تأملات
بقلم |
![]() |
عمر الموريف |
الأرشيف موضوعًا للتّفكير الفلسفي محاولة تأويليّة في ضوء مفاهيم التّاريخ، المعرفة، الوجود والفناء |
تمهيد:
لم تكن فكرة الأرشيف يومًا بمنأى عن رحاب الفكر الفلسفي وتجليّاته المتنوّعة. بل إنّ هذا الحضور يبدو أمرًا طبيعيًّا ومنطقيًّا، إذا ما استحضرنا طبيعة الفلسفة ذاتها، تلك التي لم تنفك يومًا عن الانشغال بهموم الإنسان وقضاياه الوجوديّة الملحّة. فالأرشيف، وإن لم يتبوأ دائمًا صدارة النّقاشات الفلسفيّة الصّريحة، إلاّ أنّه ظلّ يحايث مختلف الموضوعات التي استأثرت باهتمام المفكّرين عبر العصور. فالأرشيف، في جوهره العميق، ليس مجرّد مستودع مادّي لوثائق وذكريات الماضي؛ بل كيان ديناميكيّ يتشابك بعمق مع مفاهيم فلسفيّة جوهريّة تشكّل أسس تفكيرنا في العالم والوجود.
من هذا المنطلق، سنحاول الانخراط في رحلة استكشافيّة تسعى إلى تقريب المسافة بين الفلسفة وعالم الأرشيف. إذ نطمح من خلال هذه المحاولة التّأويلية إلى البحث المعمّق والمخفي في الكيفيّة التي تناولت بها الفلسفة مفهوم الأرشيف ولو عبر عمليّة إسقاطيّة لمفاهيم تشكّلت في بيئة وسياق آخرين، لكن يسعفنا حقّ التّأويل في ربطها بفكرة الأرشيف. هذا مع التّركيز بشكل خاصّ على الإسهامات الثّريّة لأعلام الفكر الفلسفي الذين تركوا بصمات واضحة في فهمنا للعديد من المفاهيم الأساسيّة.
إنّ التّساؤل المركزي الذي يوجّه مسار هذه المحاولة يتمثّل في: كيف يمكن الكشف عن تفاعل الفلسفة مع فكرة الأرشيف بوصفه مستودعًا للمعنى وفاعلًا في تشكيل فهمنا للماضي والحاضر والمستقبل؟
إنّ الإجابة على هذا الإشكال ستقودنا، ربّما، إلى فهم أعمق ليس فقط لتاريخ العلاقة بين الفلسفة والأرشيف، بل أيضًا للإمكانات الهائلة التي تتيحها العدسة الفلسفيّة في تحليل الأرشيف المعاصر واستخلاص المعنى من بين ثنايا وثائقه وذاكرته.
وعليه ارتأيت تناول الموضوع من خلال استحضار بعض الأفكار الفلسفيّة التي قاربت مفاهيم متنوّعة، رابطا إياها بفكرة الأرشيف، ليكون تقسيم موضوعنا على الشّكل التالي:
أولا: الأرشيف بين التّاريخ والمعرفة؛
ثانيا: الأرشيف من الحفظ إلى الفناء؛
على أن نختم بخلاصة نجمع فيها ما توصّلنا إليه من نتائج، مع التّأكيد على أنّها مجرّد محاولة تأويليّة هي أقرب للخطأ منها إلى الصّواب.
أوّلا: الأرشيف بين التّاريخ والمعرفة
يرتبط الأرشيف بالمجال التّاريخي، كما أنّه يساهم في البناء المعرفي. لذا سنقارب ضمن هذه النّقطة فكرة الأرشيف كموضع للفكر الفلسفي لدى كلّ من هيجل وميشيل فوكو.
1 - جدليّة التّاريخ والوثيقة
يقدّم هيجل قراءة مخالفة لصيرورة الأحداث في العالم وفق منهجيّة تجاوز فيها التّقليدي في العمليّة السّرديّة، ويحضرنا هنا كتابه «العقل في التّاريخ»(1) الذي سعى من خلاله إلى بناء فلسفة للتّاريخ حقّق بها هذا التّفرّد. وبالرّغم من أنّنا قد لا نقف على مصطلح «الأرشيف» ضمن ثنايا هذا المؤلّف، إلاّ أنّ تحليل هيجل لأنواع الكتابة التّاريخيّة، ومفهومه عن العقل والرّوح يقدّمان رؤية قيّمة لفهم السّجلات التّاريخيّة، ودورها في بناء المعرفة التّاريخيّة.
التّاريخ عند هيجل متنوّع، فهناك تاريخ أصلي وآخر نظري. كما أنّ هناك تاريخ فلسفي وتاريخ عقلي. هذا التّنوع هو ما يضعنا أمام إشكال حقيقي متمثّل في مدى الموضوعيّة التي يمكن أن تتّسم بها الكتابة التّاريخيّة. فهيجل يميّز بين التّاريخ الذي يكتبه المؤرّخ باعتباره شاهدا على الأحداث، وذلك الذي يكتبه مؤرّخ عن عصور لم يعشها ولم يعاينها(2)، الأخير هو الذي يتمّ الاعتماد فيه على الكتابات والسّجلاّت والشّهادات، أي على الأرشيف بالمصطلح الدّقيق. وبالتّالي يتمّ التّمييز في هذا الصّدد بين التّوثيق المباشر للأحداث التّاريخيّة ضمن إطار التّاريخ الأصلي، وبين مثيله الذي يعتمد على مجال التّوثيق والأرشفة باعتباره تاريخا نظريّا. وفي صلب هذا التّمييز بين التّاريخ الأصلي والتّاريخ النّظري ينبثق التّساؤل عن المصداقيّة التي يمكن الوصول إليها، أو الوقوف عليها ونحن نقرأ التّاريخ بمنظار النّوعين معا. فالتّاريخ الأصلي، رغم أنّه يبدو أكثر موضوعيّة، إلّا أنّه لا يخلو من التّحيّز الذّاتي للمؤرّخ. كما أنّ التّاريخ النّظري الذي يعتمد على الأرشيف، قد يواجه هو الآخر إسقاط الحاضر على الماضي. فالأرشيف ضمن هذا السّياق قد يظهر كمادّة خامّ بالنّسبة للمؤرّخ النّظري، لكنّه في الوقت نفسه يقدّم ذاته كمنتج ثقافي ساهمت في تشكّله مجموعة من العوامل التي فرضتها عمليّات الانتقاء، والحفظ والتّفسير. هذه الازدواجيّة التي وسمت الأرشيف هي ما يدفع للتّساؤل عن الطّبيعة الحقيقيّة له: هل يعتبر الأرشيف مرآة عاكسة لحقيقة الماضي كما هي، أم أنّه مجرد مادّة بنائيّة تشكّل فهمنا الخاصّ أو المفروض عن هذا الماضي؟.
كما يرى هيجل أنّ التّاريخ الفلسفي يعدّ بمثابة دراسة للتّاريخ من منظور فكري، حيث يؤكّد على أنّ العقل يمثّل القوّة المحرّكة للأحداث التّاريخيّة(3)، الشّيء الذي يعني استبعاد طرح أو فرض أفكار أو أحكام مسبقة، والاستعاضة بذلك بالكشف عن العقلانيّة المتأصّلة في مسار التّاريخ. ومن هذا المنطلق تحضرنا فكرة الأرشيف باعتباره ذلك المستودع المحتوي لتجليات العقل في التّاريخ، حيث لا تعدّ الوثائق التّاريخيّة، أو الأرشيفيّة بلغتنا هنا، مجرّد وقائع منفصلة، بل تعتبر تمثّلات وتعبيرات عن الرّوح الإنسانيّة وسعيها نحو الحرّية، الأمر الذي يضع المؤرّخ أمام تحدّيات كبيرة لعلّ أبرزها معرفة الطّريقة المثلى التي يجب أن تقرأ بها هذه التّجليات العقليّة.
كما يشدّد هيجل من جهة أخرى على العلاقة الجدليّة القائمة بين المؤرّخ والمادّة التّاريخيّة، فالمؤرّخ ليس كيانا منفصلا عن العمليّة التّاريخيّة بل جزء منها، ومعرفته للتّاريخ هي في جوهرها معرفة للذّات. علاوة على ذلك، يقدّم لنا مفهوم التّطور الجدلي للرّوح كقوّة ديناميكيّة للتّاريخ، حيث تسعى الرّوح لتحقيق ذاتها عبر مراحل متتالية ومتجاوزة للتّناقضات الدّاخليّة والخارجيّة(4). وهنا يمكننا أن نستحضر الأرشيف كسجلّ حيّ يصوّر لنا المسار التّطوّري للرّوح وصراعاتها، فالوثائق التّاريخيّة تشهد بطبيعتها على المراحل المختلفة والمتنوّعة التي مرّ بها الإنسان في رحلته نحو الوعي الذّاتي وتطلّعاته نحو الحرّية. الشّيء الذي يشجّعنا للقول بأنّ الأرشيف ضمن هذا التّأويل، يعدّ بحقّ، ذلك الكيان الحيوي الخاضع لإعادة الفهم والتّفسير في ضوء اللّحظة التّاريخيّة الرّاهنة، كما أنّه يعتبر الوعاء الحاضنة للذّاكرة الجماعيّة المتشكّلة عبر الأجيال. ليكون دور المؤرّخ إزاء هذا الوعاء هو القيام باستخراج كنوز الماضي وأصواته ومكوّناته، وإيصالها بكلّ تجرّد وموضوعيّة إلى عصره الحاضر.
2 - فكرة الأرشيف وفهم الخطاب
لمقاربة فكرة الأرشيف وما يمكن أن يربطها بفهم الخطاب، نستحضر هنا أهمّ المراجع الأساسيّة التي تطرّقت لموضوع المعرفة والخطاب، وهو كتاب «حفريّات المعرفة» لميشيل فوكو(5). فهو المرجع الذي يمكن أن نقف فيه على ما يمكن تسميته مفهوما ثوريّا لعمليّة الأرشفة، وهي التّسمية التي تجرّأنا على إطلاقها نظرا لقدرة فوكو على قلب التّصوّرات التّقليديّة، وتأسيسه لمنهج جديد في تحليل الخطاب. فمع ميشيل فوكو يمكننا أن نصدع بأنّ الأرشيف ليس مجرّد مكان لحفظ الوثائق، بل هو بنية معقّدة من القواعد والممارسات التي تحدّد شروط إمكانيّة المعرفة في فترة تاريخيّة معيّنة.
نجد أن ميشل فوكو يستعمل عبارة «نظام احتفاظ العبارة وظهورها»(6)، وهي العبارة التي نحسبها تتمتّع بقدر كبير من الدّقة والتّركيب اللّذين يسمحان بالإشارة إلى مفهوم الأرشيف، أو القيام مقامه كبديل تعريفي. فبناء على هذا النّظام، لا تقتصر العمليّة على مجرّد تجميع النّصوص، بل هو «قانون ما يمكن أن يقال»(7)، إنّه الإطار الذي يحدّد ما يظهر كمعرفة وما لا يظهر. وما يعدُّ مقبولا، وما يعتبر كذلك. فميشيل فوكو يوكّد في هذا الصّدد على أنّ هذا النّظام لا يمثّل فقط مجموعة أو كتلة من النّصوص المحفوظة، وإنّما هو «ما يجعل عددا من الأشياء المقولة من طرف البشر، منذ آلاف السّنين، لم تنبجس وفق قوانين التّفكير وحدها، أو نتيجة ظروف معيّنة»(8). لذا يمكن اعتبار الأرشيف، والحالة هاته، ليس مجرّد انعكاس للمعرفة القائمة، بل هو الذي ينتجها، فقواعد التّكوين للمفاهيم لا تنبع من وعي الأفراد، بل هي متأصّلة في الخطاب ذاته(9). فبالأرشيف يتمّ فرض هذه القواعد، وبه يتشكّل ما يمكن أن يعتبر معرفة في حقبة معيّنة. وفي هذا الإطار يوضّح فوكو الأمر بقوله أنّ «في التّحليل الذي نقترحه هنا، لا تجد قواعد التّكوين مكانها في العقليّة أو في وعي الأفراد، بل في الخطاب ذاته»(10).
وعلى عكس التّاريخ التّقليدي الذي يسعى لرصد الاستمراريّة، يركّز فوكو على الانقطاع والتّحوّلات التي تطرأ على الخطاب. لذا نعتبر أنّ الأرشيف يمكنه أن يكشف عن هذه الفجوات، ويظهر كيف تتغيّر قواعد تشكيل المعرفة، وكيف تظهر مفاهيم جديدة وتختفي أخرى (11). فالأرشيف ليس كيانًا ثابتًا، بل هو ديناميكي ومتغير، وتشكّله المستمر من خلال إنتاج الوثيقة بصفة مستمرّة من طرف المجتمعات البشريّة، الشّيء الذي يجعل من الاستمراريّة الحتميّة للنّشاط الإنساني لا يعني إلاّ استمرار الأرشيف نفسه. كما يؤكّد فوكو على أهمّية «إبراز تعدّد الانفصالات في تاريخ الأفكار»(12). كما يميّز منهجه الأثري عن تاريخ الأفكار، مؤكّدًا أنّه لا يهدف إلى تفسير الأفكار أو البحث عن المعاني الخفيّة. فبالمنهج الأثري يمكننا أن نقوم بعمليّة وصفيّة للأرشيف وتحليل قواعده الدّاخليّة، بدلًا من الانخراط في التّأويلات الفلسفيّة(13). فميشيل فوكو يوضّح أنّ «حفريّات المعرفة، ليست مبحثاً تأويليّاً ما دامت لا تسعى إلى اكتشاف خطاب آخر يتوارى خلف الخطاب»(14)، ويقترح بدلا من ذلك منهجًا «أثريًّا» يمكن الاستعانة به لدراسة الأرشيف كذلك. فهذا المنهج يهدف إلى الكشف عن القواعد والأنظمة التي تحكم تشكّل الخطاب، بدلاً من البحث عن المعنى أو التّفسير التّقليدي للنّصوص(15).
مع فلسفة ميشيل فوكو في حفريّات المعرفة، نستطيع التّصريح بأنّ الأرشيف لا ينفصل عن علاقات القوّة والمعرفة. فمن خلال توضيح فوكو لكيفيّة تشكّل المعرفة ضمن شبكات من السّلطة، يمكن رصد مدى تأثير الأرشيف على ما يعتبر «حقيقة» في مجتمع ما(16). يرى فوكو أنّ «هيمنة الإيديلوجيا على الخطاب العلمي، والنّشاط الإيديولوجي للعلوم، لا يظهران في مستوى بنيتهما الفكريّة[...] بل في النّقطة التي يتميّز فيها العلم عن المعرفة ويبرز بوضوح.
قبل الختم، نعرّج على تقديم سعيد بنكراد، مترجم كتاب فوكو «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»(17)، الذي نستخلص منه هو الآخر رؤية موازية لفكرة الأرشيف من خلال تأكيده على أنّ الكتاب ليس مجرّد سرد تاريخي، بل هو استكشاف لـ «ذاكرة العسف والإقصاء». يوضّح بنكراد (18) كيف أنّ فوكو يبدأ بدراسة المهمّشين ليغوص بنا في عالم سعى جاهداً أن يجتثّ من بين ظهرانيه كلّ ما لا يستقيم ضمن معاييره في الحكم. هذه المعايير في الحكم تمثّل تجليّات لقواعد الأرشيف في فترة تاريخيّة معيّنة، حيث يحدّد ما يُعتبر طبيعيًّا وعقلانيًّا، وبالتّالي ما يُصنّف كـ «لاعقل» ويستوجب الإقصاء. إنّ اختلاط صور الجنون بحالات أخرى تحت هذا التّصنيف لم يكن أمرًا عفويًّا، بل كان نتاجًا لعمل هذا الأرشيف الذي صنع مصالح جهات خاصّة بدلًا من أن يكون انعكاسًا لحقيقة طبيعيّة. بالتّالي، يمكن فهم دراسة فوكو للجنون كتحليل أثري لكيفية تشكل«أرشيف اللاّعقل» بقواعده وممارساته التي أدّت إلى تحديد هذه الفئة وإقصائها.
هل يمكن أن نقول بأنّ ميشيل فوكو يقدّم مفهومًا راديكاليًّا للأرشيف، أم العكس تماما؟
مع فوكو يتمّ قلب فهمنا للتّاريخ والخطاب والمعرفة. والأرشيف هنا لا يصبح مجرّد مخزن للوثائق، بل هو نظام فعّال ومنتج، يشكّل شروط إمكانيّة الفكر والمعرفة. تحليل الأرشيف، بهذا المعنى، هو تحليل للقواعد والممارسات التي تحدّد ما يمكن أن يُعتبر معرفة وما لا يمكن. لذا يدعونا فوكو إلى «فحص الوثائق من الدّاخل وتدبّرها»(19)بدلًا من اعتبارها مجرّد نوافذ على الماضي.
وعليه، فمقاربة فكرة الأرشيف على ضوء فلسفة ميشيل فوكو، يخرجنا من بوتقة تقليديّة للمفهوم، إلى آخر ثوري، يمكن معه الاستعاضة عن القديم، فكرا وممارسة ومفهومًا، لتشكيل نظرة أخرى مغايرة عن فلسفة للأرشيف أكثر عمقا وأكثر تركيبا.
ثانيا: الأرشيف من الوجود إلى الفناء
إذا كان يحقّ لنا أن نمثّل الأرشيف بالكائن الحيّ، فهذا يعني أنّه هو الآخر يتأرجح بين لحظتي الوجود والفناء، فكيف يمكن أن تمثّل لنا فكرة الأرشيف المعنى الوجودي في هذا العالم، وإلى أيّ حدّ يمكن أن تصوّر فلسفيّا فكرة فنائه؟
هما التّساؤلان اللّذان سننظر فيهما مستحضرين فكر كلّ من هيدجر وجاك دريدا.
1 - الأرشيف والوجود في العالم
في كتابه «الكينونة والزّمان»(20)، يقدّم هيدغر رؤية معقّدة لعلاقة الوجود البشري بالماضي، مستكشفًا مفاهيم متعدّدة تشبه في وظيفتها ما يمكن اعتباره «أرشيفًا» بالمعنى الواسع، لأنّ الأخير لا يقتصر مدلوله على مستودع للوثائق بل يشمل مختلف التّأثيرات الموروثة التي تشكّل فهمنا للعالم.
يرى هيدغر أنّ «الأنطولوجيا القديمة» تعمل كنوع من مستودع للأحكام المسبقة التي تعيق فهمنا الحقيقي للكينونة، هذه الأفكار الموروثة، ذات التّأثير القوي والمستمرّ على الحاضر، ينتقدها هيدغر ويدعو إلى التّشكيك فيها وتجاوزها للوصول إلى فهم أعمق للكينونة، ويشير إلى أنّ هذا الإرث، الذي لم يُفحص أو يُفهم بشكل كامل، يجعل تأثير الماضي الفلسفي أعمق وأكثر تعقيدًا، ممّا يستدعي القيام بـ«تنقيب» فلسفي لفحص أسس الفلسفة التّقليديّة. بالإضافة إلى ذلك، يرى أنّ الماضي الفلسفي يوفّر «قدوة سابقة» لكلّ بحث فلسفي جديد، مشكّلًا بذلك مسار الفكر الفلسفي(21)، حيث يمكن اعتبار «الأنطولوجيا القديمة» هنا تلعب دور الأرشيف الذي يخزن ويورث الأفكار الفلسفيّة.
يتناول هيدغر أيضا المفاهيم التي تشبه الأرشيف في سياق العلم. حيث يعتبر المعرفة العلميّة المتراكمة نوعًا من مستودع لـ «المعرفة الوضعيّة»، لكنّه ينتقد النّزعة الوضعيّة التي تركّز فقط على تجميع الحقائق في هذا المستودع، داعيًا إلى «التّنقيب الأنطولوجي» للوصول إلى الأسس الأعمق للمعرفة وتجاوز هذا المستودع السّطحي(22). كما يرى أنّ «المفاهيم الأساسيّة» لكلّ علم هي نوع من مستودع للمفاهيم التي يجب أن تخضع للفحص الفلسفي، وينتقد «المنطق» التّقليدي الذي يركّز على «منهج» العلم، معتبرًا إياه وعاء للمنهجيّة يجب تجاوزه. وفي هذا السّياق، يؤكّد هيدجر على ضرورة قيام الفلسفة بعمل تأسيسي يسبق بناء هذا الصّرح العلمي بكلّ عمقه وجذوره، موفّرًا الأسس التي يقوم عليها الفهم العلمي(23).
أفلا يمكن، إذا،اعتبار «المعرفة الوضعيّة» و«المفاهيم الأساسيّة» قائمة بدور الأرشيف الذي يخزن وينظّم المعرفة العلميّة؟.
في موضع آخر يستكشف هيدغر علاقة الزّمان والذّاكرة بما يشبه الأرشيف، مميّزًا بين «اللّحظة» (الحاضر الأصيل) و«الاستحضار» (الحاضر غير الأصيل)، حيث يمكن اعتبار ما هو حاضر ومتاح نوعًا من مستودع لما هو موجود في الحاضر. ومع ذلك، يرى أن «اللحظة» تمثل إمكانية لتجاوز هذا المستودع السطحي والوصول إلى إمكانات الوجود الحقيقية(24). كما يوضح أن التذكر لا يكون ممكنًا إلاّ على أساس «النّسيان»، الذي ليس نقيضًا للتّذكّر بل شرطًا له، حيث يمكن اعتبار ما هو حاضر ومتاح شيئًا يحاول مقاومة النّسيان. ويشير أيضا إلى إمكانيّة وجود نوع من «النّسيان المنتج» الذي يسمح بتجاوز ما هو حاضر ومتاح وإعادة اكتشاف الذّات(25)، حيث يلعب «الاستحضار» دور الأرشيف الذي يمثل الحاضر غير الأصيل، بينما يعمل «النّسيان» بطريقة معقّدة في علاقته بالذّاكرة.
يتطرّق هيدغر في كتاب «الكينونة والزمان» إلى ما يمكن اعتباره مكانا حافظاً للميول والمشاعر، حيث يرى أنّ «الأمزجة» يمكن فهمها كنوع حاضنٍ أو خزّان للميول والمشاعر، والذي يشكّل فهمنا للعالم. ويوضّح كيف يؤثّر هذا المستودع على فهمنا للزّمانيّة ويوجّهنا نحو المستقبل بطرق معيّنة، وكيف أنّ «الخوف»، على سبيل المثال، يمكن أن يشوه ذاكرتنا ويجعلنا نركّز على الأشياء الأقلّ أهمّية، حيث تلعب «الأمزجة» دور الأرشيف الذي يخزن تجربتنا العاطفيّة ويشكّلها (26).
صفوة القول، يقدم هيدغر في «الكينونة والزّمان» رؤية غنيّة ومتعدّدة الأوجه لكيفيّة تأثير الماضي على فهمنا للوجود. فمن خلال استكشاف مفاهيم مثل «الأنطولوجيا القديمة»، و«المعرفة الوضعيّة»، و«الاستحضار»، و«النّسيان»، و«الأمزجة»، يوضّح كيف أنّ الفلسفة التّقليديّة والمعرفة العلميّة والذّاكرة والعواطف تشكّل أنظمة من التّأثيرات الموروثة التي يجب فحصها وتجاوزها من أجل الوصول إلى فهم أعمق للكينونة. وهذه المفاهيم نحسبها تلعب أدوارًا مشابهة لدور الأرشيف في تخزين فهمنا للعالم وتنظيمه وتشكيله.
2 - الأرشيف: جدليّة الحفظ والفناء
تحضر ثنائيّة حفظ الأرشيف وتدميره في النّقاشات اليوميّة للعاملين في الميدان، فإذا كان قرار الحفظ ينطوي على مستويات عالية من الأمان والسّلامة، واعتبار قرار التّدمير أو الإتلاف من القرارات الحسّاسة والخطيرة التي تواجه الأرشيف، إلّا أنّ كليهما في حقيقة الأمر ينطوي على جزء من الخطورة والأمان معا. فالحفاظ غير المنظّم يجعلنا أمام طوفان للوثائق تضيع فيه الوثائق التّاريخيّة والهامّة وسط أخرى لا تمتاز بهذه الصّفات، كما أنّ التّدمير يمكّننا من توفير آليّات بقاء الأرشيف التّاريخي المتسم بسمات الأهمّية العلميّة والتّاريخيّة.
ضمن هذا الإطار، يقدم جاك دريدا في كتابه «الأرشيف، الفن والأثر»(27)، رؤية للأرشيف تتجاوز المفهوم التّقليدي له كمخزن محايد للوثائق، حيث يرى أنّ التّدمير ليس مجرّد نتيجة ثانويّة للأرشفة، بل هو جزء لا يتجزّأ من طبيعتها الجوهريّة. إذ يؤكّد دريدا على أنّ الأرشيف يبدأ بفعل الاختيار، الذي يمثّل في حدّ ذاته عنفًا، مستشهدًا بمقولته «لا يوجد أرشيف بدون عنف»(28)، ويذهب إلى أبعد من ذلك ليقرّر أنّ الأرشيف «ليس شخصًا يحتفظ به، إنّه شخص يدمّر»(29). ويوضح أنّ فعل الحفظ يستلزم بالضّرورة استبعادًا وإقصاءً وتدميرًا لبدائل أخرى، سواء على مستوى اللاّوعي الفردي، حيث يتمّ اختيار ما يتمّ الاحتفاظ به وكبت ما سواه، أو على مستوى المؤسّسات الثّقافيّة والاجتماعيّة، حيث يتمّ انتقاء بعض الأعمال الفنّية والأدبيّة للحفظ والإحياء بينما يضيع البعض الآخر أو يُنسى(30).
في هذا السياق، يشير دريدا إلى وهم السّيطرة على التّدمير، حيث يدّعي القائمون على الأرشيف أنّهم يعرفون «ماذا يدمّرون»(31)، لكنّ هذا الادّعاء يخفي حقيقة أنّ عمليّة التّدمير غالبًا ما تكون غير واعية وعشوائيّة، وأنّ قيمة ما يتمّ تدميره لا يمكن معرفتها على وجه اليقين، مؤكّدًا أنّه «لن نعرف أبدًا، بحكم تعريفها، ما كانوا على حقّ في تدميره، لأنّهم يدمّرون كثيرًا لدرجة أنّه لا يترك أيّ أثر»(32). كما يرى جاك دريدا أنّ الأرشيف يعمل بمنطق الحياة والموت، حيث أنّ الحفاظ على شيء يتطلّب تدمير شيء آخر، ويصفه بأنّه «أرشيف الشّر» لأنّه يقوم على هذا المنطق المفارقي(33).
ويحذرنا دريدا من العواقب الأخلاقيّة والسّياسيّة لعمليّة الانتقاء والتّدمير في الأرشيف، والتي يمكن أن تؤدّي إلى تهميش وإقصاء بعض الأصوات والرّوايات، مؤكّدًا على أنّ الأرشيف ليس مجرّد مكان محايد لحفظ المعلومات، بل هو فضاء سياسي وأخلاقي يتشكّل بفعل قوى السّلطة والهيمنة(34).
خاتمة
لقد سعينا من هذه خلال المحاولة التأويلية إلى استكشاف العلاقة الممكنة بين الفلسفة والأرشيف، ولعلنا اكشفنا ذلك العمق والتعقيد الذي يكتنف هذا المفهوم. لقد حاولنا تبيان أن الأرشيف ليس مجرد مستودع سلبي للوثائق، بل هو كيان ديناميكي ومتفاعل يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل فهمنا للماضي والحاضر والمستقبل. فمن خلال استحضار أفكار فلاسفة بارزين مثل هيجل وفوكو وهايدغر ودريدا، رأينا كيف يمكن للفلسفة أن تقدم لنا أدوات تحليلية قيمة لفهم الأرشيف من زوايا مختلفة. فقد كشفنا كيف يتشابك الأرشيف مع مفاهيم مثل التاريخ والمعرفة والوجود والفناء، وكيف يؤثر على تشكيل الخطاب والسلطة والهوية.
وبالرغم من عدم إدعائنا التمكن من الآلية الفلسفية كما يتقنها أهل الاختصاص، إلا أننا نطمع أن يشفع لنا القارئ محاولتنا في توضيح -ولو من خلال تأويل شخصي قد يكون غارقا في سوء التقدير- كيف أن الأرشيف من منظور هيجل، يمثل مستودعًا لتجليات العقل في التاريخ، وكيف أنه، من منظور فوكو، يشكل نظامًا للمعرفة يحدد ما يمكن قوله وما لا يمكن. كما استكشفنا كيف أن الأرشيف، في فكر هيدغر، يتشابك مع الوجود البشري وعلاقتنا بالماضي، وكيف أنه، في رؤية دريدا، يحمل في طياته جدلية الحفظ والفناء.
أحسب أن هذه النتائج قمينة لأن تدعونا إلى إعادة التفكير في الأرشيف ليس فقط كمكان لحفظ الوثائق، بل كفضاء حيوي للتفاعل الفكري والثقافي. كما أنها دعوة إلى تجاوز النظرة التقليدية للأرشيف والانفتاح على رؤى فلسفية جديدة يمكن أن تثري فهمنا لهذا المفهوم وتطبيقاته.
وفي الختام، نؤكد أن هذه المحاولة التأويلية ليست سوى خطوة أولى في رحلة استكشافية أوسع، وأن هناك المزيد من الأسئلة والتحديات التي تستدعي البحث والتفكير. إننا نأمل أن يكون هذا العمل قد أسهم في فتح آفاق جديدة للحوار بين الفلسفة وعالم الأرشيف، وأن يشجع على مزيد من الدراسات والأبحاث في هذا المجال الخصب والمتجدد.
الهوامش
(1) هيجل، العقل في التاريخ، المجلد الأول من محاضرات في فلسفة التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنويل للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة، 2007.
(2) المرجع نفسه، صص 36-39
(3) المرجع نفسه، صص 40-45
(4) المرجع نفسه، صص 127-130
(5) ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي بيروت لبنان، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الثانية، 1987.
(6) المرجع نفسه، صص119-120.
(7) المرجع نفسه، ص 119.
(8) المرجع نفسه.
(9) المرجع نفسه، ص 59
(10) المرجع نفسه.ص 59
(11) المرجع نفسه، صص 7-10.
(12) المرجع نفسه، ص 9.
(13) المرجع نفسه، صص 125-128..
(14) المرجع نفسه، ص 127.
(15) المرجع نفسه، ص 5-6
(16) المرجع نفسه، ص 170.
(17) ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد بنكراد نفسه، المركز الثقافي العربي بيروت لبنان، 2006
(18) المرجع نفسه، ص 14
(19) ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، المرجع نفسه، ص 8
(20) مارتن هيدجر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت لبنان، 2012..
(21) المرجع نفسه، ص 50-55.
(22) المرجع نفسه، ص 59.
(23) المرجع نفسه، ص 61-62.
(24) المرجع نفسه، ص 588.
(25) المرجع نفسه، ص 589.
(26) المرجع نفسه، ص 591-593.
(27) جاك دريدا، الأرشيف، الأثر ، الفن. ترجمة إبراهيم محمود، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، 2020.
(28) المرجع نفسه، ص 168.
(29) المرجع نفسه، ص 170.
(30) المرجع نفسه، ص 170-173.
(31) المرجع نفسه،.
(32) المرجع نفسه.
(33) المرجع نفسه.
(34) المرجع نفسه، ص 168-169.
|