب من النّسبة التّقريبيّة «نسبة محيط الدّائرة إلى قطرها». إنّ ذلك العدد الغريب ظهر أوّل ما ظهر عند محاولة تربيع الدّائرة، إلاّ أنّ له تجليات في معظم التّطبيقات العمليّة من حولنا، أي من الذّرة إلى المجرة. إنّه في حالتنا هذه ينتج من المعركة بين النّظام والفوضى في حركة المياه في دولاب النّهر. 
ولتوضيح الفرق بين الطّول الحقيقي للأنهار وطولها المباشر بوحدة الكيلومتر مع نسبة التّعرّج، يقدّم الجدول التّالي مقارنة بسيطة باستخدام أمثلة لبعض الأنهار الشّهيرة. حيث يعتبر نهر «كوسي»(نيبال والهند) من أمثلة الأنهار ذات نسبة التّعرج العالية جدّا .
قراءة يسيرة في الدّراسات الحديثة 
(البحث العلمي نهر متدفّق ونسبة تعرّجه تؤول إلى اللاّنهاية)
من بعد «أينشتين» قدّم ابنه «هانز ألبرت أينشتين»، وهو متخصّص في الهيدرولوجيا نظريّات حول حركة الرّواسب في الأنهار وتأثيرها على التّعرّجات. وأشار إلى أنّ تراكم الرّواسب في الضّفة الدّاخليّة للمنعطفات يؤدّي إلى زيادة التّعرّج، بينما يؤدّي التّآكل في الضّفة الخارجيّة إلى تغيير مسار النّهر بمرور الوقت. ثمّ تلاه آخرون مثل «وليام لونغ» و«لونا ليوبولد» وقدّما تفسيرات مفصّلة لتعرّج الأنهار بناءً على دراسات ميدانيّة ونمذجة رياضيّة تأخذ في الحسبان الانحدار وكمّية الرّواسب وسرعة تدفّق المياه في النّهر. كما قدّم «ألبرت موراي» و«كريس باولا» تفسيرات حديثة لتعرّج الأنهار باستخدام ديناميكيّات الأنظمة المعقّدة، وأشارا إلى أنّ التّعرّجات هي نتيجة لتفاعل غير خطّي بين تدفّق المياه والرّواسب والتّضاريس. كما قدّما تفسيرات بأنّ التّعرّجات تتشكّل بسبب تغذية راجعة إيجابيّة بين تدفّق المياه والترسّبات، فالمياه تتحرّك بشكل حلزوني في المنعطفات، ممّا يزيد من تآكل الضّفّة الخارجيّة، ومن ثمّ يزيد من انحناء النّهر، ممّا يعزّز التّعرّج.
الهوامش
(1) Die Ursache der Mäanderbildung der Flussläufe