نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
العقل يخضع لمساءلة العقل
 الدّهشة بصيرة الفلاسفة، يندهش الفيلسوفُ بالأشياء التي نحسّها هامشيّةً وبسيطة وعابرة، ليغوص فيها ولا يخرج منها إلاّ بأسئلةٍ مجهولة وإجابات ذكيّة. تنبعث الفلسفةُ لحظةَ إيقاظ العقل وانبعاثِ الأسئلةِ العميقة في الوعي. ‏الإنسان الذي يندهش، وينقد، ويتأمّل، ويتساءل أسئلةً كبرى، لديه استعداد لأن يكون فيلسوفًا. لا معنى للفلسفة من دون النّقد العميق، والأسئلة الكبرى. 
الفيلسوف يمارس النّقد العقلي بلا قيود وحدود، تتوالد أسئلتُه في سياق النّقد،كما يتوالد نقده في سياق أسئلته. يلبث الفيلسوفُ يفكّر في جواب لا ينتهي إليه إلاّ بعد تأمّل، وتمحيص، ونقض الإجابات المتهافتة المختلفة. النّقد بوابةُ الدّخول للتّفكير الفلسفي. نشر فيلسوفُ الأنوار «كانط» أعمالَه الأساسيّة، وهو يصدّرها بكلمة نقد: «نقد العقل الخالص» (1781م)، و«نقد العقل العملي» (1788م)، و«نقد ملكة الحكم» (1790م) ، على التّوالي، وخلص من هذه الأسفار العقليّة الصّبورة إلى نشر كتابه الثّمين: «الدّين في حدود العقل» (1793م).
 الفلسفةُ إيقاظٌ متواصل للعقل، وتحريرٌ له من تسلط المعتقدات، والأيديولوجيّات، والهويّات، والخرافات، والأوهام، والسّلطات بأنماطها المتنوّعة. التّفكير الفلسفي يبدأ لحظة يتحرّر العقلُ من أنماط الوصايات المتنوّعة، والبداهات غير البديهيّة. تتجلّى قوّةُ العقل في معرفته لحدوده، وقدرته على التّفكير داخلَ فضائه، والخلاص من أوهامه، وممّا هو زائف من أحكامه. التّفكيرُ الفلسفي على الضدّ من الاعتقاد الدغمائي المغلق، التّفكيرُ الفلسفي متحرّر من الحدود والقيود والشّروط والأسوار المغلقة.
 كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده وتمحيصه، العقل نفسه يخضع لمساءلةِ العقل، وتمحيصِ مفاهيمه، وغربلةِ أحكامه، وطريقة تعريفه لنفسه، وتفسيره لحقيقة معرفته، ومصادرها، وقيمتها. لا يضع الحدودَ للعقل إلاّ العقلُ، العقل يرسم حدوده وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخّل ببيان حقيقةِ ما هو خارج حدوده. لا يصدق التّفكيرُ فلسفيًّا إلاّ لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، فيكون هو مرجعيّة تمحيصِ تفكيره، ومرجعيّة ما سواه، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. 
عندما يصمت العقلُ ويكفُّ عن وظيفته، تدخلُ الرّوحُ والعاطفةُ في متاهات. العقل يريد ألاّ نستمع منه إلّا إلى صوته الخاصّ، من دون أن تشوّش عليه أصواتٌ خارجَ حدوده وتربكه وتنهكه. العقل يحكم بعدم إمكان أن يتخلّصَ الإنسانُ من تأثيرٍ خفيّ لذاته وعواطفه ومشاعره والمحيط الذي يعيش فيه بشكلٍ تام. العقل يحكم بوجود الدّين في الحياة ويحدّد مجالاته، ووجود المتخيّل ويحدّد مجالاته، والمثيولوجيات والأساطير ويحدّد مجالاتها، ويعلن بأنّها من الثّوابت الأبديَّة في الثّقافات البشريّة. العقل هو الذي يتولّى تصنيفَ هذه الموضوعات وتوصيفَها ويحكم عليها إثباتًا أو نفيًا، ويرسم خرائطَها ويضع حدودَها.
 الإنسانُ واحدٌ بالرّغم من أنّه متعدّد، متعدّدٌ بالرّغم من أنّه واحد. طبيعة الإنسان تتَّسع للوحدة والتّفاعل الحيوي للعاطفة والرّوح والعقل. ‏هذه الوحدة أحيانًا يتغلب فيها أحدُ العناصر ويتراجع دورُ العناصر الأخرى. في الفلسفة يتغلّب العقلُ ليصير هو المرجعيّة في الحكم والقرار، وبتغلُّبه يتحقّق التّفاعلُ الخلّاق بين العقل والرّوح والعاطفة. يضع العقلُ الروحَ والعاطفةَ في حدودهما، وهو الذي يصحّح المسارَ لهما على الدّوام. تنحسر مرجعيةُ العقل في مجتمعاتٍ غير متعلمة تتفشى فيها العبوديةُ الطّوعيّة، واستعبادُ الوعي، والانقيادُ الأعمى، وتخديرُ الضمير الأخلاقي. 
العاطفة والرّوح تعملان بخفاءٍ للتّأثير في العقل، والتّحكّم بتفسيراته وصناعة أحكامه وقراراته. يعود سوءُ الفهم بين الفلاسفة وطرائق فهمهم إلى تأثير الذّات والعاطفة والرّوح في تفسيرات العقل وأحكامه، على الرغم من أنّ الفلاسفة هم الأكثر صرامةً في اعتمادِ العقل والعملِ على توظيفه في كلِّ شيء. لا خلاف في الفلسفة حول كون العقل هو الذي يرسم حدوده، ويحدّد وظيفتَه، ويكتشف مصادرَ معرفته. الخلاف بين الفلاسفة أنفسهم حول حدود العقل، وماهية هذا العقل وتعريفه، ومجالاته، وكيفية إدراكه، ونوع مدركاته.
العقلُ الفلسفي هو الذي أولدَ العقلَ الحديث، تَوالدَ هذا العقلُ وتشكّل في فلسفة «فرنسيس بيكون» و«ديكارت» و«كانط» وغيرهم من الفلاسفة، فكان العقلُ الفلسفي الحديث باعثًا أساسيًّا على وضع التّاريخ البشري في مسارٍ جديد، غادر فيه حالتَه الرّتيبة التّكراريّة الطّويلة، بعد أن لبثت البشريّةُ آلاف السّنين لم تحقّق المكاسبَ العلميّة من الاكتشافات والاختراعات والتّكنولوجيات المنجزَة في القرون الثّلاثة الأخيرة، وتحوّل عبرها الإنسانُ من الآلات اليدويّة إلى المحرِّكات الحديثة، ومن وسائل النّقل البدائيّة إلى القطار والسّيارة والطّائرة ووسائل النّقل المتطوّرة. وهكذا تواصلت هذه المكاسبُ بقفزات على شكل منعطفات، إلى أن وصلنا إلى هندسة الجينات، وتكنولوجيا المعلومات والذّكاء الاصطناعي والرّوبوتات. 
كانت الفلسفةُ وستبقى تتفاعل مع النّظريّات العلميّة والاكتشافات، تؤثّر وتتأثّر بها، تستجيبُ لما يستجدّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء والأحياء وغيرهما من العلوم. لعلم الفلك الحديث، الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريّتِه في مركزيّة الشّمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشّمسيّة حولها، أثرٌ مباشرٌ على التّفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده، وهكذا تأثّر هذا التّفكيرُ بقوانين الحركة والجاذبيّة العامّة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثّر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، والنّظريّة النّسبيّة لأينشتاين (1879 – 1955)، وقبل ذلك تأثّر بنظريّة التّطوّر لتشارلز داروين (1809 – 1882).
 الفلسفة لا تنتهي ولن تتوقّفَ مادام الإنسانُ يندهش، ويفكّر، ويتساءل، ويشكّك، ويناقش، ويتحاور، ويختلف. لا تمثّل الفلسفةُ مرحلةً من مراحل تطوّر الوعي، الفلسفةُ تواكبُ الوعيَ ولا تتخلّف عنه، حتّى لو سادَ العلمُ الحياةَ. العلمُ يطرح على الفلسفة أسئلتَه ومشكلاتِه العويصة، وما يعجزُ عن اكتشافِ طرق الخلاص منه في فضاء المادّة والمحسوس والتّجربة، الفلسفةُ لا سواها مَنْ يجيب عن ذلك. 
لم يولد العلمُ إلا ‏في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكبُ العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة، ومشكلاتِه وأزماته خارجَ حدود المادّة والتّجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرّؤية لما تنتجه تطوّراتُه من تساؤلات، ومشاكلَ معقّدة، وأزماتٍ روحيّة وأخلاقيّة ونفسيّة ومعرفيّة، سواء أكانت هذه المشكلات والأزمات فرديّةً أم مجتمعيّة. 
لن يكتفي العلمُ بذاته ويستغني عن الفلسفة، مهما بلغ تقدُّمُه وتنوّعت وتراكمت نتائجُه. حين يفكر الفيلسوفُ يقدّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظّواهر، يحاول أن يفسّر حقيقةَ العلم وماهيته، ويقدم إجابات لمشكلات العلم وأسئلته العميقة خارجَ حدوده. الفيزياء والكيمياء والعلوم المختلفة تنشغل باكتشافِ قوانين الطّبيعة ومعادلاتِها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها، ولا تعرف حقيقةَ العلم وماهيته. الفيلسوف يحاول أن يفسّر حقيقةَ الوجود والظّواهر والأشياء والعلوم وماهيتَها، ممّا هو خارج حدود العلم.