تمتمات

بقلم
م.رفيق الشاهد
تسطيح
 ينام كلّ منّا ويفيق على صدى آمال يقرع طبلات أحاسيسه فيجعله متوتّرا أحيانا مهتزّ المشاعر بين نوبتي التّطرّف، وخامدا أحيانا أخرى تحت تأثير مخدّر يسكن أوجاع الحاضر ويزيل عنه ثقل همومه. الهمّ نقيض راحة البال التي يكتسبها المرء بتحقيق أهدافه دون الاعتداء على قيمه وفضائله التي آمن بها. والمهموم ليس الفاشل الذي لم ينجح في تحقيق أماله، بل هو من لم ترضه الطّريقة التي أوصلته إلى الهدف الذي طالما يرنو إليه. ذلك النّهج الذي سلكه كان يعلم أنّه منافيا لأخلاقه وأخلاق مجتمعه فيؤنّبه ضميره ويرتعد كيانه ويلبسه قناع البؤس والشّقاء.
مع الأسف لا تنهض أمّة لا تريد القوّة وإن عظمت الإرادة قوّة ووفرة. كلّنا وطنيّون إلى النّخاع، ولكن قليل القليل منّا تجرّأ فتجرّد من العفّة الزّائفة وتعرّى إلى أقصى درجات الحياء فلا يستره غير جلباب إنسانيّته. هكذا، كلّما أتقدّم في العمر يزيد اقتناعي أنّ مفهومنا لكلّ شيء سطحي لا يتعدّى حدود ما اكتسبناه من معرفة. بل أضيق من ذلك باعتبار الذّائقة الفنّية المنسجمة مع المرجعيّات الثّقافيّة والفكريّة.
كنت اعتقد أنّ الفنون هي التي قد تفتح الآفاق وتجعلها أوسع وأرحب، ولكن اليوم يزداد يقيني أنّ العلوم الاجتماعيّة والفنون كذلك، ما هي إلاّ أساليب تسطيح للوجود وللحقيقة. وأنّ كلّ عمل فنّي ومجمل الفنّ سطح وانسجام ألوان على لسان بعض المفكّرين الأجلاّء أئمة وفلاسفة. 
إن كان هذا المنظور ينطبق على أبسط الأشياء من حولنا، فأيّ حقيقة نتوقّع أن نستشفّ من نهر الزّمن الذي لا أحد ضبط حدوده ولا أحد أدرك نبعه ولا أين يصب؟ لا أتوقّع في جوابي على مثل هذا السّؤال حكمة أبلغ ممّا لو وجّه لقشّة تبن يحملها السّيل. هكذا واصلت النّملة طريقها ممسكة بين فكّيها بطرف من قطعة فتات خبز تجاوزت حجمها بكثير. لكنّها تمسّكت بها وتهادت تتأرجح متحدّية التّضاريس وتيارات الهواء التي تواجهها كشراع كان أولى بها إنزاله ولفه حماية للسّفينة وما عليها. ولكنّ النّملة بذكائها الفطري لم تستسلم ولم يثنها ثقل الحمولة ولا التّضاريس الصّعبة ولا الرّياح العاتية وواصلت طريقها الوعر ولا يثقل كاهلها إلاّ السّؤال. 
محظوظة هي تلك النّملة. فما كان حالها لو تحت وطأة ما تحمل، خامر ذهنَها السّؤال عمّا يدفعها لكلّ ذلك التّحدّي. أهي قوّة الإرادة؟ أم إرادة القوّة؟ ولا أزيد عليها المسكينة، من أين لها أن تتصوّر ربّما تكون قوّة إرادة، القوّة هي التي جنت عليها وجعلتها سيزيف النّمل؟
ولكن ما أدرانا؟، لعلّها أدركت من سيزيف النّمل أنّ قوّة الإرادة هي الوسيلة التي تجعلنا نقتطف الفرص التي تمنحها الطّبيعة والأقدار وتعرضها مجانيّة على رصيف المارّين بشارع الزّمن، شرطها الوحيد ان تُلتقَط من الزّاوية المناسبة. ولا يتفطّن اليها من لم يكن يقظا مترصّدا لحظة العرض. ولعلّها هي التي تسلّحت بقوّة الإرادة جعلتها عن وعي وبصيرة أداة لتحقيق إرادة القوّة لديها. في النّهاية أيقنت أنّها همست لي بعزم حتّى تُسمِع تلك النّملة سليمان، ذاك أنا: «هكذا هي قوّة الإرادة أو لا تكون». 
يا إلاهي! كيف يسير الكون؟ أهو وحي عن طريق النّملة؟، ما أثقله من سؤال! ويأتيني الجواب مباشرة وكأنّ النّملة تملي عليّ: «يسير الكون دون شكّ حسب تنظيم محكم ودقيق طبقا لقوانين ثابتة، تحرّك كلّها عناصر الطّبيعة وفي اتجاهات، إن لم يحدّدها عدد لكثرتها، فمن ضمنها سهم إرادة القوّة تفعّله جميع الكائنات الحيّة بحسب قوّة إرادتها».
وأضافت في حديث مسترسل أبيْت إلاّ أن أستصيغه وأفهمه: «يتسرّب فعل الإرادة وما ينجرّ عنه من تأثيرات باتت متوقّعة وأخرى كثيرة ظلّت دون ذلك، وتنساب كلّها في نظم تسيرها قوانين الكون المحكمة التّعديل، وإن بدت الفوضى في ملامح نتائجها فلأنّها فقط غريبة ومبهمة».
طبعا من منظور إلاهي كلّه محكم التّقدير. ومن منظور نملي أو إنساني رغم ما اكتسبه العقل البشري من معرفة وإدراك يبقى هو نفسه جزءا مظلما من هذا الكون، ولن يكون في وسعه أن يستوعب كلّ القوانين التي تسيّره.  ورغم ما تشير إليه نظريّات الفوضى من توافق وتراتب وتنظيم يبقى كلّ غير مدرك وغير متوقّع فوضويّا أو بمعنى آخر عشوائيّا حتّى يصدر ما يخالف ذلك. 
يبدو هكذا يسير الكون ويتطوّر، وفي كلّ مآل من مآلاته، تتمظهر قوّة الخالق ومن ورائها قوّة إرادة القوّة لدى مخلوقاته.