نقاط على الحروف
بقلم |
![]() |
د. محمد البشير رازقي |
الفتوى وصدمة الحداثة في العالم العربي خلال الفترة المعاصرة (1-2) الفتوى والثّقافة المادّيّة: التّكن |
ساهمت الفتوى في نسج جوانب أساسيّة من المجتمعات الإسلاميّة، فالإفتاء هو آليّة تضمين أخلاقي قامت تاريخيًّا بهذه الوظيفة من خلال مجموعة من العلاقات الخطابيّة وغير الخطابيّة. ويعني «التّضمين الأخلاقي» وضع مختلف مجالات العالم الاجتماعي في مجال أخلاقي. أمّا بالنّسبة للعلاقات الخطابيّة للإفتاء، فإنّ التّجلّيات التّاريخيّة لإجراءاتها، وإنتاج الفتاوى تمثّل تشكيلًا خطابيًّا لأنّها أظهرت انتظامًا خاصًّا في عمليّاتها الخطابيّة. أمّا بالنّسبة لعلاقاتها غير الخطابيّة، فإنّ الفتاوى تضع الإجراءات والممارسات داخل الحقل الأخلاقي الإسلامي من خلال عمليّة اجتماعيّة محدّدة. وأخيراً، تولد هذه العمليّات مجالاً اجتماعيّاً من السّلطة التي تهيكل العلاقات بين الأفراد ومؤسّسات الإفتاء وتحثّ على التّصرّفات الشّخصيّة التي تسهل ممارسة المعايير المضمنة في الفتوى(1) .
وصف عمر عواس الفتوى بأنّها «الوحدات الذريّة atomic units» للشّريعة الاسلاميّة، كما كانت عنصرًا حاسمًا في تأسيس أصول الشّريعة الإسلاميّة(2). كما بقيت الفتوى خاضعة للتحوّلات الحضاريّة مثل طغيان الهجرة العالميّة، فقد أدّى ظهور عدد كبير من المسلمين في الغرب، الذين لا يملكون أي تقليد تاريخي لكونهم أقلّية في بيئة غير مسلمة، إلى جدل متكرّر حول اندماج المسلمين في المجتمعات الغربيّة ومدى توافق الإسلام مع القيم الغربيّة. إنّ انتشار المواقع الإسلاميّة التي يلجأ إليها الآلاف من المسلمين الغربيّين لطلب الفتوى، أي الرّأي الشّرعي الدّيني في أيّ مسألة، يشير إلى الحاجة الملحّة التي يشعر بها هؤلاء المسلمون لإيجاد مخرج لهذه الجدليّة المتضاربة، لأنّ معظم أسئلتهم تتعلّق تحديداً بكيفيّة التّوفيق بين المبادئ الإسلاميّة وبعض جوانب الحياة العصريّة في الغرب(3). وطبيعي هنا أن يُنظر للفتوى كوسيلة حيويّة وأساسيّة لصناعة الرّأي الفقهي والرّأي العام أيضا، إلى جانب وصم المخالف وتدعيم الحليف، بدون إخفاء الجانب السّياسي للفتوى(4).
تعدّدت الفتوى المرتبطة بالثّقافة الماديّة الدّخيلة عن العالم العربي، وقد اشتملت على الآلات الحديثة (سيّارات، حواسيب) والغذاء والألبسة، أي المأكول والمشروب والملبوس. طُرحت أسئلة طريفة ودقيقة جدّا مرتبطة بالآلات الحديثة، مثل حكم قراءة الحائض القرآن عن طريق الحاسوب المحمول، وكانت الفتوى بجواز القراءة لأنّ مسّ الحاسوب لا يُسمّى مسّا للمصحف(5). مثّل الحاسوب مصدر توتّر عائليّ خاصّة وأنّه يمنح الخصوصيّة للفرد بعيدا عن رقابة الأولياء، ولهذا أُستفتي رجال الدّين عن طبيعة العلاقة المثاليّة بين الأبناء خاصّة والحاسوب. قال المستفتي أنّه «طلب منّي زوج أختي أن أوصل لأختي حاسوبا ففعلت، لكن يستعمله أخي الأصغر في الموسيقى وكنت أتوقّع ذلك، فنصحت أختي أن لا تمكّن أحدا من استعماله في المعاصي مسبقا لكن لا جدوى. هل أنا آثم؟». وقد استرسل الشّيخ في الشّرح والتّأصيل ولخّص فتواه بالطّريقة التّالية: «أمّا إن كنت تظنّ أنّ أختك لن تستعمله إلاّ في ما يجوز لها شرعا، واشترطت عليها أن لا تمكّن أحدا من استعماله في ما حرّم اللّه، فلا بأس عليك. ولكن إن رأيت عدم وفائها بالشّرط، وجب عليك النّصح»(6).
يتبيّن لنا تبرّأ المفتي من الإجابة الصريحة حيث رمى الكرة في مرمى المُستخدم، هل يمكن أن نقول هنا أنّ السّياق الحضاري في هذه الحالة تغلّب على رجل الدّين؟ فما الذي أضافه عندما يخيّر السّائل بين استخدام الحاسوب في مرضاة اللّه أو اتّخاذه كوسيلة لارتكاب الذّنوب؟ وهل كان السّائل سيسأل سؤاله لو حسم أمره في مسألة ارتكاب الذّنب؟
يمكن القول أنّ المفتي في هذا النّموذج التّفسيري قدّم إجابة ظاهرها دنيوي وباطنها ديني صرف بدون إعطاء حلّ واضح، بل لم يتمكّن من الإنصات إلى هواجس العائلة الحقيقيّ وهي فقدانها للسّيطرة على مراقبة أبنائها لأنّ التّكنولوجيا الحديثة صُمّمت أساسا لترسيخ مؤسّسة الفردانيّة وتوفير الحدّ الأقصى من الخصوصيّة لمستخدميها. إذا لا يتوافق منطق المفتي المعتمد أساسا على حقّ الوالدين في مراقبة الأبناء مع منطق التّقنيات الحديثة الموجّهة أساسا لمؤسّسة الفرد. وهذا توتّر مهمّ في علاقة مؤسّسة الفتوى مع منتجات الحداثة.
تغلغل جهاز الحاسوب في مفاصل الحياة، سأل رجل بأنّه يريد معرفة حكم بيع أجهزة الحاسوب وأجهزة التّسجيل وكاميرات الإنترنت وغيرها من ملحقات الحاسوب، باعتباره يعمل وسيطا بين الشّركات الصّينيّة والدّول الأوروبيّة والعربيّة، وهو لا يعرف هل هذه الأجهزة تُستخدم في الحلال أم في الحرام، خاصّة وأنّ السّائل يحتاج للمال وصاحب عائلة وعليه ديون ويخشى أن يمارس عملا آخر لا يمكن له فيه تأدية الصّلاة، وهذه مناورة ذكيّة جدّا من السّائل. فقد سعى أساسا إلى ربط عمله بمكانته كراع ومسؤول عن رعيّة من ناحية، ومن ناحية أخرى شبّك بين إمكانيّة اضطراره للصّلاة عند تغيير عمله. إذا، فقد مارس السّائل نفس استراتيجيّة المفتي حيث رمى الكرة في ميدانه وحمّله مسؤوليّة عائلته وصلاته. وهذا ما يبيّن لنا أنّ السّائل نفسه يعتمد استراتيجيّات ذكيّة لنيل مبتغاه والإجابة التي يريدها.
وقد كانت إجابة المفتي: « فلا حرج عليك في التّوسّط بين التّجار وهذه الشّركات في بيع أجهزة الحاسوب، وإن كان التّجار يبيعون هذه الأجهزة للمسلمين ولغير المسلمين، لأنّ الغالب هو استعمال هذه الأجهزة في الاستعمال المباح. أمّا بيع أجهزة استماع الملفّات الصّوتيّة وكاميرات الإنترنت فإن كان التّجار يبيعونها في مجتمع مسلم فلا حرج أيضاً لأنّ الأصل هو سلامة المسلمين وعدالتهم وعدم استخدام هذه الأجهزة في الحرام، وإن كانوا يبيعونها لغير المسلمين فلا يجوز، لأنّ الغالب هو استعمالهم لها في استماع الموسيقى وإبداء العورات، وفعل الفواحش»(7).
يتبيّن لنا وعي المفتي برهانات واستراتيجيّات المستفتي ولهذا لم يمنع السائل من مهنته أو يحذّره منها، وبالمقابل مسك العصا من الوسط حيث حذّره من بيع الأجهزة للدّول الأجنبيّة، ولهذا لم يمنعه ولم يفتح له الباب كاملا. فهل تساءل المفتي مثلا إن كانت عمليّة البيع ثلاثيّة، أي مرتبطة بالصّين والعالم العربي وأوروبا، فما هو رأي المفتي في هذه الحالة؟ يتبيّن لنا إذا مصدر توتّر آخر بين المؤسّسة الدّينيّة وما يُسمّى اليوم باقتصاد المعرفة، فإن قلنا أنّه لا يمكن لنا أن نبيع الأجهزة الإلكترونيّة لأوروبا خوفا من استخدامها في «الحرام»، فهل يمكن لنا أن نبيع لهم الغاز والنّفط؟ فهل نحن ضامنون بأن يتمّ استخدام هذه المواد في «الحلال»؟
من ناحية أخرى، سعى عدد من السّائلين إلى تديين عمليّة تعلّمهم علم الحاسوب، فقد سأل شاب بأنّه طالب في الهند في حيدر آباد ويدرس الحاسوب، فهل يُعدّ خارجا في سبيل اللّه كطالب العلم الدّيني أم طالب العلم الدّنيوي لا يدخل في هذه النّعمة؟ بيّن له المفتي أنّه عليه أن يتعلّم علمه بنيّة القيام بفرض الكفاية، على ألاّ «ينصرف عن تعاليم دينه بالكلّية، بل الواجب عليه أن يصحّح عقيدته ويحصّنها ضدّ العقائد الفاسدة، ويتعلّم أحكام عبادته، كالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والأيمان والنّذور، ولا يجوز له أن يمارس عملاً -أي عمل- إلّا بعد معرفة حكم اللّه فيه. وبناء على ما ذكر، فإن كنت قد أردت بتخصّصك هذا إقامة فرض من فروض الكفاية، ولم تفرّط في شيء من واجباتك الأخرى، ولا في تحصيل العلوم العينيّة، فإنّك به ستكون مأجوراً عند اللّه تعالى وخارجاً في سبيله، وإن كنت إنّما أردت به غرضاً دنيويّاً محضاً، أو انشغلت به عن بعض الأمور الواجبة، فإنّك لا تكون مأجوراً أو خارجاً في سبيل اللّه، بل قد يحصل لك من الوزر بقدر تفريطك في الواجبات»(8).
يمكن أن نتساءل هنا: لو كان السّائل طالب طبّ أو تربية أو غيرها من العلوم غير المرتبطة بصدمة الحداثة، هل الإجابة ستكون نفسها؟ اتّبع المفتي هنا منهجا دينيّا صرفا في التّعامل مع متعلّمي علم الحاسوب، فيجب عليه أوّلا اخلاص النيّة للّه، وثانيا عدم التّفريط في واجباته الدّينيّة والحذر من «العقائد الفاسدة»، وهي قولة مُجملة وعامّة وحمّالة أوجه، إلى جانب التّحذيرات الواردة في النّماذج التّفسيريّة السّابقة التي تعاملنا معها وأهمّها عدم نفع الأجانب بهذه العلوم خشية استخدامها في معصية اللّه.
يبرز لنا إذا أنّ مثال الحاسوب الذي بدأنا به مقالنا بيّن لنا توتّر حادّ بين مؤسّسة الفتوى وبين تقنية حديثة ومرتبطة أساسا بالحداثة والعولمة، ولهذا اعتمد المفتي أساسا على خطوط دفاع متينة خوفا على الدّين والمستفتي ووظّف استراتيجيّة ذات ثلاثة أركان راسخة وصارمة: أوّلا التّحذير من هذا الوافد الجديد، ثانيا عدم إهمال الدّين عند التّعامل معه، وثالثا: عدم إفادة غير المسلم خوفا من إضراره بالدّين. ظاهر هذه الاستراتيجيّة هو حماية الدّين وباطنها خوفا من صدمة الحداثة ومرتكزاتها التقنيّة.
تبيّن لنا نفس هذا التوتّر عند دراستنا لآلة اللاّقط الهوائي (الدشّ) وقد استخدم المفتي نفس الأسلوب الحجاجي والإقناعي. طُرح سؤال عن اللاّقط الرّقمي (reciever) وكانت الإجابة أنّه «سلاح ذو حدّين يستخدم في الخير ويستخدم في الشّر»، وأمّا مع من يتعامل البائع فإنّ «جهل الحال، فالحكم للأغلب، فإن كان غالب حال أهل البلد هو أنّهم يستخدمونه في الخير، فالكراء جائز مع جهل حال المستعمل، وإن غلب استخدامهم له في الشّرّ حرم»(9).
لم يحسم المفتي هنا، مثل النّوازل السّابقة الأمر، وترك المسألة بيد السّائل نفسه، فكيف للمستفتي أن يعلم حال أهل البلد؟ فهل له القدرة على النّفاذ إلى أفئدتهم؟ والأهمّ من ذلك أنّ كلّ سلعة في العالم يمكن أن نستخدمها في الحلال وفي الحرام حتّى العسل نفسه يمكن أن يتحوّل إلى سمّ. إذا فالمتغيّر هنا ليس السّلعة، أو النيّة وإنّما توجّس المؤسّسة الدّينيّة من الآخر وبضاعته، أو بمعنى آخر عدم فهم واضح للمثاقفة وأساليب التّعامل معها على مستوى مؤسّسة الفتوى.
وقد تأكّد لنا هذا الأمر من خلال سؤال آخر موجّه للمفتي عن موقع اللاّقط الهوائي (الدّش) في الدّين، وقد قام المفتي مباشرة بإحالة السّائل لفتوى ابن عثيمين مباشرة بدون تحمّل المسؤوليّة أو بدون تفريق بين السّياق الزّمني للسّؤال المقدّم والسّياق الزّمني لفتوى ابن عثيمين. ورد في الفتوى: «انتشر في الآونة الأخيرة ما يسمّى (الدّش) الصّحن الهوائي، حيث ينقل القنوات الخارجيّة الكافرة وغيرها التي تعرض فيها أفلام خليعة يظهر فيها التّقبيل واضحاً والرّقص شبه العاري والكلام السّاقط والبرامج التي تدعو إلى التّنصير، فهل يجوز اقتناء مثل هذه الأجهزة والدّعاية لها والتّجارة فيها وتأجير المحلاّت لهم، علماً أنّ البعض يدّعي أنّه يشتريها لغرض مشاهدة الأخبار العالميّة؟ فأجاب: «قد كثر السّؤال عن هذه الآلة التي تلتقط موجات محطّات التّلفزيون الخارجي وتسمّى (الدّش) ولا شكّ أنّ الدّول الكافرة لا تألوا جهداً في إلحاق الضّرر بالمسلمين عقيدة وعبادة وخلقاً وآداباً وأمنا، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن تبثّ من هذه المحطّات ما يحقّق لها مرادها، وإن كانت قد تدسّ في ضمن ذلك ما يكون مفيداً من أجل التّلبيس والتّرويج، لأنّ النّفوس لا تقبل -بمقتضى الفطرة- ما كان ضرراً محضاً»(10).
نلاحظ أنّ هذه الفتوى اعتمدت أسلوبا لم نجده في باقي النّوازل وهو تشكيل صورة نمطيّة تحقيريّة تجاه الآخر مع الاعتماد على نظريّة المؤامرة، رغم أنّ اللاّقط الهوائي هو اختراع غربي لم يُوجد أصلا من أجل العالم العربي سواء للمنفعة أو المضرّة، بل هو منتج حضاريّ غربيّ ابن سياقه وزمانه ووُجد لتلبية رغبات حضاريّة غربيّة، ولم يصل للعالم العربي إلاّ كما وصلت له سلع أخرى استهلاكيّة ضمن مؤسّسة الرّأسماليّة القائمة على التّبادل والبيع والشّراء، أي الرّبح. ونستفيد من خلال هذه الفتوى من مرتكز آخر مهمّ وحيويّ اعتمد عليه المفتي في تعامله مع مرتكزات الحداثة وهو المؤامرة والمخاطر المحيطة بالإسلام ودور الغرب «الكافر» في ذلك. إذا بدون نظريّة المؤامرة لا يمكن تخويف المستهلك المسلم من هذه السّلعة الجديدة والوافدة والمهدّدة للأسرة والمجتمع.
الهوامش
(1) Omer Awass, “Fatwa, Discursivity, and the Art of Ethical Embedding”, Journal of the American Academy of Religion Vol. 87, No. 3 (SEPTEMBER 2019), pp. 765- 790
(2) Omer Awass, Fatwa and the Making and Renewal of Islamic Law From the Classical Period to the Present, Cambridge University Press, 2023
(3) Wael Farouq, The Fatwa in the Digital Age What Are Muslim Millennials Looking For?, springer, 2024, p.1- 7
(4) Carool Kersten (Editor), The Fatwa As an Islamic Legal Instrument: Concept, Historical Role, Contemporary Relevance, Gerlach Press, 2018
(5) كتاب فتاوى الشبكة الاسلاميّة، جزء 2، ص.305. (29 رمضان 1430). (https://shamela.ws/book/27107/6233)
(6) كتاب فتاوى الشبكة الاسلاميّة، جزء 6، ص.721. (4 شعبان 1429). (https://shamela.ws/book/27107/1383
(7) كتاب فتاوى الشبكة الاسلاميّة، جزء 12، ص.309. (29 ذو القعدة 1428). (https://shamela.ws/book/27107/50203)
(8) كتاب فتاوى الشبكة الاسلاميّة، جزء 9، ص.577. (27 ربيع الثاني 1426). (https://shamela.ws/book/27107/21560)
(9) كتاب فتاوى الشبكة الاسلاميّة، جزء 12، ص.332. (6 ذي القعدة 1427) (https://shamela.ws/book/27107/62226)
(10) كتاب فتاوى الشبكة الاسلاميّة، جزء 6، ص.584. (25 جمادى الأولى 1423) (https://shamela.ws/book/27107/13700)
|