في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
مَلاَمِحْ نِظَامٍ مَالِي قَوِيٌّ ومُنْصِفْ (3) مُسلّمات ، مفاهيم ، نُظم
 تمهيد
في سياق بحثنا عن ملامح نظام ماليّ قويّ ومنصف يضمن تدفّق الأموال، لتحريك النّشاط الاقتصادي ولتوفير فرص عمل لكلّ القادرين عليه، ومن ثمّة وضعَ حدٍّ لظواهر الإقصاء والتّهميش والعطالة، نتيجة الرّكود الاقتصادي، وصولا الى معالجة ظاهرة الفقر، المُستشري أبعاده والمُخطرة تداعيّاته.
وبعد بياننا للخلفيّة الفلسفيّة للنّظام المالي السّائد والمهيمن، في مقال أوّل(1)، وطبيعة تصوّرها العبثي للوجود الإنساني، بعدم إعطائه أهمّية للإنسان، ونظرتها العنصريّة له نتيجة ازدواجيّتها، ورؤيتها الدُّنيا للحياة، بتركيزها على بعدها المادّي وتهميشها لأبعادها المتعدّدة الأخرى، وما رشح عن تلك الفلسفة من مقاربة نفعيّة التّوجه (Utilitarian approach)وفرديّة الهدف (Individualized approach) ومادّية التّقييم. مُقاربة اصطبغ بها النّظام المالي السّائد منذ نشأته تتمحور حول هدف تحقيق أعلى قدر من الرّبح لأصحاب المال والمستحوذين عليه. 
وبعد عرضنا في مقال ثان (2) لتطوّر النِّظام المالي العالمي المُهيمن منذ نشأته أواخر القرن الثّامن عشر الى يومنا هذا، وإبراز مسؤوليّته عمّا آلت إليه أوضاع البشر في غالبيتهم العُظمى في مختلف مناحي حياتهم وعلى مستوى معيشتهم، نتيجة ما أفرزه من أزمات متعاقبة. 
 وأمام عُقم النّظام المالي الدّولي عن زيادة حجم الاقتصاد الحقيقي بالتّناسب مع انتفاخ الكتلة الماليّة وخسران ميزان الدّائرة النّقديّة والدّائرة الاقتصاديّة، وما نتج عنه من أزمات مُتعاقبة أفقدت المال دوره في إقامة الأعمال وتلبية احتياجات كل النّاس تيسيرا لعيشهم وتحسينا لنوعيّة حياتهم.
أمام كلّ هذا، نرى أنّ الحاجة ماسّة لإعادة النّظر في المسلّمات القائم عليها ذلك النّظام وإطاره العام وأنّ الضّرورة، لاستمرار حياة النّوع البشري وللحفاظ على كرامته، تفرض علينا إعادة وضع تعريفات بديلة وفرضيّات مغايرة، خاصّة بعد أن رفضها الواقع وباستمرار في تجارب مختلفة وأزمنة متعدّدة ومتباعدة المسلّمات والفرضيّات الّتي تمّ تشييد النّظام المالي الدّولي عليها. 
 وتدفعنا هذه الحاجة الى الشّروع في بلورة ملامح نظام مالي يكون قوِيًّا ومُنصِفا، ليكون قادرا على توليد المال بما يتناسب مع احتياجات حياة النّاس وعيشهم مع الحفاظ على قيمة ذلك المال، وذلك حفاظا على مقدرته الشّرائيّة وكذلك الإنتاجيّة، ولذلك سنعمل على عرض بِنْيَةٍ تصوّريّة كفيلة بتأطير ذلك النّظام ضمن تصوّر أصيل للإنسان يُعطيه قيمة ويمنحه دورا في الحياة يُحافظ به على كرامته وموقعا يليق به في هذا الوجود، ومن خلال شبكة من العلاقات ينسجها مع ذاته وكل مكونات الإطار الزّمكاني الذي يحيا ضمنه، وذلك سعيا منّا، بعد تحرير العقول من التّصوّرات المنحرفة، إلى إنارة العقول بتصوّرات بديلة للإنسان والحياة والوجود ككلّ، وبيان قدرتها على المستوى النّظري على الأقل في التّأسيس لنظام مالي قوِيّ ومُنصف.
I - مُسلّمات وأحكام
يشترط بناء نظام مالي قويّ ومُنصِف أساسا متينا يقوم عليه وإطارا سليما يحفظ الحقوق، وهذا الأساس هو المُسلّمات والأحكام الذي يحتوي عليها ذلك الإطار.
فالمُسلّمات هي الّتي تُمَكِّن من تحديد المفاهيم والقيم الّتي نُقيم عليها النّظام المالي والمنطلقات لتحديد أهدافه، كما تحتوي  أيضا أحكاما قضاها الخالق ليكون كلّ النّاس سواسية أمامها، وحتّى لا ينفرد أحد منهم بوضعها، أحكام تُنظّم، من جهة، علاقة الإنسان بعدوه (نظام الكرامة) ومن جهة ثانية علاقة الإنسان بالإنسان (نظام التّعاون)، ومن جهة ثالثة، علاقة الإنسان بالأشياء (نظام التّسخير والاستخلاف)، وهي أحكام مُحدّدة لمعالم طريق التّشريع للنّظام المالي المُرتقب ولسلوكيّات هياكله والأفراد القائمين عليه.
ونعني بالمُسلّمات المُعتقد الثّابت والجازم، ونعني بالأحكام القضاء الإلهي النّاجز والنّاتج عن تقدير حكيم ضِمن وعد إلاهي مفاده ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعْ النَّاسَ فَيَمْكُثَ فِي الْأَرْضِ﴾(الرّعد - 17)،
وهذه المُسلّمات هي تباعا:
1 - بين اللّه والإنسان ميثاق وعهد يستهدفهما الشّيطان في سياق عداوته للإنسان، مِيثَاٌق أقرّ فيه الإنسان بربوبيّة الله وعَهْدٌ، عَهِدهُ الله الى الإنسان، أوّلا أَلاّ يعبد الشّيطان، وثانيا بِأن لا يعبد إلاّ الله(3) .
فالعهد بألاّ يعبد الإنسان الشّيطان، مردهُ وعد هذا الأخير الإنسانَ بالفقر وأمره له بالفحشاء(4)(والبخل أقبحها، على نقيض العطاء) فعهد الله مرده عداوة هذا الشّيطان  للإنسان.
وأمّا عهده الى الإنسان أن لا يعبد إلاّ اللّه وذلك  في اتجاه تحصيل التّقوى، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاس اعْبِدُوا رَبُّكُم الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبِلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾( البقرة - 21) فمعناه أنّ بالعبادة تُصنع التّقوى بما يعني صِناعة إنسان مُمَيِّز في علاقته بالمال ﴿وَسَيُجَنَّبَهَا الأتْقَى الّذي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾(اللّيل -17- 18)(5)وصاحب إرادة عدم العلوّ في الأرض وإرادة الصّلاح فيها(6)،على نقيض ما صنعته المقاربة التّقليديّة من إنسان جشع في جمع المال وصاحب إرادة العلوّ في الأرض والفساد فيها.
فتسليم الإنسان بربوبيّة اللّه وبعهد اللّه إليه بإفراده بالعبادة وبعدم عبادة الشّيطان هي كلُّها ضمانة لحياة طيّبة للذّكر والأنثى على حدّ سواء، وهي سبيل الخروج من الأزمات وطريق الرّزق للأفراد وكذلك مفتاح البركات من السّماء والأرض لأهل القُرَى(7).
2 - ما في السّماوات والأرض للّه لا شريك له وكلّ ما فيهما مُسخّر للإنسان وهو مُستخلفٌ فيه، وتبعا لذلك، فاللّه هو المالك ومن ثمّة هو المُتصرّف وهو صاحب القُدرة على كلّ شيء، وهو الّذي سخّر للإنسان ما في السّماوات والأرض، وهاديه في إطار إستخلافه في الأرض بأن يُنفِق مِمَّا جعله مُستخلفا فيه، وأن لا يجعل المال دُولة بين الأغنياء من النّاس، ولتحقّق ذلك حكم بإحلال البيع وتحريم الرّبا، خُصُوصًا أكل أموال النّاس بالباطل، وعُمُومًا كما حكم بمَحقِ الرّبا ورِبا الصّدقات (8)  
3 - حتميّة مُساءلة اللّه للإنسان وحُكمه بحتميّة الجزاء، فالإنسان إذا تردّى لا يُغني عنه ماله ومُساءلته حتميّة ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونٌ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيم﴾(الشّعراء – 89)، والإنسان لم يُخلق في الحياة الدُّنيا عبثًا، بدون معنى، بل للابتلاء، إمّا شاكرا وإمّا كفورا، وأنّ اللّه خلق الموت والحياة لابتلاء كلّ النّاس، أيُّهُم أحسنُ عملا(9)، وقد حكم اللّه  بحتميّة الجزاء، وأنّ مصير كلّ نفس مُحدّدٌ بنوعيّة ما كسبت،  فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت(10) إمّا النّعيم أو الجحيم، وعلاقة الإنسان بالمال خاصّة وبالنِّعمة عامّة، مُحدّدة سواءً في تقرير مصيره في الآخرة وحمايته من نارٍ تلظّى حيث﴿سَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى* الّذِي يُؤتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إلاَّ إبْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾(الليل 17-21) أَوْ في تقرير حالته ومستقبله في الحياة الدُّنيا «فَأَمّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وصدّقَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرهُ لِليُسْرَى*وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَي*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرهُ لِلْعُسْرَى﴾(اللّيل 5-10) فسلوك العطاء والتّقوى والتّصديق بإحسان اللّه شروط تيسير حياة النّاس، وفي المُقابل فإنّ سلوك البخل والاستغناء والتّكذيب هي مُقدّمات تعسيرها. 
II- مفاهيم وقيم
ما كان لفئة من النّاس أن تستحوذ على ما في الأرض وتأكل أموال النّاس بالباطل من خلال سرقتها أو احتكارها ووضع تشريعات وإنشاء هياكل للبخل وعدم إنفاقها في ما ينفع جميع النّاس لو سلّمت بالميثاق الذي قطعه أفرادها مع اللّه بشهادتهم بربوبيته ووفائهم بما عهده اللّه لهم بعدم عبادة من يأمرهم بالفحشاء، والبخل أقبحها، وبالمنكر، كوسائل مشبوهة وظالمة للكسب.
ولو تواضع هؤلاء المُستحوذون على المال على وِحدة أصلهم مع كلّ النّاس وأنّهم جميعا مستخلفين في مال اللّه وبالتّالي شُركاء في التّصرّف فيه، لَمَا سمحوا لأنفسهم بوضع مفهوم مزدوج للإنسان يسمح لهم باستغلاله من أجل استحكام استحواذهم على المال، كالنّظر اليه والتّعامل معه كعبد من خلال السّيد ثمّ كقنّ من طرف الاقطاعي، ومن بعد ذلك كعامل من طرف صاحب العمل، وضِمن هذه النّظرة بدأ التّعامل معه كعبء ثمّ كمورد، ثم بدأ الحديث عنه كرأس مال وجب الاعتناء به توفيرا لشروط تحقيق أعلى قدر ممكن من الرّبح للمستحوذ على وسائل الإنتاج، الى أن أصبح اليوم الحديث على الإنسان الآلي والاعتماد على الذّكاء الاصطناعي.
ولم يكن لهذه الازدواجيّة في صياغة مفهوم للإنسان أن ترى النّور لو لم ينطلق أصحابها من مُسلّمة أنّ الملك لهم وأنّ المال لهم، مُسلّمة حدّدت لهم مفهوما شرّع لهم، من أجل الحفاظ على ملكيّتهم للمال استعباد الإنسان واستضعافه، ووضعوا شرائع وأنشؤوا هياكل لاستدامة مراكمتهم للمال ولو على حساب تقييد حرّية الإنسان واستهداف كرامته، الأمر الّذي فجّر ظواهر الفقر والحرمان التي ما فتِئت دائرة ضحاياها تتّسع وجعل حالة العسر وعدم الاستقرار تعمّ أرجاء المعمورة. 
وما كان لهذه القلّة المُستحوذة على المال أن تُحدّد دورا للإنسان على أن يكون في خدمة أطماعها لو لم تنطلق من مُسلمّة غياب المساءلة النّابعة من غياب ايمانها باليوم الآخر ومن أنّ الحياة ليست فرصة لعمل الأحسن.
وفي غياب الايمان باللّه المالك الحقيقي وعدم سلوك نهج العمل الصّالح، وفي غياب إفراد اللّه بالعبادة، من خلال اتباع هديه في علاقة بالمال شرط توفّر تقوى الإنسان، فإنّ الأزمات لم تقف عن التّعاقب باستمرار، وأصبح عسر الحياة حال جلّ النّاس، وهذا ما يُثبتُهُ الواقع كلّ يوم.
 وأمام هذا الوضع، ونظرا لما يفرضه علينا انتماؤنا للعنصر البشري، نرى من الحيوي بلورة مفهوم واحد للإنسان على أساس ما سبق وضعه من مسلّمات وفي إطار ما توصّلنا إليه من أحكام وذلك تمهيدا لوضع ملامح نظام الكرامة، تنظيما لعلاقة الإنسان بعدوه وملامح نظام التّعاون تنظيما لعلاقة الإنسان بالإنسان، وملامح نظام التّسخير، تنظيما لعلاقة الانسان بالأشياء.
فالإنسان هو كائن حكم خالقه بجعله خليفة في الأرض وعلّمه الأسماء كلّها(11)  وكرّمه وحمله في البرّ والبحر ورزقه من الطيّبات وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلا(12)وسخّر له ما في السّماوات والأرض، وجعله مستخلفا فيهما، وبعث له الأنبياء والمرسلين، وأنزل عليهم الكتاب وختمهم بالرّحمة للعالمين، يتلو عليه آيات اللّه ويعلّمه الكتاب والحكمة(13) كلّ ذلك لتعمير الأرض ممّا يمنح الإنسان قيمة قصوى مقارنة بجميع الخلق، وهداه بالقرآن الى السّعي الّذي حكم من خلاله ﴿وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى﴾(النجم - 39)، كما هداه إلى سلوك الإنفاق والعطاء ممّا جعله مستخلفا فيهما، ونهاه عن سلوك اكتناز المال وتبذيره أو الإسراف من جانب وعدم التقتير أو البخل من جانب آخر(14). 
وأمام مُعاداة الشّيطان للإنسان المستهدفة لكرامته ولدوره في الأرض، وما يُغوي به مُتّبِعيه من سلوك في علاقة بالمال كوسيلة، لا بدّ من وضع نظام لمحاصرة كيد الشّيطان والحيلولة دون مكره.
ونظرا لمدنيّة الإنسان بطبعه وما لعلاقة الإنسان بالمال وسلوكه الإنفاقي من محوريّة في صياغة نوعيّة علاقة الإنسان بالإنسان، لا بدّ من وضع نظام لجعل العلاقة بينهما علاقة تحافظ على كرامة كلّ منهم وتجعلهم جميعا ناجحين في إعمار الأرض في الحياة الدّنيا. 
وأخيرا وأمام علاقة الإنسان المباشرة والدّائمة بالأشياء المُحدّدة الى حدّ بعيد بتعلّقه بها وبرغبته في ملكيّتها، لا بدّ من تنظيم لهاته العلاقة تحقيقا لنفس الأهداف في ما ذكرناه من نظم.    
III- نظام الكرامة، نظام التّعاون ونظام التّسخير والإستخلاف
لا يُمكن لنظام مالي بديل أن يستوي إذا لم يحتو نُظُمًا ثلاثة، الأوّل يحميه من الانحراف (نظام الكرامة) والثّاني يضمن النّفع للكلّ (نظام التّعاون) والثّالث يضمن استمرار ذلك النّفع (نظام التّسخير والاستخلاف).  
1 - نظام الكرامة
بدأ الشّيطان في معاداة الإنسان لَمَّا اعتبر أمرُ اللّه للملائكة بالسّجود للإنسان تكريما لهذا الأخير على حسابه، ومن ذلك الحين نَاصبه العداء واستهدف كرامته من خلال ما دأب عليه من أمر للإنسان بالفحشاء والمنكر، وكِلاَ السّلوكين في علاقة مباشرة بالمال، الأوّل يعكس طريقة التّصرف في المال القائمة على البخل والثّاني يعكس طريقة كسبه، فالبخل أقبح الفحش عند العرب كما أنّ المنكر يُطلق على أكل أموال النّاس بالباطل سواء عن طريق السّرقة أو الاغتصاب أو الاحتلال والتّحيّل أو الاستغلال أو الغشّ أو الرّبا أو عبر تشريعات ومؤسّسات تديم عمليّات أكل أموال النّاس بالباطل.
وأمام استهداف كرامة الإنسان لا بد من تشييد نظام يُضيّق الخناق على كلّ من يستهدف حقوق النّاس وأموالهم وذلك عبر عدّة مفاعل مجتمعة ومتفاعلة:
- الفاعل الثّقافي، من خلال نشر ثقافة الكرامة، ثقافة التّحرّر من سيطرة المال على الإنسان وثقافة اعتباره وسيلة لخدمة الإنسان وليس غاية في حدّ ذاته.
- الفاعل القيمي، من خلال تشريع حرمة كسب المال على حساب كرامة الإنسان وحريته وحقوقه. 
-الفاعل التّشريعي والتّنظيمي، من خلال سنّ تشريعات تصون الحقوق وتحميها وإنشاء هياكل تسهر على ذلك، وهذا ما نطلق عليه نظام الكرامة. 
2 - نظام التّعاون
ينسج النّاس فيما بينهم علاقات، في الحياة بمختلف أبعادها وفي جميع مجالاتها، وهذه العلاقات إمّا أن تكون علاقات تعاون على البرّ والتّقوى، بما تعنيه من تواضع بعضهم لبعض وإرادة تعميم النّفع  والإصلاح في الأرض(15) والتّنافس في فعل الخير وإيتاء المال(16) من منطلقات أخويّة، أو تكون علاقات تعاون على الإثم والعدوان من طرف فئة على بقية النّاس، بإرادة العلوّ في الأرض والفساد فيها، من منطلقات عنصريّة لا أخوية.
وقد عرف تاريخ البشريّة نُظما اقتصاديّة مُختلفة سُمِّيَت، في العلوم الاجتماعيّة، بنظم الأشخاص(17)، تحديدا لعلاقة الإنسان بالإنسان أطلق عليها تباعا التّسميات التّالية:
- أوّلا، نظام العبوديّة في عصر الرّق، وهو نظام مليء بالإكراهات، حيث يمتلك السّيد العبد، ويحرمه الحرّية سواء في اختيار مجال الجهد الذي يبذله أو على مستوى ممارسته للمهمة المنوطة بعهدته.
- ثانيا، نظام الإقطاعيّة في عصر الإقطاع، وهو نظام على خلاف نظام العبوديّة حيث جُعل للقنّ هامش من الحريّة الشّخصيّة وبعض من الحقوق في الأرض الّتي يعمل فيها.
- ثالثا، نظام الرّأسماليّة وهو نظام حرّية الأشخاص، وفيه قلّة مالكة لوسائل الإنتاج والباقون عمّال عندهم، وهم عرضة لاستنزاف طاقاتهم وأوقاتهم، ولا يحصلون الاّ على ما يُحدّده مالكو وسائل الإنتاج كمقابل للجهد الّذي يبذلونه، وقد فرض هذا الوضع سجالا كبيرا وتوتّرات كبيرة حول طبيعة نظام الملكيّة في علاقة الإنسان بالأشياء(18)، أدّى الى ظهور نظم اشتراكيّة وغيرها.
ولإرساء نظام أكثر عدلا وإنصافا ومعني بنفع كل النّاس مع الحفاظ على حرّية الإنسان وملكيّته باعتباره شريكا للإنسان الآخر في ما استخلفهم اللّه فيه، تحتاج البشرية نظاما للتّعاون الإنساني على الخير ونفع النّاس جميعا، ولذلك نحتاج الى ثقافة التّعارف والتّعايش وثقافة كرامة النّوع البشري والى تشريعات تشجّع التّعاون على البرّ وتُثمِّنُ الإصلاح في الأرض وتحاصر كلّ مظاهر الفساد وتقطع الطريق أمام كلّ تعاون على الإثم والعدوان خاصّة في ميدان المال والأعمال، وذلك حفظا للحقوق وصونا للكرامات وتعميقا للإحساس بالانتماء وتقوية لأواصر الأخوة بين النّاس وتمتينا للوحدة فيما بينهم ودرءا للفرقة والتّشرذم ومعاداة بعضهم بعضا، كلّ ذلك لاستقرار الوضع وجعله مهيئا لحسن عمل الإنسان وبالتّالي نجاحه في ما ابتلاه اللّه فيه في الحياة الدّنيا ليحيى حياة طيّبة، والحيلولة دون المعيشة الضنكة وفوزه في الحياة الآخرة.
3 - نظام التّسخير والإستخلاف
لم يخلُ عصر من العصور منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض من نسج الإنسان لعلاقة مع الأشياء وقد عرف تاريخ البشريّة نُظما سُمّيت، في العلوم الاجتماعيّة، بنظم الأشياء(19)، تحديدا لعلاقة الإنسان بالأشياء، وفي سياق ذلك تمّ بلورة نظم للملكيّة، وقد تراوحت تلك النّظم ما بين نظام الملكيّة الفرديّة والملكيّة الجماعيّة.
 ومع تطرّف كلا النّظامين وعدم انسجامهما مع الطّبيعة البشريّة القائمة على الشّراكة في ما في السّماوات وما في الأرض، الّتي قضاها مالك السماوات الأرض لَمَّا حَكَمَ بتسخير ما فيهما للإنسان، تجد البشريّة نفسها في أمسّ الحاجة الى نظام للأشياء جديد، لا تتطرّف الملكيّة فيه، نظام، لا يتطرف لنفع القلّة القليلة على حساب اغلب النّاس ولا لنفع الأغلبيّة على حساب القلّة التي تفوقها على مستوى القدرات على الكسب الأكثر، نظام لا يفقد أحدٌ ملكيته لما في السّماوات والأرض حتّى لا يفقد أحد الامتياز الإلاهي الذي منحه للجميع بتسخير ما في السّماوات والأرض لهم ولكن في نفس الوقت، نظام يترك المجال للجميع للتّنافس على نفع النّاس وللتّدافع أيضا لمكوث ذلك النّفع، وذلك النّظام هو ما نطلق عليه اسم نظام التّسخير والاستخلاف، استخلاف هدفه نشر النّفع لكل الناس ومكوثه في انسجام مع عهد الله ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعْ النَّاسَ فَيَمْكُثَ فِي الْأَرْضِ﴾(الرّعد - 17)
وضمن علاقة الإنسان بالأشياء تبرز تلك التي ينسجها مع البيئة التي يعيش بين احضانها والطبيعة التي تحفّ به من كل جانب، وقد عرفت تلك العلاقة انحرافا كبيرا حين تعامل الإنسان مع الطّبيعة تعاملا فجّا وقام بتطويعها قسرا وأسرف في استغلال ثرواتها بحثا عن مراكمة ثروته.
 وقد دفعه ذلك السّلوك وتلك الغاية الى عدم المحافظة على سلامة المحيط ونظافة البيئة وعدم الامضاء على اتفاقيات حماية البيئة (كالولايات المتحدة الامريكية والصين وما تمثلانه من قوة عالميا) الامر الذي عاد على كلّ النّاس بالوبال وخاصة الأغلبية، ضحايا النّظام المالي السّائد، وانتشرت الامراض وأصبحت شروط الحياة الصّحية والسليمة تختفي تدريجيّا.
 وقد استوجب هذا إعادة تأسيس العلاقة بين الانسان وكل الأشياء فالعلاقة التي صاغها القرآن الكريم بين الإنسان والأشياء هي علاقة تسخير واستخلاف، تسخير بما يعنيه من عطاء دائم لما في السّماوات والأرض للإنسان، ما تسلّح بالعلم وبالرّحمة وكذلك بالمنهج السّليم في التّعامل مع ما في السّماوات وما في الأرض واستخلاف بما يعنيه من محافظة وتنمية وحسن عمل لما في السماوات والارض، وهذا يحتاج الى إعادة العلاقة بين الإنسان والأشياء الى طبيعتها المبنيّة على الرّحمة لا تلك القائمة على التّطويع او علاقة الاسراف في استغلالها او علاقة الإهمال وعدم الحفاظ عليها فكل هاته الأنواع من العلاقات بات جليا خطرها على استدامة شروط الحياة السّليمة للإنسان والتي بغيابها يفقد الإنسان جزءا من كرامته ويختل دوره في الحياة. 
حتّى نلتقي
شرعنا في هذا المقال، في بلورة ملامح نظام مالي يكون قوِيًّا ومُنصِفا، بما يجعله قادرا على توليد المال بما يتناسب مع احتياجات حياة النّاس وعيشهم مع الحفاظ على القيمة الشّرائية والإنتاجيّة لذلك المال. مقالٌ خصّصناهُ لعرض بِنْيَةٍ تصوّريّة كفيلة بتأطير ذلك النّظام ضمن تصوّر أصيل للإنسان ودوره في الحياة وموقعه في هذا الوجود وعلاقته به، وذلك سعيا منّا -بعد تحرير العقول من التّصوّرات المنحرفة- إلى إنارة العقول بتصوّرات بديلة للإنسان والحياة والوجود ككلّ وبيان قدرتها على المستوى النّظري على الأقل في التّأسيس للنظام المالي المنشود.
وقد مهّدنا الى بلورة هذا النِظام من خلال عرضٍ لملامح نُظم ثلاث، مُتناسقة مع مسلّمات بديلة ثلاث كأساس لذلك النّظام وضِمن إطار له،بالإضافة إلى عرض الأحكام البديلة القادرة على إفراز إطار جديد نتجاوز من خلاله سيّئات إطار النّظام المالي المهيمن المُتسبّب في ما آلت إليه أوضاع البشر من استضعاف وعسر حياة.
 نظام الكرامة ونظام التّعاون ونظام التّسخير والاستخلاف، هي نظم ثلاثة مُتناسقة مع مسلّمات ثلاث، الأولى أنّ ملكيّة المال هي للّه وحده وهو من إستخلف الإنسان فيه، ومن ثمّة فالمال ليس حكرا على قلة قليلة، والثانية، أنّ سعي الإنسان في هذه الحياة الدّنيا هو نحو إحسان العمل في علاقة بما استُخلِفَ فيه وهو يتطلّع للمساهمة في نفع كلّ النّاس، والثالثة حتميّة المساءلة والجزاء، ليرتفع تبعا لذلك سقف أمل الإنسان في الخلود في اليوم الآخر وليس رفع مستوى كسبه أو مراكمة الأموال لديه في هذه الحياة الدّنيا، وذلك من خلال سلوك سليم في علاقته بالمال انطلاقا من ميثاق وعهد بينه وبين خالقه.
 أمّا الأحكام المُكوّنة لإطار هذه النّظم فهي تلك الّتي تقضي بعدم جعل المال دُولَة بين القلّة القليلة من النّاس وبعدم اعتماد أكل أموال النّاس بغير وجه حقّ سواء عبر الرّبا أو الاحتلال أو التّحكم في الأسواق بتشريعات غير متوازنة تحول دون توزيع النّفع على النّاس جميعا.
كما بيّنا أنّ هذه النّظم تتمحور حول الإنسان على نقيض النّظم السّائدة التي تتمحور حول المال، وأنّ دور هذه النّظم هي حماية كرامة الإنسان المستهدفة من عدوه، وبناء علاقة أخوة  وتعاون بين كلّ النّاس لتحقيق النّفع لكلّ النّاس، وبناء علاقة تسخير بين الإنسان والأشياء، علاقة تقوم على الرّحمة، وتضمن استمرار ذلك النّفع من خلال نجاح الإنسان في ما منحه اللّه المالك له من دور استخلاف في الأرض.
 وقد تمّ اختيارنا لهذه النّظم لما لها من قدرة على إفراز إطار جديد نتجاوز من خلاله سيّئات إطار النّظام المالي المُتسبّب في ما آلت اليه أوضاع البشر من استضعاف، ويكون خيمة لاتفاقيّات قانونيّة أكثر إنصافا، ولبناء منظّمات وجهات فاعلة اقتصاديّا رسميّة وغير رسميّة، تُسَّهِّلُ التّدفّق الدّولي لرؤوس الأموال بغرض الاستثمار والتّمويل التّجاري وكذلك التّمويل التّعاوني والتّكافلي وهذا ما سنعمق النّظر فيه في قادم المقالات، إن شاء اللّه.
الهوامش
(1)  أنظر مقالنا : «مَلاَمِحْ نِظَامٍ مَالِي قَوِيٌّ ومُنْصِفْ»، مجلّة الإصلاح، العدد 213، أفريل 2025، ص.ص.  24-28 
(2)  أنظر مقالنا : «تطوّر النّظام المالي السّائد»، مجلّة الإصلاح، العدد 214، ماي 2025، ص.ص.  36-44 
(3)  تدبر سورة الأعراف الآية 172 وسورة يس الآية 60
(4)  تدبّر سورة البقرة الآية 268
(5)  حسب ابن كثير يؤتي ماله يتزكّى أي يصرف ماله في طاعة ربّه ليزكّى نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا
(6) تدبر آخر سورة القصص الآية 83
(7) تدبّر السور التّالية: النحل الآية 97 والطلاق الآية 2 والأعراف الآية 96 والبقرة الآية 268
(8) تدبّر السور التّالية: الملك الآية 1 والحديد الآية 7 والحشر الآية 7 واللّيل من الآية 5 الى الآية 10 والبقرة الآيات 188 و275 و276
(9) تدبّر السور التّالية: المدثر الآية 38 والانسان الآيتين 2 و3 والملك الآية 2 وفصلت الآية 46 والجاثية الآية 15.
(10)  تدبّر سورة البقرة الآية 286.
(11) تدبّر سورة البقرة الآيتين 30 و31
(12) تدبّر سورة الاسراء الآية 70 
(13) تدبّر سورة الجمعة الآية 2
(14) تدبر السور التالية: الحديد الآية 7 والتوبة 34 والاسراء 27 والأعراف 33 والفرقان 67
(15) تدبر آخر سورة القصص الآية 83 
(16) تدبر سورة الليل الآية 18 
(17) LES SYSTEMES ECONOMIQUES, JOSEPH LAJUGIE, Collection que sais-je ? Dixème édition, 4ème Trimestre 1979, p 14 et 19 
(18) نفسه ص 13 و 18 
(19) نفسه ص 13 و 18