في محراب الأدب
بقلم |
![]() |
د.حسن الأمراني |
أنا، والعقّاد، والحبّ |
من مؤلّفات عباس محمود العقاد كتاب عنوانه: «أنا». وهو كتاب يضمّ فصولا، يروي فيها العقاد سيرة حياته منذ كان طفلا حتّى جاوز السّتين، وفصولا أخرى يتحدّث فيها عن موقفه من قضايا أدبيّة، وسياسيّة، واجتماعيّة.
وقد عهد العقّاد إلى صديقه العلاّمة محمود الطّناحي بهذه الفصول لينشرها في كتاب، وترك له اختيار عنوان للكتاب، كما فعل في بعض كتبه الأخرى. وقد انتهى التّفكير بالأستاذ الطّناحي إلى أن اختار هذا العنوان المثير: «أنا»، وكان العقاد، قبل وفاته بشهر، اقترح أن يكون العنوان: «حياة قلم»(1) .
وقال الطّناحي: «رأيت من الوفاء لنابغتنا الكبير، ولتاريخ الأدب، أن أنشر هذا الكتاب، واخترت له عنوان: «أنا»... ولو كان العقّاد حيّا لما رفض هذا العنوان».
ولقد كتب عباس محمود العقاد يوما، وقد نظر إلى مكتبته الضّخمة: «متى أقرأ هذه الكتب؟ ومتى أعلقّ عليها، ومتى أكتب عنها؟»، وهذا يفسّر لنا سرّ غزارة الإنتاج عنده، فهو لا يقرأ كتابا من الكتب، على تنوّع التّخصّصات التي يقرأ فيها، إلاّ سعى إلى أن يكون له تعليق عليه، أو تعريف به، أو نقد له. وهذا يشرح أيضا بعض عناوين كتبه، مثل: «ساعات بين الكتب»، أو «مطالعات في الكتاب والحياة»، أو «مراجعات».
وقد كان العقاد ناقدا، وشاعرا، وهو هنا وهناك لا يغيب عنه استعمال المنطق، حتّى وإن كان في ميدان الغزل، كقوله:
يومَ الظّنون صدعتُ فيك تجلّــــدي *** وحملت فيك الضّيم مغلـــول اليــد
وبكيت كالطّفــل الذّليـل أنــا الذي *** ما لان في صعب الحوادث مِقــــودي
وغصصــت بالمــاء الذي أعددتـــه *** للرّي في قـــــــــفر الحياة المجهد
لاقيت أهوال الشّـــــــــدائد كلّها *** حتى طغــــــت فلقيت ما لم أعهد
فقد جمع بين النّفس الرّومانسي وبين المنطق. وقد قال سعد زغلول عن العقاد إنّه كاتب جبار المنطق.إلاّ أنّ من صفات العقاد، فيما أرى، أنّه، رغم لجوئه إلى المنطق، في كثير من الأحيان، إلّا أنّه لا يلقي بالا في ما يسطره من آراء للمتلقّي، ولا يتعب نفسه في البحث عن حجّة لما يقول، بل هو يلقي هذه الآراء وكأنّها مسلّمات لا تحتاج إلى نقاش، ويثبت ما يراه وكأنّه القول الفصل، وذلك تطبيقا لمذهبه الذي يقول: «لا أريد أن أكون مروحة للقارئ». وفي هذا مشابه منه بالمتنبّي الذي كان يلقي آراءه، كالجبّار الذي لا يهتم برأي النّاس، ولا يبحث عن حجّة كما يرى ابن الأثير، وهو في هذا مخالف لأبي تمام الذي إذا ألقى رأيا بحث له عن حجج كثيرة، لا عن حجّة واحدة. فهو لمّا قال:
وإذا أراد الله نشر فضيلـــــــة *** طويت أتاح لها لســان حســود
ألحقه ببرهان لا يجادل فيه أحد من النّاس فقال:
لولا اشتعال النّار فيمـا جــاورت *** ما كان يعرف طيب عرف العــود
ولما قال:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى *** مـا الحــبّ إلاّ للحبيـــب الأوّل
ألحقه بحجّته قائلا:
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى *** وحنينـــــــــه أبدا لأوّل منزل
فالعقّاد إذن على مذهب المتنبّي، لا على مذهب أبي تمام.
وأنا أحبّ فلسفة العقاد في الحياة، وزهده في مظاهر الحياة الدنيا التي يتهافت عليها المتهافتون، وأحب إيثاره الكرامة على الشهرة، إن كانت الشهرة لا تأتي إلا عن طريق الهوان. وهو متعلق «بالحياة»، إن كانت مقترنة بأل التعريف، إلا أنه زاهد فيها إن صارت «حياة» مجردة من لام التعريف. وهو معنى تكرر كثيرا في كتبه، مما يجعله حقيقة واقعة في فلسفته.
نعم، أحب كل ذلك منه. إلا أنه من حقي أن أخالف العقاد في بعض الأمور، لا طلبا للمخالفة، كلا، ولكن لأنّي أرى الحقّ في غير ما ذهب إليه في بعض القضايا.
ومن تلك القضايا التي هي مثار جدل، ما يقوله العقاد في كتابه «أنا» عن الحبّ والصّداقة. ففي الفصل المسمّى «فلسفتي في الحبّ» حاول أن يعرّف الحبّ، على صعوبة تعريفه، فقال قولا هو أقرب إلى أحلام الفلاسفة والشّعراء.
قال: «يسألونك عن الحبّ قل هو اندفاع جسد إلى جسد، واندفاع روح إلى روح.. ويسألونك عن الرّوح، فماذا تقول؟
قل هي من أمر ربّي .. خالق الأرواح».
وهو في تعريفه هذا لا يكاد يُعرّف شيئا، وإن كان يكشف عن روحه، التي هي مخالفة لروح جبران خليل جبران، الذي لا يكاد يظهر من جسد المرأة إلاّ ما ظهر وحيا، على عكس الحقيقة التي جلاّها زميله ميخائيل نعيمه عنه.
ويعود العقاد إلى تعريف الحبّ فيقرنه إلى الصّداقة ويقول:
«ليس الحبّ الصّداقة، لأنّ الصّداقة أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحبّ أقوى ما يكون بين اثنين من جنسين مختلفين».
وهذه الموازنة بين الحبّ والصّداقة تذكّرنا بالتّمييز الذي حدّده نجيب محفوظ في «السّماء السّابعة» بين الصّداقة والحبّ، وإن اختلف منهج الرّجلين، حيث قال نجيب: «الصّداقة أقوى ممّا تظنّ، حتّى الموت يعجز عن محقها، كذلك الحبّ».
هذا، وفي كلام العقّاد عن الحبّ نظر. ففيه شيء من فلسفته القائمة على الجدل، حيث يقول: «وفي الحبّ شيء من العداوة، لأنّ المحبّ مكره على البقاء في أسر الحبّ، عاجز عن الإفلات من قيوده، ويقترن الشّعور بالإكراه والعجز دائما بشعور النّقمة والعداء».
وما كلّ النّاس تتّفق على أنّ الحبّ يصاحبه عداوة، ونقمة، وإكراه، إلّا أن يكون ذلك الحبّ قائما على حبّ التّملّك، تملّك المحبوب.
ولكن لعلّه استقى رأيه هذا من تجربته مع «سارة»، تلك التي لا يعرف عنها النّاس، إلاّ ما سطّره هو في روايته التي تحمل اسمها.
أم لعلّ رؤيته مستقاة من طبيعة علاقته مع حبيبته «مي زيادة»، تلك التي كانت تجالسه على انفراد فيأنس بها وإليها، ثمّ لا يمنعها ذلك من أن تجالس غيره من الأدباء.
نعم، إنّ العقّاد يتحدّث عن الحبّ بين رجل وامرأة، ولكنّه لا يحدّثنا عن طبيعة تلك العلاقة، وهل هي علاقة المراهقين الطّائشين الذين لا يبحثون إلاّ عن لذّة عابرة، أم هي تلك العلاقة التي تتحدّد بين الرّجل والمرأة من خلال الحلال والحرام. فإذا كانت العلاقة في الإطار المشروع فإنّ الحبّ يأخذ صفة المودّة والسّكينة، وتلك أعلى درجات المحبّة. فإن نحن أضفنا إلى ذلك عاطفة الوفاء، بلغنا الغاية القصوى من الحبّ الحقيقي.
أمّا إذا كانت خارج تلك الدّائرة، فما هي إلاّ نزوات الهوى، وشتّان ما بين الهوى والحبّ. وحسبنا أن ننظر في ألفاظ القرآن الكريم، ليتبيّن لنا أنّ لفظ «الهوى» لا يأتي إلاّ في سياق الذّمّ، وليست كذلك لفظة الحبّ، التي تأتي منسوبة إلى المؤمنين، وإلى الرّسول ﷺَ، بل وإلى اللّه عزّ وجل. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(آل عمران: 31).
وقد شكا رجل زوجته إلى عمر، وأنّه يريد أن يطلّقها، فلمّا سأله عن السّبب قال إنّه لم يعد يحبّها، فقال عمر بحكمته المعهودة: وهل تبنى البيوت على الحبّ وحده؟ فأين الوفاء(2). فعمر لم ينكر أن يكون الحبّ ممّا تقوم عليه البيوت، إلاّ أنّه لم يحصره في الحبّ وحده، فإذا تكدّرت عاطفة الحبّ، فهناك عناصر أخرى تحمي البيت من أن يتهدّم، ومنها الوفاء. ومن شأن الوفاء أن يحافظ على استقرار البيت أوّلا، ثم يفتح الباب لعودة الحبّ ثانيا. ولذلك شرع الإسلام في حال الطّلاق ألاّ تغادر المرأة في مدّة العدّة بيتها، لأنّ من شأن مكوثها بالبيت أن يفتح باب المصالحة بين الزّوجين، وعودة الحبّ من جديد.
قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾(الطلاق: 1)
وفي هذا ما يعين على عودة المحبّة، والتّراجع عن الطّلاق، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾
ورد في كتاب أحمد حسين هيكل: «الفاروق عمر»، في فصل عمر والحياة الاجتماعية، ما يلي:«روى مسلم بإسناده أنّ عمر قال: «واللّه إن كنّا في الجاهليّة لا نَعُدّ للنّساء أمرا، حتّى أنزل اللّه فيهن ما أنزل وقسَم لهنّ ما قسم، فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا؟ فقلت لها: وما لك أنت ولما هاهنا، وما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطاب، ما تُريد أن تُراجَع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول اللّه ﷺَ حتّى يظلّ يومه غضبان. قال عمر: فآخذ ردائي ثمّ أخرج مكاني حتّى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنيّة، إنّك لتراجعين رسول اللّه ﷺَ حتّى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة: وإنّا لنراجعه. فقلت: تعلمين أنّي أحذّرك عقوبة اللّه وغضب رسوله، يا بنيّة لا يغرّنك هذه التي قد أعجبك حسنها وحبّ رسول اللّه ﷺَ إياها. ثمّ خرجت حتّى أدخل على أمّ سلمة لقرابتي منها فكلّمتها، فقالت لي أمّ سلمة: عجبا لك يا ابن الخطاب، قد دخلت في كلّ شيء حتّى تبتغي أن تدخل بين رسول اللّه ﷺَ وأزواجه. قال عمر: فأخذتني أخذا كسّرتني به عن بعض ما كنت أجد فخرجتُ من عندها».
جرى هذا الحديث بين عمر وحفصة وأمّ سلمة في السّنة التّاسعة من الهجرة، بعد أن أنزل اللّه تعالى في النّساء ما نزل وقسم لهنّ ما قسم، فإذا كان ذلك شأن عمر، وهو من هو قرابة من رسول اللّه ﷺَ، وامتثالا لتعاليمه، فما بالك بغيره من العرب المنتشرين في شتّى الأرجاء من شبه الجزيرة. لا شكّ أنّه كان بينهم وبين أزواجهم وبناتهم وذوي قرابتهم مثل الذي كان بين عمر وابنته وأم سلمة أو أعنف منه، ولا شكّ أنّ النّساء قد أصررن على ما فرض اللّه لهنّ من حقّ لم يكن للرّجال أن ينكروه عليهن أو يناقشوهنّ فيه وقد آمنوا باللّه وكتابه ورسوله».
وهذا الحديث الذي أوردناه، نقلا عن الدّكتور هيكل، ليس استطرادا، بل هو من حاقّ ما نحن فيه. فرسول اللّه ﷺَ، الذي يحبّ أزواجه، ويعدل بينهن، لا يرى في مراجعتهنّ انتقاصا من الحبّ، ولا شكّا فيه. ولكنّه ﷺَ يُشرّع للنّاس سنّة التّعامل مع النّساء، اللّواتي كانت الجاهليّة تنظر إليهن على أنّهن خَوَلٌ.
ومن هنا ندلف إلى صورة أخرى من صور الحبّ، لا يجادل فيها العقاد، وإن كان لم يشر إليها في كتابه «أنا»، إلاّ أنّه أشار إليها كثيرا في عبقرياته. إنّه الحبّ الذي كان ما بين الرّسول ﷺَ وبين الصّحابة. نعم، إنّ منهم من عقدت بينه وبين النّبي ﷺَ صداقة لا مثيل لها في التّاريخ. إلاّ أنّ هذه الصّداقة لم تكن حجابا يحجب الحبّ، بل كانت على العكس من ذلك شاهدا على الحبّ، هذا الحب الذي لم يكن بين رجل وامرأة، بل كان بين رجل ورجل. وقد أقره الرّسول ﷺَ، بل دعا إليه، وطبّقه عمليّا مع أصحابه، كما طبّقه مع أزواجه.
في «المُفْهِمِ لما أشكل من كتاب تلخيص مسلم»، ج. 6، 2173، باب المرء مع من أحب، «عن أنس بن مالك قال: بينما أنا ورسول اللّه ﷺَ خارجان من المسجد فلقِينا رجلاً عند سُدَّةِ المسجد، فقال: يا رسول اللّه، متى السّاعة؟ قال رسول اللّه ﷺَ: «ما أعددتَ لها؟» قال: وكأنّ الرّجل استكان، ثمّ قال: يا رسول اللّه، ما أعددت لها كبير صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولكنّي أحبّ اللّه ورسوله. قال: «فأنت مع من أحببت».
قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشدّ من قول النّبيّ ﷺَ. قال انس: فأنا أحبّ اللّه، ورسوله، وأبا بكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل أعمالهم».
هذا، وقد وردت أحاديث أخرى عن الحبّ. ومن ذلك ما جاء في الجامع الكبير للترمذي، في باب المناقب، بسنده، قال: «عن عمرو بن العاص، أنّ رسول اللّه ﷺَ استعمله على جيش ذات السّلاسل، قال: فأتيته، فقلت: يا رسول اللّه، أيّ النّاس أحبّ إليك؟ قال: عائشة. قال: من الرّجال: فقال: أبوها».
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح أبي داود «أنَّ رسولَ اللَّه ﷺَ أخذَ بيدِ معاذ بن جبل، وقالَ: يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك، فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ».
فهذه بعض صور الحبّ، مما ورد عن رسول الله ﷺَ.
ومن صور الحبّ العالي، التي لو ظفر بها شكسبير، ما عداها إلى كتابه «روميو وجولييت»، قصّة حبّ زينب رضي اللّه عنها، مع زوجها أبي العاص.
والحديث ذو شجون، والحمد للّه رب العالمين
الهوامش
(1) انظر المقدمة، ص. 5
(2) ترد هذه العبارة في مواقع التّواصل الاجتماعي، حتّى الجادّة منها، وقد حرّفت تحريفا يشينها، حيث تصبح: «وهل يبنى الزّواج إلاّ على الحبّ؟»، ولو كان هذا ما قال عمر، إذن لكان إقرارا للرّجل على الطّلاق، وما إلى ذلك أراد.
|