رسالة فلسطين
بقلم |
![]() |
أ. د. محسن محمد صالح |
البلاد العربية بين إهدار الطّعام والمجاعة في غزّة..(*) |
يبدو أن قيمة الطعام المهدَر الملقى في القمامة في سنة واحدة في بلادنا العربيّة، لا تكفي فقط لحلّ أزمة المجاعة في قطاع غزّة، أو إعادة إعماره، وإنّما تكفي لقطع أشواط كبيرة في تحرير القدس وفلسطين!! وذلك بناء على قراءة إحصائيّة موضوعيّة. فإذا كانت المقاومة البطوليّة التي أذهلت العالم على مدى أكثر من 470 يوماً، وتَسبَّبت بخسائر إسرائيليّة فادحة عسكريّة واقتصاديّة وسياسيّة...، لم تصل ميزانيّتها بأيّ حال إلى بضع مئات من ملايين الدّولارات؛ فإنّ قيمة ما يلقيه عالمنا العربي من الأغذية وبقايا الطّعام المهدَر في سلال المهملات بلغت نحو 150 مليار دولار أمريكي سنة 2024!! أي أكثر من 150 ضعفاً عمّا صرفته المقاومة.
في هذا المقال، لن نتحدث عن عشرات المليارات من الدّولارات التي تذهب هدراً على التّدخين، ولا عن عشرات المليارات الأخرى التي تذهب على وسائل التّرفيه والتّسلية والطَّرب وشراء اللاّعبين...؛ ولن نتحدث عن زيارة ترامب للمنطقة وحصيلتها المهولة (نحو 3.2 تريليون دولار) التي لا تغطّي فقط ميزانية قطاع غزّة لنحو ألف سنة، بل لعلّها تكفي لاقتلاع المشروع الصّهيوني من جذوره؛ فحديثنا سيقتصر فقط على الأغذية المهدورة.
إهدار الطعام في العالم العربي:
وفق تقرير مؤشر إهدار الأغذية (الطعام) لسنة 2024 الصّادر عن برنامج البيئة التّابع للأمم المتّحدة(1) فإنّ البلاد العربية تُعدُّ من أكثر بلدان العالم إهداراً للطّعام. ووفق معطيات التّقرير (وبالاستفادة كذلك من موقع المشهد السّكاني العالمي World Population Review في العنـوان المتعلّق بإهــدار الطّعــام Food Waste)، وبحسبة بسيطة لما تمّ إلقاؤه في القمامة من بقايا الطّعام أو الأغذية المهدَرة، فإنّ مجموعه يصل إلى 59 مليوناً و680 ألف طنّ تقريباً.
وحسب التّقرير فالطّعام المهدَر في مصر سنة 2024 بلغ 18.1 مليون طن، وبمعدل إهدار سنوي يصل إلى 155 كيلوجراماً لكلّ فرد، وفي العراق بلغ الإهدار 6.4 مليون طن بمعدل هدر يصل إلى 138 كيلوجراماً لكلّ فرد، وفي السّعودية 3.8 مليون طن بمعدل بلغ 112 كيلوجراماً للفرد، وفي الجزائر 5.1 مليون طن، بمعدّل بلغ 108 كيلوجرامات للفرد، وفي المغرب 4.2 مليون طن، بمعدّل بلغ 111 كيلوجراماً للفرد، وفي الإمارات 930 ألف طن بمعدّل بلغ 99 كيلوجراماً للفرد، وفي تونس بلغ 2.1 مليون طن بمعدّل بلغ نحو 173 كيلوجراماً للفرد، وبلغ في الكويت 420 ألف طن بمعدّل وصل إلى 99 كيلوغراماً للفرد؛ وفي الأردن 1.1 مليون طن بمعدّل بلغ 98 كيلوجراماً للفرد.
وكان لافتاً وجود قفزات كبيرة في الإهدار في سنة 2024 مقارنة بسنة 2021 في بلدان مثل مصر (82 كيلوجراماً للفرد سنة 2021)، والعراق (109 كيلوجرامات للفرد سنة 2021) وتونس (88 كيلوجراماً للفرد سنة 2021)، ولعلّ ذلك يعود إلى تحديث طرق جمع المعلومات وطرق عمل الدّراسات وتحليل البيانات؛ غير أنّ ذلك لا يقدح في حقيقة الحجم الهائل للإهدار في أيّ من السّنتين.
ولا يتّسع المجال لذكر كلّ البلاد العربيّة؛ ويمكن لمن يحبّ الاطلاع على قراءة إحصائيّة مُقارِنة بين سنتي 2024 و2021، أن يطّلع عليها في موقع المشهد السّكاني العالمي World Population Review في العنوان المتعلّق بإهدار الطّعام Food Waste. مع ملاحظة أنّ هناك بعض الفروق مع مؤشّر إهدار الأغذية الصّادر عن برنامج البيئة التّابع للأمم المتّحدة؛ وهناك بعض المراجع التي تعطي تقديرات متضاربة أحياناً، ربّما لاستخدامها إحصائيّات مختلفة زمنيّاً، أو بالعودة إلى مصادر تستخدم أساليب مختلفة في جمع البيانات وتحليلها، ولعلّنا استخدمنا هنا أقربها للدّقة؛ وأكثرها اعتماداً عالميّاً.
وبحسب المصادر المتوّفرة، فقد بلغت قيمة إهدار الغذاء في السّعوديّة نحو 40 مليار ريال سعودي، أي نحو عشرة مليارات و650 مليون دولار، وفي الإمارات نحو ثلاثة مليارات و500 مليون دولار. غير أنّه ليس ثمّة إحصائيّات متوفّرة عن تكاليف الإهدار في كثير من البلدان العربيّة. ولكن إذا ما استخدمنا الرّقم السّعودي لاستخراج دلالة استرشاديّة إحصائيّة لتكلفة الطّن الواحد، فستكون نحو 2,800 دولار أمريكي. وعلى فرض أن تكاليف الإهدار متفاوتة للطّن الواحد بين بلد وآخر، وعلى فرض أنّنا خفضنا معدّل التّكلفة «العربي» إلى نحو 2,500 دولار لتتناسب مع باقي البلاد العربيّة، لاستخراج مؤشّر أقرب إلى الصّحّة؛ فإنّ تكلفة الطّعام المهدَر (التي بلغت نحو 59.68 مليون طن) سنة 2024 ستكون نحو 149 مليار و200 مليون دولار؛ وهو مبلغ مذهلٌ حقّاً.
قراءة تحليليّة:
ثمّة عدد من النّقاط المهمّة التي تجدر الإشارة إليها في ضوء المعطيات السّابقة:
أوّلاً: تتحمّل البيئة الرّسميّة العربيّة مسؤوليّة كبيرة تجاه حالة إهدار الطعام في البلدان العربيّة، إذ ترعى معظم هذه الدّول «الثّقافة الاستهلاكيّة»، وتربط بين «التّقدّم» وبين «التّرف»، وتوفّر لذلك وسائل إعلاميّة وثقافيّة ضخمة، بينما لا تتبنّى برامج فعالة للحدّ من «التّرف» والإسراف، وفي المقابل يحارب عدد منها تنمية المشاعر الإسلاميّة والقوميّة، في مواجهة المشروع الصّهيوني ودعم الشّعب الفلسطيني.
وفي الوقت الذي يكثر فيه المنُّ والأذى من عدد من الأنظمة الرّسميّة العربيّة، بأنّها قامت بما عليها وزيادة تجاه فلسطين؛ فإنّ قراءة مقارنة بسيطة للأرقام التي بين أيدينا، تشير إلى أنّ الدّعم المالي الذي قدّمته أيّ دولة عربيّة خلال العشرين سنة السّابقة لا يصل إلى قيمة الطّعام المُلقَى في نفاياتها ولا لسنةٍ واحدة!!
على سبيل المثال، فإنّ مجموع الدّعم الرّسمي الذي قدّمته إحدى الدّول العربيّة الغنيّة الكبرى، التي تُعدُّ الأكثر دعماً لفلسطين، بلغ على مدى 22 عاماً (الفترة 1999–2020) نحو ثلاثة مليارات و925 مليون دولار مع دعم للأونروا بنحو 850 مليون دولار (المجموع أربعة مليارات و775 مليوناً) وهو ما يقلّ عن نصف قيمة الطّعام المهدَر في نفاياتها في سنة واحدة.
وكذلك، معظم الدّول العربيّة لم يزد دعمها المالي لفلسطين طوال الخمسين سنة الماضية عمّا يُلقى في نفاياتها في سنة واحدة.
ومن جهة أخرى، فإنّ أنظمة عربيّة جنت أرباحاً نتيجة تطبيعها مع «إسرائيل»، من خلال توفير شريان غذائي بريٍّ يوفّر الاحتياجات الإسرائيليّة، في الوقت الذي يقوم فيه العدو الإسرائيلي بفرض المجاعة على قطاع غزّة. بينما قامت أنظمة أخرى بالتّضييق على التّبرّعات الشّعبيّة، وحصرها في أطر رسميّة ضيّقة غير فعّالة، كما قامت بمحاصرة أو إغلاق مؤسّسات العمل الخيري؛ وحوّل بعضها العمل الشّعبي لفلسطين من «شرف» إلى «تهمة»، جعلت في هذا المجال عرضة للمطاردة والسّجن!!
ثانياً: هناك مسؤوليّة كبيرة على الشّعوب العربيّة في إهدار الطّعام، إذ إنّ أكثر من 60% من الطّعام المهدَر هو من الأُسر والعائلات التي تلقي بقايـا طعامهـا في القمامـة. ومن المؤسـف أن يزداد الرّمـي في النّفايات في شهر رمضان المبارك، حيث تشير التّقديرات إلى ارتفاع نسبة الطّعام المهدَر في هذا الشّهر إلى أكثر من 50% ممّا يتمّ إعداده، في عدد من البلدان العربيّة.
وتختلط لدى شعوبنا العربيّة (على مستوى العائلات والأسر) صفات الكرم وطيبة النّفس، مع المظاهر السّلبيّة للتّرف والبذخ وسوء التّقدير والمظاهر الكاذبة في الولائم والحفلات والمناسبات الاجتماعيّة. وهي مظاهر بدا أنّ بعضها تأثّر بأجواء طوفان الأقصى، فتمّ التّقليل من نِسَب الهدر، لكن هذا الضّبط كان مؤقّتاً ولم يستمر ليأخذ شكل الثّقافة أو العادات اليوميّة؛ ولذلك ظلّت إحصائيّات 2024 تعبّر عن تلك الثّقافة الاستهلاكيّة التي تتجاوز بكثير المعدّلات العالميّة.
وبالرّغم من حالة التّعاطف الشّعبي الهائل مع فلسطين في العالم العربي، وشبه الإجماع على دعم المقاومة ورفض التّطبيع، والغضب والإحباط من السّياسة الرّسميّة؛ إلاّ أنّ أيّ قراءة إحصائيّة مقارنة بين مجموع التّبرعات الشّعبيّة وبين الهدر «الشّعبي» للطّعام؛ تجعل نسبة التّبرّعات ضئيلة جدّاً قياساً إلى نسبة الإهدار. وربّما لعبت الموانع والعوائق الرّسميّة ووسائلها الإعلاميّة دورها في ذلك؛ غير أنّ مستوى الدّعم العملي يظلّ محدوداً قياساً بالسّلوك الاجتماعي الشّعبي والحياة اليوميّة للنّاس. بمعنى أنّ ثقافة «الإهدار» لم تتغيّر كثيراً لصالح ثقافة «الدّعم».
ثالثاً: عانت دولنا ومجتمعاتنا العربيّة، خصوصاً تلك التي رزقها اللّه سبحانه ثروات طبيعيّة، من محاولة القفز من التّخلُّف إلى الرّفاه، قبل التّدرّج في مشاريع النّهوض الحضاري، وانشغلت بالتّركيز على صناعة بيئات الاستهلاك والتّرف، قبل «صناعة الإنسان» القادر على مواجهة التّحديّات التي تعصف بالوطن والأمّة. فإذا وضعنا في الاعتبار أنّ المنطقة عاشت قروناً من التَّشرذم والاستعمار والعادات الضارّة، فإنّ المنتج سيكون تكريس حالة الإنسان الاستهلاكي المترهّل الكسول؛ المتهرِّب من المسؤوليّة، والمنشغل بمظاهر التّرف ووسائل التّسلية والرّاحة.
نحو دعمٍ فعال:
عندما نتحدّث عن الدّعم العربي لفلسطين وشعبها، فإنّه يأتي في إطار الواجب، الذي لا يكون فيه مَنٌّ ولا أذى، كما أنّه ليس مرتبطاً فقط بالعطف والشّفقة. وهو واجب إسلامي ديني، وواجب قومي، وواجب وطني؛ في مواجهة مشروع صهيوني يستهدف الأرض والمقدّسات، ويستهدف الأمّة، ومصالحها العليا وأمن بلدانها الوطني والقومي، ويسعى لفرض الهيمنة على المنطقة، كما أنّه واجب إنسانيّ حضاري.
وإذا لم يكن ثمّة قدرة على المواجهة العسكريّة مع الصّهاينة، فلا أقلّ من أن تتمّ تعبئة الإمكانات الاقتصاديّة والسّياسيّة والإعلاميّة في دعم قضيّة فلسطين ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
إنّ دعم المقاومة في فلسطين ومواجهة المشروع الصّهيوني، مرتبط بالشّعور الحقيقي بالمسؤوليّة، وإنزال ذلك عمليّاً على شتّى مناحي الحياة، وإعادة ترتيب منظومة معيشتنا وسلوكنا اليومي بما يتوافق مع المشروع النّهضوي الوحدوي الذي ينتج الإنسان الحقيقي «المستخلَف» من اللّه سبحانه.
كما أنّ مواجهة المشروع الصّهيوني تقتضي إعادة النّظر في فقه الأولويّات وفقه النّوازل، ونبذ التّرف (الذي يُعدّ أحد أبرز معالم السّقوط الحضاري) والتّعايش مع فقه «الاخشوشان» الذي يعدّ من شروط النّهوض الحضاري، والحياة المنضبطة المبدعة الجادّة التي تتعامل مع الموارد والثّروات بالشّكل الأمثل.
وأخيراً، فإنّه يمكن البدء بإحداث بعض الفارق على مستوى حياتنا الشّخصيّة والأسريّة، في التّفاعل مع قضيّة فلسطين (وقضايا الأمّة)، وتحديداً مع غزّة التي تتضوّر جوعاً، على الأقل من خلال تغيير سلوكنا الاستهلاكي، والتّوقّف عن إهدار الطّعام، والتّبرع بما تمّ توفيره، أو بما يقابل قيمة الطّعام المهدَر، أو بالصّيام والتّقشّف في أيّام محدّدة والتّبرع بقيمة الطّعام المفترضة لنصرة غزّة وتوفير احتياجاتها، وتخفيف معاناة أبناء الأمّة في كلّ مكان.
|