نحو أفق جديد
بقلم |
![]() |
أ.د.عبدالجبار الرفاعي |
فلسفة ملا صدرا الشيرازي في معاهد التّعليم الدّيني |
يجري في المقرّر المتعارَف دراستُه في معاهد التّعليم الدّيني اختزال الفلسفة في الإسلام بفلسفة ملا صدرا(1)، وشيءٍ من ابن سينا، وشيءٍ من شيخ الإشراق السهروردي(2) المقتول، وغالبًا ما يجري التّعرّفُ على بعض أفكارهما عبر ملا صدرا، فيما يغيب بنحوٍ تام أو يشحّ حضورُ تراثٍ فلسفي واسع، أنجزه فلاسفةٌ معروفون. كانت فلسفةُ ملا صدرا وما زالت محورًا للدّرس الفلسفي في معاهد التّعليم الدّيني، وتنامت دراستُها واتسعت في نصف القرن الماضي. التّقليد المكرّس في هذا الدّرس اليوم لا يهتم إلّا بفلسفة ملا صدرا الشّيرازي، وتلامذةِ فلسفته. وكأنّ الفلسفةَ في الإسلام تبدأ وتنتهي بملا صدرا.
يلتقي القارئُ في المجلّدات التّسعة لكتاب «الأسفار الأربعة» باقتباساتٍ مطوّلة من آثار الفخر الرّازي وغيره، فقد قال بعضُ المحقّقين إن ملا صدرا نسخ كتابَ: «المباحث المشرقيّة»، ونصوصًا لابن عربي. ويلتقي القارئُ بكلمات القيصري شارح «فصوص الحكم»، مضافًا إلى نصوص من الكتب الأخرى، وغالبًا لا يشير ملا صدرا إلى ما يقتبسه، حتّى اتهمه البعضُ بالانتحال. وذهب آخرون إلى أنّ ملا صدرا جمع أكثر كتابه الأسفار الأربعة وغيره بنَسْخ مؤلّفات غيره، فقد كتب علي أصغر حلبي: «لا تكمن أهمّية فيلسوفنا في تأليفه كتابًا ضخمًا بحجم الأسفار، وإنّما تكمن أهمّيته في بيان بضع مسائل بديعة لا يتجاوز بيانها أربعين صفحة، ولو أنّ هذا الرّجل العظيم قد اكتفى بطرح هذه الأفكار في رسالة مختصرة، لكفى نفسه وكفانا مؤونة قراءة موسوعاته»(3) .
وكان الميرزا أبو الحسن جلوه (1238 - 1314 ه) أوّل من نبّه على ذلك. أبو الحسن جلوه فيلسوف مشائي من أتباع ابن سينا، والمعروف عنه أنّه كان لا يدرّس كتابًا إلاّ بعد أن يصحّحَه، ويشرحَ غوامضَه، ويحيل على مصادره ومراجعه.كان جلوه يحتفظ بنسخة مخطوطة من الأسفار الأربعة «موجودةٍ في مكتبة مجلس الشّورى في طهران. وهي مملوءةٌ بالتّعليقات، التي كتبها بين سطورها»(4). نبّه أبو الحسن جلوه إلى المراجع التي نقل عنها «ملا صدرا»، من دون أن يحيل إليها صاحبُ الأسفار، حتّى نسب بعضُ الباحثين الى جلوه أنّه ألّف كتابًا، بعنوان: «سرقات ملا صدرا، وأشاروا إلى أنّه محفوظ في مكتبة مجلس الشّورى. حيث تمّ استخراج الموارد التي أخذها صدر المتألّهين من الآخرين»(5). ولعلّها التّعليقاتُ المذكورة نفسُها، إذ لم تدرج في آثار جلوه، وهي غير موجودة اليوم في فهارس هذه المكتبة، وربّما أخفاها أحدُ عشّاق ملا صدرا.
كما اتهم الآغا ضياء الدين درّي ملا صدرا بانتحال أفكار غيره من دون إشارة. إذ تعرّض إلى هذا الموضوع عند التّعريف بملا صدرا في القسم الأخير من ترجمته لكتاب «كنز الحكمة» للشّهرزوري، الذي خصَّ به الفلاسفةَ الذين لم يرد ذكرُهم في هذا الكتاب. وهناك صرَّحَ بانتحالات ملا صدرا، وذكر العديدَ من الموارد، فقال بصراحة: «كان صاحب الأسفار يعمد إلى إسقاط بداية النّصّ وخاتمته، وفي أغلب الموارد تكون العبارات منقولة بشكل خاطئ، الأمر الذي كان يوقع الأساتذة المتقدّمين في الخطأ في سعيهم إلى توجيه تلك العبارات ... في الكثير من الموارد ينسب مسائل وأجوبة الآخرين إلى نفسه»(6).
حسن حسن زاده آملي، الذي هو أبرزُ المختصّين في عصرنا بآثار ملا صدرا، وأوسعُهم اطلاعًا وتتبّعًا، والذي قام بتصحيح الأسفار الأربعة والتّعليق عليها(7)، يقدّم لنا شهادتَه الصّريحة بهذا الشّأن، بعد 20 عاما من التّدقيق والتّحقيق والتّدريس لكتاب «الأسفار» وكتب ملا صدرا، وكتابَي الفتوحات والفصوص، ففي كتاب زاده آملي: «العرفان والحكمة المتعالية» وهو بالفارسيّة(8)، يقول: «إنّ جميع المباحث الرّفيعة والعرشيّة للأسفار منقولة من الفصوص والفتوحات وبقيّة الصّحف القيّمة والكريمة للشّيخ الأكبر وتلاميذه، بلا واسطة أو مع الواسطة... إذا اعتبرنا كتاب الأسفار الكبير مدخلًا أو شرحًا للفصوص والفتوحات فقد نطقنا بالصّواب، ولا سيما عندما يذكر: تحقيق عرشي»(9)، وأضاف حسن حسن زاده آملي ما نصّه: « كلّ ما لدى ملا صدرا هو من محيي الدّين وقد جلس على مائدته»(10).
وكتب جهانگيري في مقدمة تصحيح رسالة (كسر أصنام الجاهليّة) لملا صدرا: «إنّ جميع المسائل تقريبا، وأكثر العبارات والأحاديث الواردة في هذه الرّسالة - إلاّ في بعض الموارد المعدودة - منقولة عن مؤلّفات المتقدّمين على عصر صدر المتألّهين، وقد نقلها دون الإحالة إلى مصادرها، ويبدو أنّه كان يقوم بنقل الأحاديث من ذاكرته ودون الرّجوع إلى كتب الحديث. وكان لكتاب (إحياء علوم الدّين) للغزالي الحصّة الكبرى من الكتب التي اعتمدها صدر المتألّهين، وقام بتلخيص موضوعاتها»(11).
وأشار رضا أكبريان - الذي تولّى تصحيحَ المجلد التّاسع من الأسفار - في هوامش متعدّدة إلى ذلك، إذ يكتب مثلًا: «إنّ عبارة المصنّف في هذا الشّأن قد وردت في كتاب (المباحث المشرقيّة) مع شيء من التّغيير»(12). أو قوله: «إنّ مسائل هذا الفصل شبيهة بمسائل (المباحث المشرقيّة)»(13). ومن ثمّ ذكر موضعَ المصادر الأصليّة لتسهلَ على القارئ عمليّةُ المقارنة بين هذه الموارد. وفي الحقيقة، إنّ صدرَ المتألّهين قد أخذ هنا(14) ما يقرب من عشرين صفحةً عن الفخر الرّازي، دون أن يشيرَ إلى مصدره، مع قيامِهِ بتغيير بعضِ الكلمات والعبارات (15).
وكذلك أشار جوادي آملي في شرحه على الأسفار إلى هذه الحقيقة،كما في ذلك قوله: «إنّ بعض أبحاث هذا الفصل متطابقة مع أبحاث الفخر الرّازي في (المباحث المشرقية)»(16)، وهكذا قوله: «لقد ذكر ابنُ سينا برهانَ الصّديقين في الفصل التّاسع والعشرين من النّمط الرّابع من (الإشارات والتّنبيهات)، وقام المحقّق الطّوسي بشرحه، وإنَّ جانبًا من عبارات هذا الفصل من الأسفار هي ذات عبارات شرح الطّوسي على الإشارات» (17) .
كما نبّه أحمد خسروجردي إلى كيفيّة نقل ملا صدرا عن غيره، بقوله: «لم يقتصر على جملة واحدة أو جملتين، وإنّما قد يستغرق أحيانًا صفحة كاملة وحتّى أربع صفحات، بل وحتّى فصلًا كاملًا أو فصلين من كتب الآخرين، دون أدنى تغيير»(18).
وقال علي رضا ذكاوتي قراگزلو: «هناك فصلٌ كاملٌ في (عشق الظرفاء والفتيان وذوي الأوجه الحسان)(19) منقولٌ بنصِّه عن (رسائل إخوان الصفا)(20)، فعلى من أراد أن يجري مقارنةً بينهما، أن يقفَ على حقيقة ذلك» (21).
وكتب مهدي حائري يزدي: «المعروف أن صدر المتألهين قد أخذ أجزاء من كتاب الأسفار الأربعة وبعض كتبه الأخرى عن الآخرين دون ذكر أسمائهم. وهذا ما وجدته بنفسي، حيث رأيت اقتباساته عن (المباحث المشرقية) في كتاب (الأسفار الأربعة)، دون أن يشير إلى ذلك»(22).
كما صرّحَ غلام حسين إبراهيمي ديناني قائلا: «إنّ صدر المتألّهين في الكثير من الموارد قد نقل نصّ عبارات الفلاسفة والمتكلّمين والعرفاء الذين سبقوه، دون أن تصدر عنه أدنى إشارة للمصادر التي نقل عنها. والسّؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن تبرير صدور هذا الأمر عن مثل هذا الشّخص الحكيم والمتألِّه؟»(23).
تسيّدت فلسفة ملا صدرا في معاهد التّعليم الدّيني بشكل حجبت فلاسفة عالم الإسلام سواه، وبالغ المعجبون فيه إلى درجة جعلوه يتفوّق على فلاسفة المشرق والمغرب في تاريخ الإسلام، وقلّما درست آثاره دراسة نقديّة في معاهد التّعليم الدّيني، أو جرى التّفتيش عن مرجعيّات نظريّاته والكشف عن منابعها، وغالبًا ما تمّ التّسليم بما يقوله بلا تفحّص واختبار وتمحيص.
شدّد ملا صدرا في بعض كتاباته على أنّه هو مَن أبدع نظريّةً أو قاعدةً ما، وأنّه لم يسبقه للقول بها أحد، في حين نعثر عليها نفسها فيما أورده ابنُ عربي أو غيره قبله مثلًا،كما نلحظ ذلك بقوله: «وهذا مطلب شريف لم أجد في وجه الأرض من له علم بذلك»(24)، وهو يتحدّث عن قاعدة: «بسيط الحقيقة كلّ الأشياء»، التي وردت في آثار ابن عربي، فقد ذكر القيصري في شرحه لفصوص الحكم هذه القاعدة في سياق قوله: «لأنّ تلك الحقائق أيضاً عين ذاته حقيقة، وإن كانت غيرها تعينًا». والغريب أنّ ملا صدرا يورد نصًّا لابن عربي تأييدًا لما قرّره في هذه القاعدة، إذ يقول محيي الدّين: «العلم التّفصيلي في عين الإجمال»(25).
كما أنّ القارئ الخبير بكتاب الأسفار لملا صدرا وآثارِ ابنِ عربي يعرِفُ أن نظريّةَ الحركة الجوهريّة لملا صدرا هي صياغةٌ أخرى لنظريّة تجدّد الأمثال عند ابن عربي. وإن كانت نظريّةُ تجدّد الأمثال تتّسع لكلّ عالَم الإمكان الذي يشمل عوالِمَ العقل والمثال والمادّة، لكن ملا صدرا خصَّها بعالَم المادّة. ويعني تجدّدُ الأمثال أنَّ وجودَ كلّ شيء في عالم الإمكان يتلوه وجود، من دون أن يتخلّلَ العدمُ بينهما، أي في كلّ آنٍ يظهر وجود، ثم يليه وجودٌ جديد، وهكذا تتوالى الوجودات كلَّ آن. يرى المتصوّفةُ أنّ لكلّ وجود باطنًا وظاهرًا، وتجدّدُ الأمثال هو تجلِّي الوجود الإمكاني وظهوره من عالم الباطن. أمّا الحركةُ الجوهريّة فهي صيرورةٌ تكامليّة لكلّ شيءٍ موجودٍ في عالم المادّة، أي ليس هناك جوهرٌ ماديّ ثابت في الطّبيعة، كلُّ وجودٍ لجوهر في حالة صيرورة سيالة مستمرّة متواصلة، يتكامل وجوده معها بالتّدريج حتّى يتجرّدَ ليتوقّفَ، إذ لا حركةَ في المجرَّد(26).
وعلى الرّغم من الانقسام في المواقف من ملا صدرا، لكن تَسيَّد منذ النّصف الثّاني من القرن العشرين التّيارُ الصّدرائي، وحجب الأصواتَ النّاقدة لهذه الفلسفة. فمثلًأ تمحورت اهتمامات مرتضى المطهري وغيره من تلامذة الطّباطبائي بالفلسفة الصّدرائيّة، وأُعجب المطهري في توصيف أثرها بعبارات، هو أقرب لمديح الشّعراء من صرامة عقل الفلاسفة، فنراه يقول في سياق حديثه عن الحركة الجوهريّة: «إنّ من جملة الأفكار الثّمينة جدًّا لصدر المتألّهين، والتي غيّرت وجه الفلسفة، وفي الواقع غيّرت وجه العالم في نظرنا، هي إثباته للحركة الجوهريّة. وهي تعني أنّ جواهر هذا العالم، وتبعًا لها أعراض العالم، في تغيُّر دائم ومستمر، وأساسًا لا يوجد ثبات في عالم الطّبيعة»(27). والذي نعرف أنّ ملاّ صدرا (980هـ-1050هـ / 1572م-1640م) في الشّرق كان معاصرًا لديكارت (1596 –1650) في الغرب، ولا ينكر خبيرٌ بتاريخ الفلسفة أنّ عقلانيّةَ ديكارت كانت رائدةً في انبعاثِ العقلانيّة الحديثة، والتّحرّرِ من وصاية العقلانيّة الأرسطيّة. ولم نرَ حتّى اليوم أثرًا ملموسًا للفلسفة الصّدرائيّة في بناء عقل حديث في عالم الإسلام.
سنة 1991م ترجمتُ من الفارسيّة كتابَ «شرح المنظومة المبسوط» في أربعة أجزاء لمرتضى مطهري، وأردفتُه بترجمة: «محاضرات في الفلسفة الإسلاميّة» له أيضا، وكلاهما مطبوعٌ بالعربيّة، ولم أقرأ له فيهما كلمةٌ واحدة أو إشارةٌ عابرة في نقد الفلسفة الصّدرائيّة أو دعوة لضرورة مراجعتها ونقدها وتمحيصها. يرى المطهري بأنّ «ملا صدرا ألّفَ بين المسلك العقلي للفلسفة والمسلك القلبي للعرفان»(28). ونحن نعلم أنّ الفلسفة لا تخرج عن مرجعيّة العقل، فهي تستقي من العقل وتسقيه، والعرفان لا يخرج عن مرجعيّة القلب، فهو يستضئ بالقلب ويضيئه.
بسبب سطوة الفلسفة الصّدرائيّة لا يعرف أكثرُ دارسي الفلسفة في المعاهد الدّينيّة شيئًا عن فلسفة أول فيلسوف مسلم، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكِندي المتوفّى سنة 252 أو260 هـ، والذي عده كاردان cardan؛ أحدُ فلاسفة عصر النّهضة «واحداً من اثني عشر مفكرًا، هم أنفذ المفكرين عقولًا»(29). وأورد ابنُ النّديم في (الفهرست) قائمةً لمؤلّفات الكندي تجاوزت (230) عنوانًا(30)؛ منها ما هو في الفلسفة، ومنها ماهو في المنطق، والموسيقى، والحساب، والطّبيعة، وغير ذلك، لكن ما وصلنا منها هو مجموعةُ رسائل، ظلَّت حتّى عهد متأخّر طيَّ النّسيان، حتّى اكتشفها في الثّلاثينات من القرن الماضي المستشرقُ الألماني ريتر H-Ritter، في مكتبة أيا صوفيا بإسطنبول، فعكف عليها محمد عبد الهادي أبو ريدة، ونشر ما يتّصل منها برسائل الكندي الفلسفيّة والعلميّة في مجلّدين، صدر الأولُ منهما عام 1950م، وصدر الثّاني عام 1953م، وقدّم أبو ريدة لهذه الرّسائل بدراسةٍ مستفيضة عن الكندي، وفكره الفلسفي، وإسهامِه في تأسيس الفلسفة في الإسلام. وكانت بضعُ رسائل أخرى قد نُشرت للكندي في أوروبا قبل هذا التّاريخ بكثير، أي في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر بترجمات لاتينيّة، ضاع الأصلُ العربي لبعضها(31).
كذلك يظلّ تلميذُ الفلسفة في هذه المعاهد يجهل ما أنجزه الفيلسوفُ أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي المعروف بالمعلّم الثّاني والمتوفّى سنة 339هـ ، والذي وصفه ابنُ خلكان بأنّه: «أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرّئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرّج، وبكلامه انتفع في تصانيفه»(32). ولذا نصَّ غيرُ واحدٍ ممّن ترجموا لابن سينا أو درسوا فلسفته، على أنّه كان تلميذًا لتصانيف الفارابي، بل ذهب بعضُهم إلى أنّنا: «نكاد لا نجد في فلسفته شيئًا الّا وأصوله عند الفارابي»(33). وربّما لا يتاح لتلميذ الفلسفة سوى معرفة بعض الآراء القليلة للفارابي، المتناثرة في آثار ملا صدرا الشّيرازي، والفلاسفة التّالين له، ممّن يتعاطى التّلاميذُ دراسةَ مؤلّفاتهم في معاهد التّعليم الدّيني، وهي لا تقدّم صورةً واضحة عن الآثار الفلسفيّة للفارابي، ودوره التّأسيسي للفلسفة في الإسلام. يقول الشّيخ الرّئيس ابن سينا في ترجمته لنفسه: «وانتهيت إلى العلم الإلهي، وقرأت (كتاب ما بعد الطّبيعة)، فلم أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرضُ واضعه، حتّى أعدت قراءته أربعين مرّة، وصار لي محفوظًا. وأنا - مع ذلك - لا أفهمه، ولا المقصود به، وأيّست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، فحضرتُ يومًا، وقت العصر، في سوق الورّاقين، فتقدّم دلاّل بيده مجلّد ينادي عليه، فعرضه عليّ، فرددته ردّ متبرّم، معتقدًا أنْ لا فائدة في هذا العلم، فقال: اشتره فصاحبه محتاج إلى ثمنه، وهو رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، فاشتريته، فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب (ما بعد الطّبيعة). فرجعت إلى داري وأسرعتُ قراءته فانفتح عليّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب، لأنّه صار محفوظًا على ظهر القلب، ففرحت بذلك، وتصدّقت في اليوم التّالي بشيء كثير على الفقراء، شكرًا للّه تعالى...» (34).
واحدة من نتائج تقليد فلسفة ملا صدرا تعطيل الاختلاف والتّساؤل الفلسفي في معاهد التّعليم الدّيني. الفلسفة فنّ الاختلاف والتّشكيك والتّساؤل، تسود تاريخَ الفلسفة سلسلةٌ متوالية من الاختلافات والتّساؤلات الكبرى، وتقويض اليقينيّات المتّصلبة، والخروج على ما كان كثيرون يحسبونها بداهات راسخة. لولا ذلك لم تتعدّد المدارسُ الفلسفيّة وتتنوع، ولم تختلف الرّؤى والمواقفُ والآراء والمفاهيم المتصارعة للفلاسفة. يبدأ موتُ الفلسفة لحظة تتسلّط آراء فيلسوف واحد ويقلّده دارسو الفلسفة، ويرضخ الكلُّ لما يقوله. لا يتجلّى التّفلسف ولا يدلّل على حضوره وفاعليّته إلاّ بالأسئلة وإجابات الأسئلة التي تتوالد منها أسئلةٌ واختلافات في الرّؤى والآراء. التّقليد والاتباع يُفسِد التّفلسف.
اختصار الفلسفة بملا صدرا الشّيرازي في معاهد التّعليم الدّيني في القرن الأخير يعود إلى كون الفلسفة الصّدرائيّة مزيجًا من الفلسفة والعرفان، وهي تعبير واضح عن الحاجة إلى ما تنشده الحياة الرّوحية. فضلًا عن أنّ الفقهاء الذين قالوا بولاية الفقيه المطلقة يتبنّون نظريّة الإنسان الكامل في العرفان، وفلسفةُ ملا صدرا الشّيرازي أساسٌ لهذه النّظريّة، لذلك اتسعت دراسةُ هذه الفلسفة وتدريسها في قم بعد قيام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.
الهوامش
(1) ملا صدرا محمد بن إبراهيم القوامي الشيرازي. (980هـ - 1050هـ / 1572م- 1640م) هو صدر الدّين الشّيرازي والمعروف بصدر المتألّهين، حكيم وفيلسوف مسلم شيعي إثنى عشري ولد أواخر القرن العاشر الهجري في شيراز، وهو مؤسّس مدرسة الحكمة المتعالية بنظريّته الأساسيّة أصالة الوجود وإعتباريّة الماهية.
(2) أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك السُّهْرَوَرْدي ويلقّب بشهاب الدّين، وهو فيلسوف إشراقي، شافعي المذهب، من المتصوفة في زمانه ومن فقهاء عصره في الدّين والفلسفة والمنطق والحكمة ويسمّى مذهبه الذي عرف به «حكمة الإشراق» ولهُ كتاب بهذا الاسم. ولد في سهرورد الواقعة شمال غربي إيران
(3) حسب علي أصغر حلبي، تاريخ فلسفه در ايران وجهان اسلامي، ص 488
(4) مرتضى مطهري، مصدر سابق، ص 92.
(5) مهدي حائري يزدي، كاوشهاي عقل نظري، ص 32
(6)ضياء الدين درّي، كنز الحكمة، ترجمة تاريخ الحكماء لشمس الدين الشهرزوري، ج 2، ص 157، 160.
(7) أصدرت وزارة الارشاد في طهران عام 1414 هـ المجلد الأول من الأسفار الذي صححه وعلق عليه: الشيخ حسن حسن زاده أملي.
(8) العرفان والحكمة المتعالية ص 36.
(9) دومين يادنامه علامه طباطبائي، طهران، 1363 هـ - 1984م، ص 16، 36.
(10) المصدر السابق، ص 41
(11) انظر: صدرالمتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي،كسرأصنام الجاهلية،مقدمةالمصحح، ص34.
(12) انظر: صدر المتألهين محمد الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 9، ص 101.
(13) انظر: المصدر أعلاه، ص 103.
(14) أي: السفر الرابع، الباب التاسع، ص 103 ـ 107.
(15) انظر: فخر الدين الرازي، المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، ج 2، ص 421 ـ 428.
(16) عبد الله جوادي آملي، رحيق مختوم، شرح الحكمة المتعالية، ج 9، ص 205
(17) عبد الله جوادي آملي، شرح الحكمة المتعالية، الأسفار الأربعة، ص 133.
(18) انظر: سلسلة مقالات مؤتمر كرمان، ج 3، ص 627 ـ 628، نقلاً عن: علي رضا ذكاوتي قراگوزلو، سير تاريخي نقد ملا صدرا، ص 16.
(19)صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، ص 229 ـ 239
(20)رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، إذ تناولت الرسالة السابعة والثلاثون ماهية العشق، ج 3، ص 269 ـ 286
(21) علي رضا ذكاوتي قراگزلو، سير تاريخي نقد ملا صدرا، ص 18.
(22) مهدي الحائري اليزدي، كاوش هاى عقل نظرى، ص 32.
(23)غلام حسين إبراهيمي ديناني، نيايش فيلسوف (سلسلة المقالات)، ص 451 ـ 452.
(24)ملا صدرا، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج 6: ص 286-289.
(25)شرح القيصري على فصوص الحكم، قم، 1363=1984، ص7.
(26) للمزيد راجع: هُمائي، جلال الدين، رسالتان في الفلسفة الإسلامية: تجدد الأمثال والحركة الجوهرية، والجبر والاختيار من وجهة نظر جلال الدين الرومي، ترجمة: محمد حمادي، البصرة: شهريار، ص 37 – 47.
(27) المطهري، مرتضى، محاضرات في الفلسفة الإسلامية، ترجمة: عبد الجبار الرفاعي، قم: دار الكتاب الإسلامي، ص 121.
(28) نفسه، ص 96.
(29) دي بور، ت . ج . تأريخ الفلسفة في الاسلام. ترجمة: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة .القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر،ط4، 1957م، ص182.
(30) ابن النديم . الفهرست .تحقيق: رضا تجدد.طهران. ص315ـــ 320.
(31) مرحبا. د. محمد عبد الرحمن . الكندي : فلسفته ـــ منتخبات. بيروت ـــ باريس: منشورات عويدات،ط1، 1985م،ص13ـــ 15.
(32) ابن خلكان، أحمد بن محمد. وفيات الأعيان. تحقيق: د. إحسان عباس . قم: منشورات الرضي، ج5 .ص153.
(33) دي بور. تاريخ الفلسفة في الإسلام . ترجمة: الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة ، القاهرة: ط 4، 1957م، هامش ص 192.
(34) الطريحي، محمد كاظم، ابن سينا، بغداد: 1949م، ص 12.
|