خواطر
بقلم |
![]() |
شكري سلطاني |
حكمة الأقدار |
إنّ مُلك اللّه عزّ وجلّ وملكوته يسع كلّ مخلوقاته، وهو مجال لوجودهم وسعيهم وتصرّفهم، بحيث تتكشّف النّوايا والضّمائر، وتُعبّر أفعال العباد عن بواطنها وقوالبها النّفسيّة والفكريّة والشعوريّة .
في الجبر الإلهي وقضائه وقدره ونفاذ مشيئته وإرادته فرز وتنقية الصّالح من الطّالح والفالح من الخائب والكيّس من الأحمق والصّاحي من الغافل، فالكلّ يعمل على شاكلته وعلى قياسه ومقاسه يلبس رداء سعادته أو شقاوته .فكما تتقلّص دلالات عزّة العبد ورموزها وتتراجع كذلك يتّسع ويتمدّد معنويّا ذوقا وإدراكا وعرفانا وإهتماما وسلوكا لتتّضح ملامح هويّته التّي هو بها دالع، وكان قد صاغها من صميم سعيه وفعله وببصمات نفسه، وسجّل آثاره وتراثه، فهو القدر والمقدور بإذن ربّه .
فهل أنّ الكائنات العاقلة حقّقت ما ينبغي لوجودها على الوجه الذّي يناسب ذلك الوجود ؟
إنّ حكمة الأقدار عادلة بما تحمل من حكمة وإنصاف ،وحكمة اللّه سبحانه وتعالى أكبر من إستيعاب جميع مخلوقاته من ملائكة وإنس وجان، فهم لا يتحكّمون في قدرهم، بل يقوم القدر بتسجيل حصيلة ما يصلح لذواتهم وما يليق بهم .
إنّ الإطار السّياقي لحياة الكائنات العاقلة من إنس وجان وملائكة يعبّر عن مدلول جدّ هام لعناوينها وحقائقها ودرجة تعلّقها وإهتمامها وإنفعالها وتصرّفها وما هي أهل له، ليستوي المقام مع إستواء الحال وإستقراره. والإنصراف والتوجّه والفعل كلّها نتيجة مدوّنتها الوجوديّة خٍلقتها وخُلقها وإطارها المفاهيمي التّفسيري والسّلوكي. فالمتأمل جيّدا في ذوات الكائنات العاقلة كينونة وصيرورة، ومن أحوال ومآل يتبيّن بما لا يدع مجالا للشكّ والتفاضل بينها .
1 - الإنس :
هم خِلقة الطّين والصّلصال ونفخة من روح اللّه، و قد إتّصفوا ضمن السّياق العام الوجودي بالخسران وسكنوا في مجال العوز والنّقص دائرة العبث واللّهو والغفلة والنّسيان ودُنوّ الهمّة حيث التّفريط وقلّة العزم، مجال لا يُحقّق النّماء والرُقيّ إلاّ بالسّعي والكدح والجهاد . ألم يصف العزيز الجبّار الإنسان بالخسران بقوله: ﴿ وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾(العصر: 1-2) وإستثنى ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(العصر: 3). وذكّره بأنّ سعيه سوف يُرى ويُحاسب عليه ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾(النجم: 39)، وحثّه على الجهاد لكي يُجازى خيرا وتُحمد عقباه ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..﴾(العنكبوت: 69). أليس ذلك دلالة وبرهانا على عدم كمالهم ونقصهم وحالة العوز المعنوي لديهم؟
إنّ شريعة مولاهم هي رافعة لنقصهم تمكّنهم من الإشباع والإمتلاء الرّوحي المعنوي، فتسمح لهم بالإرتقاء والتّسامي . إنّ إدّعاء الإنسان الكمال وهو النّاقص الضّعيف العاجز وهْمُُ وجهل وتضييع فرصة التّدارك لسدّ نقصه. وكل أعمال العبوديّة لمولاهم بإخلاص وصدق إغناء لمعناهم ومفارقة حال العوز والنّقص والفقر المعنوي.
إنّ الأمر ليحتاج إلى علوّ الهمّة والعزيمة النّافذة للفعل، وإنّ هامش الحريّة المتاحة للبشر لا يمكن أن تُنسيهم حالهم، وضرورة أن تكون حياتهم عقيدة وجهادا، قاعدتها الصبر وقمّتها الشُكر .
2 - الجانّ :
هم خِلقة النّار، ذوات منفلتة وما وسعها ملكوت ربّها لغلبة شيطنتها وقوّة حركاتها، فهم طرائق قِددًا ،قد لمسوا السّماء فوجدوها قد مُلِئت حرسا شديدا وشُهُبّا تترصّدهم وتصدّهم وتتعقّبهم لغيّهم وفسقهم، قد سكنوا في مجال العدم والظّلمانيّة حيث الإفراط والتّسمّم المعنوي، فالخارج منهم مولود والسّاكن في مساكن الذّين ظلموا أنفسهم مفقود .لقد عبّروا عن إطارهم السّياقي بقولهم: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا﴾(الجن: 4)، وقولهم : ﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا﴾(الجن: 8-9).
ذوات حركتها سريعة وإنفلاتها واقع تصعب السّيطرة عليهم .هي كائنات ناريّة تتسامى وتتعالى وتغترّ وتتكبّر إلاّ القاسطون والصّالحون منهم الذّين إهتدوا بهدي ربّهم، فتسامت نفوسهم وإرتقت بما فهمت ووعت بمقام العبوديّة للواحد الأحد العليّ العظيم سبحانه، فعملت بما تعلم فأثابها ربّها تقوى وهدى.
3 - الملائكة :
كائنات نورانيّة وأرواح علويّة قد إستقرّت في المجال الأنسب والأرحب، هم جنود الرّحمان وصفوته من خلقه، لم يفارقوا الحضرة الربّانيّة منذ أن سكنوها وعرفوها جُبِلوا على طاعة مولاهم،ليست لهم غرائز ولا أصباغ بشريّة ولا جِنّيّة، إحساسهم راق، إستحقّوا التّشريف والتّسامي والرُقيّ على سائر الكائنات الأخرى .
أرواح علويّة منزّهة عن النّفس ومخالطة الهوى فلقد ذكرهم ربّهم بما تستحق شمائلهم وأعمالهم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾(الأعراف: 206)، وذكرهم سبحانه في موقف مُهيب بعد تمام حساب عباده ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾(الزمر: 75).لقد إستحقوا مكانتهم فهم أهل للكرامة والتّشريف والإشراف على مخلوقاته ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾(الانفطار: 10-12) .
والملائكة أصناف، منهم المقرّبون وأفضل المقرّبين رؤساء الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل. والإيمان بالملائكة هو الرّكن الثّاني من أركان الإيمان ومحبّة الملائكة الكرام من صفاء ونقاوة الإيمان .
إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يخاطب ملائكته كما خاطب الإنس والجان ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾(الرحمن: 13). إن العبرة بالنّهايات وإنّ مقام الملائكة عال، عبادتهم بريئة من دواعي النّفس والشّهوات البشريّة.
ولقد فهم الصّالحون من عباد اللّه عن ربّهم، فتسامت نفوسهم وإرتقت أرواحهم، وتشبّهوا بأوصاف الملائكة، فأصبحوا بذلك أصفياء اللّه سبحانه وأولياءه وخاصّته، ومدحهم بما يليق بمقامهم فقال:﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾(الفرقان: 63) وقال أيضــا : ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(يونس: 62).
فمتى يستفيق الإنس من غفلته والجانّ من كبوته لتحقيق عبوديتّهم لربّهم ؟ |