تطوير الذات
بقلم |
![]() |
محمد أمين هبيري |
قانون التسخير |
في إطار النّظرة الشّاملة للفلسفة الإسلاميّة للكون والحياة، يأتي قانون التّسخير كأحد الرّكائز الأساسيّة التي تنظّم علاقة الإنسان بما حوله من مخلوقات وموارد. يستمدّ هذا القانون أسسه من الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾(لقمان: 20)، والتي تؤكّد أنّ اللّه تعالى قد سخّر كلّ ما في السّماوات والأرض لخدمة الإنسان، وجعلها وسيلة لتحقيق عمارة الأرض وفق منهج ربانيّ متوازن.
قانون التّسخير هو مجموعة الأحكام والضّوابط الشّرعيّة التي تنظّم كيفيّة استفادة الإنسان ممّا سخّره اللّه له في الكون، بما في ذلك الموارد الطّبيعيّة والحيوانات والظّواهر الكونيّة. هذا القانون لا يقتصر على مجرّد الانتفاع المادّي، بل يشمل أيضًا الجانب الأخلاقي والرّوحي، حيث يربط بين الاستفادة من هذه النّعم وشكر اللّه تعالى عليها. يمكن تقسيم التّسخير إلى عدّة أنواع وفقًا لطبيعة ما سُخِّر للإنسان:
1. التّسخير الكوني: وهو تسخير الظّواهر الكونيّة مثل الشّمس والقمر والرّياح والبحار، والتي تسهم في استمرار الحياة على الأرض. قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾ (إبراهيم: 33).
2. التّسخير الحيواني: وهو تسخير الحيوانات للانتفاع بها في الرّكوب والحرث والغذاء وغيرها، مع وجوب الرّفق بها وعدم إلحاق الأذى بها.
3. التّسخير البشري: وهو تسخير الإنسان لخدمة أخيه الإنسان في إطار التّعاون والبرّ، مثل العمل الجماعي وتبادل المنافع بين الأفراد والمجتمعات.
على المستوى الفردي، يُعدّ قانون التّسخير تذكيرًا للإنسان بنعم اللّه عليه، ممّا يدفعه إلى شكر اللّه والاستفادة من هذه النّعم بشكل معتدل دون إسراف أو إفساد. كما يعزّز هذا القانون الشّعور بالمسؤوليّة تجاه البيئة والحيوانات، ممّا ينعكس إيجابًا على سلوك الفرد وأخلاقه.
أمّا على المستوى الجماعي، فإنّ قانون التّسخير يُرسي قواعد التّعامل مع الموارد الطّبيعيّة والحيوانات بشكل عادل ومستدام، ممّا يسهم في تحقيق التّوازن البيئي والاجتماعي. كما يشجّع على التّعاون بين أفراد المجتمع في استغلال الموارد بشكل مشروع، ممّا يعزّز التّكافل الاجتماعي ويحدّ من الصّراعات على الثّروات.
باختصار، قانون التّسخير ليس مجرّد مجموعة من الأحكام الشّرعيّة، بل هو منهج حياة يُذكِّر الإنسان بمسؤوليّته تجاه نعم اللّه، ويدعوه إلى الانتفاع بها بشكل متوازن وحكيم. من خلال الالتزام بهذا القانون، يمكن للفرد والمجتمع تحقيق الاستفادة المثلى من الموارد، مع الحفاظ على البيئة وضمان استدامتها للأجيال القادمة.
الجزء الأول: قانون التّسخير في ذاته
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأول نتحدث فيه عن مواصفات القانون والثّاني عن خصائص القانون.
العنصر الأول: مواصفات القانون
يتميّز قانون التّسخير بعدّة مواصفات تجعله نظامًا متكاملاً ومناسبًا لتنظيم علاقة الإنسان بالكون من حوله.
أوّلاً، هذا القانون ربّاني المصدر، حيث يستمدّ أحكامه من القرآن الكريم والسّنة النّبوية، ممّا يضفي عليه صفة القدسيّة والثّبات.
ثانيًا، يتميّز بالشّموليّة، حيث يشمل جميع جوانب الحياة، من تسخير الحيوانات والموارد الطّبيعيّة إلى تسخير الظّواهر الكونيّة مثل الشّمس والقمر والرّياح.
ثالثًا، يمتاز بالتّوازن، حيث يوازن بين حقّ الإنسان في الانتفاع بالطّبيعة وواجبه في الحفاظ عليها، ممّا يجعله نظامًا مستدامًا يحقّق مصالح الفرد والمجتمع دون الإضرار بالبيئة.
رابعًا، يتمتّع بالمرونة، حيث يمكن تطبيقه في مختلف الظّروف الزّمانيّة والمكانيّة، مع مراعاة التّطوّرات العلميّة والتّقنيّة دون المساس بثوابته الشّرعيّة.
العنصر الثّاني: خصائص القانون
يتمتّع قانون التّسخير بعدّة خصائص تجعله فريدًا ومناسبًا لتحقيق التّوازن بين الانتفاع بالطّبيعة والحفاظ عليها.
أوّلاً، هذا القانون أخلاقي في جوهره، حيث يرتبط بالشّكر والامتنان للّه على نعمه، كما جاء في قوله تعالى:﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾(إبراهيم: 34).
ثانيًا، يتميّز بالواقعية، حيث يراعي طبيعة الإنسان واحتياجاته المادّية، دون أن يغفل الجانب الرّوحي والأخلاقي.
ثالثًا، يمتاز بالعدل، حيث يحرّم الإسراف والتّبذير، ويحثّ على الاعتدال في استخدام الموارد، كما قال تعالى:﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(الأعراف: 31).
رابعًا، يتمتّع بالاستدامة، حيث يشجّع على الحفاظ على الموارد الطّبيعيّة وعدم استنزافها، ممّا يضمن بقاءها للأجيال القادمة.
بالإضافة إلى ذلك، يمتاز قانون التّسخير بالتّكامل مع القوانين الأخرى في الشّريعة الإسلاميّة، حيث لا يتعارض معها بل يعزّزها، مثل قوانين الحفاظ على البيئة والرّفق بالحيوان. كما أنّه عالمي، حيث يمكن تطبيقه في أيّ مجتمع بغضّ النّظر عن ثقافته أو نظامه السّياسي، لأنّه يعتمد على مبادئ فطريّة تتّفق مع حاجة الإنسان للانتفاع بالطّبيعة مع الحفاظ عليها.
باختصار، يتميّز قانون التّسخير بمواصفات وخصائص تجعله نظامًا متكاملاً ومناسبًا لتنظيم علاقة الإنسان بالكون. فهو ربّاني المصدر، شامل، متوازن، مرن، أخلاقي، واقعي، عادل، مستدام، ومتكامل مع القوانين الأخرى. هذه الخصائص تجعله أداة فعّالة لتحقيق التوازن بين الانتفاع بالطّبيعة والحفاظ عليها، ممّا يعكس روعة التّشريع الإسلامي وقدرته على مواكبة احتياجات الإنسان في كلّ زمان ومكان.
الجزء الثّاني: قانون التّسخير في موضوعه
يمكن تقسيم الجزء الثّاني إلى عنصرين؛ الأول نتحدث فيه عن مستلزمات القانون والثّاني عن غياب القانون.
العنصر الأول: مستلزمات القانون
لكي يُطبق قانون التسخير بشكل فعال، لا بد من توفر عدة مستلزمات أساسية تضمن تحقيق أهدافه. أولاً، الوعي الفردي والجماعي بأهمية هذا القانون وضرورة الالتزام به، حيث يجب أن يدرك الإنسان أن الانتفاع بالطبيعة هو حق مقرون بمسؤولية الحفاظ عليها. ثانيًا، التشريعات والقوانين التي تنظم كيفية استغلال الموارد الطبيعية والحيوانات، وتحدد العقوبات في حال الإسراف أو الإضرار بالبيئة. ثالثًا، التعليم والتثقيف، حيث يجب أن تُدرَّس مبادئ قانون التسخير في المناهج التعليمية، وتعقد الندوات وورش العمل لزيادة الوعي بأهمية الحفاظ على البيئة. رابعًا، التقنيات الحديثة التي تساعد في استغلال الموارد بشكل مستدام، مثل استخدام الطاقة المتجددة وتقنيات الزراعة الحديثة التي تحافظ على التربة والمياه. أخيرًا، التعاون الدولي، حيث يجب أن تتعاون الدول في وضع سياسات مشتركة للحفاظ على الموارد الطبيعية، خاصة تلك التي تتشارك فيها مثل الأنهار والبحار.
العنصر الثاني: في غياب القانون
غياب قانون التسخير أو عدم الالتزام به يؤدي إلى عواقب وخيمة على المستويين الفردي والجماعي. على المستوى الفردي، يؤدي غياب هذا القانون إلى انتشار الأنانية والاستغلال الجائر للموارد، حيث ينهمك الإنسان في تحقيق مصالحه الشخصية دون مراعاة للآثار السلبية على البيئة أو الأجيال القادمة. هذا السلوك قد يؤدي إلى تدهور البيئة ونضوب الموارد الطبيعية، مما يعرض حياة الأفراد للخطر.
أما على المستوى الجماعي، فإن غياب قانون التسخير يؤدي إلى تفاقم المشكلات البيئية مثل التلوث والتصحر وتغير المناخ، والتي تؤثر سلبًا على الاقتصاد والصحة العامة. كما أن الاستغلال الجائر للموارد قد يتسبب في نشوب صراعات بين الدول أو المجتمعات حول الموارد المشتركة، مثل المياه والأراضي الزراعية. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي غياب هذا القانون إلى فقدان التوازن البيئي، مما يهدد التنوع البيولوجي ويؤدي إلى انقراض العديد من الكائنات الحية.
خاتمة:
باختصار، قانون التسخير ليس مجرد مجموعة من الأحكام النظرية، بل هو نظام عملي يتطلب مستلزمات واضحة للتطبيق، مثل الوعي والتشريعات والتعليم والتقنيات الحديثة. في المقابل، فإن غياب هذا القانون أو عدم الالتزام به يؤدي إلى عواقب خطيرة على الفرد والمجتمع، مما يؤكد أهمية تطبيقه لضمان استدامة الموارد وحماية البيئة للأجيال القادمة.
|