نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الاسلامي
 نحو تدبيرات إلهيّة من أجل إصلاح المملكة الإنسانيّة
لن نحتاج ونحن في مولج الكلام عن أزمة الحداثة إلى مَصْفُوفَة من البَراهين على هذه الحقيقة، بقدر ما نحتاج إلى أن نُبْصر فيها، أي الحداثة نموذجا من نماذج مُراهنة الكائن الإنساني على قيم ومبادئ مُفرطة في إنسانيتها، وثقةٌ في عقل مُنفصل وإرادة ناهمة بالتملُّك. إن هذه الصّراطات اللاّمستقيمة هي التي آلت بهذه الحداثة إلى تخريب الأرض وتضييع القيمة المعنويّة في الإنسان. إنّ نجاحات الحداثة في مستوى التّقنية وتنظيم دوائر وفضاءات المُمارسة الإنسانيّة على الصُّعُدِ الاجتماعيّة والإنسانيّة، هو الذي زيّن في نفوس البَشَر الانجذاب نحوها ونحو مظاهرها، والتنكُّر في المقابل لرصيد القيم المعنوي والإرادة الحضاريّة الذّاتية، بما هي الشُّروط المنطقيّة التي انبجست بنورها هذه المظاهر، بمعنى أنّ الإرادة وهمَّة الحركة هي التي أخرجت هذه المُنجزات المادّية من أجل أن يَتَدَاولها العالم، ومُشكلة الإنسان المُنْجَذِب نحوها، هو نسيان هذا الأصل الحيوي الإرادي، وعدم الفصل بين وقائع الحداثة؛ وبين الأسباب التي أنتجت هذه الوقائع وتُنتجها. فتعلّق قَلْبُهُ بزينة ظاهر التّقنية، ولم يكن هذا سوى مَبلغُه في المعرفة بحقيقتها وتوهُّمٌ بانحصار اللّذائذ في تحصيلها وحُبها.
إن الذّي أشكل على الإنسان في هذا الطّور الحداثي الغربي؛ هو غروره بذاته وتأليه هذه الذّات وخلع المواصفات الكُبرى عليها، ولأنّه لا يقدر على أن يبقى معلّقا بهذا التّصوّر الذّاتي، فقد زاد إلى قوّة هذه الذّات المُتوهَّمة قوى أخرى تتعاضد معها، من أجل أن يؤسّس ضمانات مُطلقة يُسوّغ بها معنى حركته في العالم، فَصَنَع آلهة أخرى من أجل أن يتعبّدها، فكانت «ميتافيزيقا التّاريخ» و«حتميّة المجتمع» و«قوّة الطّبيعة» و«تقليد المادّة». إلاّ أنّ هذه الذّات ومصنوعاتها رقيقة وواهنة؛ ولن تقوى على الصّمود كثيرا، إنّها تشبه السَّفينة التي تُشرف على الغرق ولا تستطيع أن تلقي مراسيها عند نفسها، بل لابدّ من أرض صلبة تلقى عندها هذه المراسي كي تأمن الغرق، وكذا الذّات الإنسانيّة لابدّ لها من أرض صلبة تتكِئ عليها لتَنْجُو من الطُّوفان.
وا أسفاه على هذا الإنسان! وا أسفاه على هذا الغُرور! كيف يَنْجو من هذا الطُوفان؟ لقد حدّثنا كثيرا عن الرّخاء والحرّية والتّقدُّم، لكنّنا لم نلق على يديه سوى الاستبداد والفساد والتخلُّف، وتلك هي مشكلة الذّات الإنسانيّة عندما تنفصل عن الإيمان بالإيمان! لا ضير أن يؤمن الإنسان بإرادته ويوقض قدرة اللّه فيه، لكن إذا فقدت هذه الذّات الإيمان بما وراءها فسيكبر الغرور فيها ولن تأتي للعالم سوى بالإفساد في الأرض والرّمي بكرامة الإنسان في صيرورة اللاّقيمة وفقدان البوصلة الأنطولوجيّة والمعرفيّة والقيميّة، وما إنسان الطّور الحداثي الغربي سوى الشّاهد الأمثل على هذا النّموذج من الإنسان.
لن تَكون الثّقة في مشاريعه ضمن إرادة المُستقبل بعد هذا الطّور ممُكنة، لأنّ الحاجة ليست له بعد الآن، والحاجة هنا ليس مدارها حاجة تقنية، إنّها الحاجة إلى البوصلة من جديد، كيْما نؤسّس لطور:اللّه مقياس الأشياء جميعا، بعد هيمنة وترسُّخ طور:الإنسان مقياس الأشياء جميعا.
إن مُمكنات الخروج من نفق الطّور الحداثي المُظلم، وإصلاح مناحي العطب في هذا المشروع لن تكون مُمكنة دون إعادة تفعيل التّوجيه الدّيني وقيم الإيمان في بناء الإنسان وملء العالم بالمعنى من جديد، لأنه لا فُتوحات ممكنة تلوح سوى :
- أن يستفتح الإنسان من جديد، من أجل أن يُفتح له أو يأتيه الفتح من اللّه، ويعيد ترتيب الصّلة معه، لأنّ الذّات دون إيمان ودون معنويات تنتج أنماط الحياة التي لا تُطاق.
- أن ينتهي عن غيّه في الأرض وتخريبه للعالم، وذلك خير له من استمراره في هذا التَّخريب والتّدمير : تدمير المعنى والعالم المحسوس.
- أن يعود إلى الاستمساك ببقايا المشروع الحداثي الغربي، من أجل بثّ الحيويّة فيه، وهذا لن يُثْمر إلّا عودة المآزق وفقدان الأمن الأنطولوجي ونَسْبنة المعرفة واختزالها في المصلحة، واختلال التّوازن القيمي ، أي أنّ عودته إلى الانتهال من قيم المشروع الحداثي في طوره الغربي؛ ستقابل بعودة جديدة لتلك الدّروب المسدودة التي بمقتضياتها وصلت الإنسانيّة إلى هذا العَمى الوجودي والعبث السُّلوكي والتَّخريب للأرض.
- وأمام هذا، فإنّ أزمة الحداثة والمآلات المَسْدودة التي أوصلت الإنسانيّة لها، قد ألزمت الخطاب الإسلامي المعاصر إلقاء السَّمع لهذه الأزمة، والتَّفكير في الارتقاء إلى مستوى الحدث الحضاري، من أجل فهم هذه المشكلة بعمق، أي فهم الحداثة الغربيّة بعمق والكشف عن الفقر المعنوي والأخلاقي الذي ينخر أساساتها الابستمولوجيّة وجداولها القيميّة، والإسهام من الوُجهة التّأسيسيّة في إعادة ترتيب سُلّم القيم الضّائعة وبلورة نموذج إدراكي جديد للعالم، وذلك لا باعتباره مكانا للسّلب والنّهب، إنمَّا هو كحَرم يُنجز فيه وظيفته الاستخلافيّة ويسكن فيه، ويبني فيه أنساق المعرفة، باعتبارها فنونا لتهذيب النّفس ومعرفتها بعمق، من أجل معرفة اللّه من جديد واتخاذه مقياس لجميع الأشياء.
إنّ أحد أعراض المشكلة في تعامُلَنا مع الحداثة في طورها الغربي خطابا ومشروعا حضاريّا، أنّنا لم نمارس التّربية بدلالتها الحضاريّة على مشروع الحداثة، بمعنى أنّنا فاقدون للرّؤية والمنهج والإرادة بما هي الرّهانات القويّة من أجل تربية فئة تفهم الحضارة الغربيّة بعمق من جهة، ومن جهة أخرى تفهم الحضارة الإسلاميّة بعمق وشمول أيضا، لتستطيع أن تبحث في تراثنا المعنوي والأخلاقي الضَّخم، وتعيد النَّظر فيه وتفسّره من جديد. لكن الذي يؤسف له هو عدم وجود تخطيط منظّم لتربية مثل هؤلاء الأفراد، والذين كتب لهم أن يحوزوا على مثل هذه التّربية كانت الصّدفة وحدها هي التي ساعدت على إيجادهم ولم يكونوا حصيلة منهج تربوي منظّم.
ومن أجل هذا، فإن عُنصر القوّة في مرتكزات الرُّؤية المستقبليّة، هو إعداد قادة في الفكر من أجل إنجاز هذه الوظيفة أي وظيفة الفهم المزدوج للحضارة الغربيّة وأسسها بعمق، وفهم الحضارة الإسلاميّة بعمق وشمول أيضا، وذلك لصناعة نماذج فكرية تمتلك عُدَّةََ نظريّة قويّة وفهما متكاملا؛ من أجل بلورة رؤى تفهم بها الأمّة معنى رسالتها في العالم وتعيد لها الثّقة بمعقوليتها ومناهجها في السُّلوك والفكر. إنّ إعداد قادة في الفكر بالمواصفات التي أوردنا رهان قويّ من رهانات الإصلاح وممارسة التّحديث بخصوصيّة حضاريّة وقوّة إرادة ومستوى فكري راق أصيل ومٌطّرد وفعّال.
ومدار الإشكاليّة الكبرى التي تنخرط فيها فصول هذا الكتاب، تأتي في سياق رصد جوانب الاجتهاد في الخطاب الإسلامي المعاصر السّاعية إلى بلورة رؤى فاعلة والاستقلال بخُصوصيّات مفهوميّة على صعيد الحداثة ولواحقها في التَّعارف والعقلانيّة والكونيّة،من أجل هذا تَتَمَوضعُ فصول الكتاب ضمن هذه الصّياغة التّساؤليّة الآتية :
بعد أن استبانت أزمة الحداثة في طورها الغربي، ولمّا أنّنا نشهد تحوّلات عالميّة تبحث عن أنظمة وتدبيرات وجوديّة أخرى ما الذي يملكه الخطاب الإسلامي المعاصر من أجل الإسهام في هذه التّحولات؟ هل يُؤسّس الخِطاب الإسلامي المعاصر رؤاه الفكريّة في مسائل الحداثة وأزمة الحقيقة والتَّعارف والعقلانية والكونية، يؤسّسها مُنْفَصِلا عن أي مسافة مع خطاب الحداثة؟ أم أنّ الرّؤية السّليمة لا تأتي من هذه المنطلقات، بقدر ما تستفيد من هذه الإنجازات الإنسانيّة وتعيد موضعة سُبُلها المنهجيّة وتستوعبها في نسقها المعرفي ينفي عنها البعد المنفصل عن التّسديد الإلهي ويُعيد وصلها بمقاصد هذه الأنساق المبنيّة على الرّؤية التَّوحيديّة إلى الكون وتفعيل الإيمان في السّلوك وإعمار الأرض بالخير؟.
ومن أجل الإجابة عن هذا القلق الاستشكالي، واستبصار المخارج، قسّمنا الكتاب إلى فصول تتوزّع فيها إشكالات متنوّعة في عناوينها ومسَاراتها، فكان أن ابتدأنا بالكلام في أزمة نقد الحداثة في الخطاب الإسلامي المعاصر، وكيف انشطر هذا الخطاب في التعاطي معها قِيماََ وتاريخا، وكيف أنّ الرُّؤية الحضاريّة تُعَدُّ مسلكا آمنا للخروج من ضيق التَّجزيئيّة والتّنافريّة إلى رحابة وسَعَةِ التَّركيبيّة والتَّكامليّة، أمّا الفصل الثّاني فقد اختص بتبيان حدود النّظريّات التّواصليّة التي تُراهن عليها المناحي الفلسفيّة الغربيّة المعاصرة والذين يتََّبِعونها في الفكر العربي المعاصر، وبيان الحاجة إلى فاعليّة الأخذ بالرّؤية التَّعارفيّة التي ترتكز على مفاهيم : التَّكريم الإنساني، ووِحدة الإنسانيّة، والاختلاف التّكاملي.
وفي الفصل الثالث تولّينا النّظر والتّحليل في أزمة الحقيقة والقيمة التي تنخُر العقل الغربي المعاصر، وكيف هيمنت الاتجاهات الارتيابيّة التي تبتغي أن تكون لها الكلمة العليا في العالم، وطرحنا مقاربة «إسماعيل راجي الفاروقي» التي تتوافر فيها المقدرة التَّجاوزيّة لهذه الاتجاهات، حيث تتأسّسُ الرّؤية على وحدة الحقيقة والقيمة والحياة، باعتبارها تستمدها -أي هذه الوحدة- من وحدانيّة اللّه سبحانه وتعالى.
أما الفصل الرّابع فقد بحث في «أزمة العقلانيّة» عند واحد من الذين يختبئون خلفها وخلف مفاهيمها (أي خلف العقلانيّة)، والمقصود في هذا المقام « محمد أركون»، حيث عرضنا مناحي القصور في مقاربته، وذلك من منظور «طه عبد الرّحمن»، الذي يُبصر في القراءة الأركونيّة افتتانا لا نظير له بمُستحدثات المنهجيّة في العلوم الإنسانيّة المعاصرة، وإنزالاََ لأدواتها على المعرفة الإسلاميّة نصّا مقدّسا وتراثا مبثوثا وراهنا متأزّما، حيث استبان أن إدّعاءات «العلميّة» العزيزة على قلب أركون، تضرب بجذورها في شرعانيّة فكريّة أخرى وتصوراته للعلم لا ترقى إلى تصورات الفقهاء له، فضلا عن إنكاره المزايا العلميّة التي اختصّ بها الفقهاء، إذ لو كانت مذاهب الفقهاء فعلا امتداداََ لِتناحُرات السّياسيّين لما اختصّت بالوفاء لشروط الاستدلال والبرهان والبناء النّسقي، فالمعلوم أن السّلطة لا تخاطب العقل والتَّماسك والاستدلال، إنّما تتوسّل الانفعال والعاطفة، وهذا أكبر عرض على وهن وخور وحدة المعرفة والسّلطة التي يتباهي بها أركون.
أما الفصل الخامس والأخير، فقد عرض رهانا قويّا من رهانات تدمير القناعات الراّئجة بخاصّة لدى ناشئة المُتفلسفة عندنا في الجزائر حول «الفلسفة الكونيّة»، وهو رهان الفلسفة المقارِنة التي تدرك العالم بالمعنى الاختلافي، فهي تَنْبَني على مقولة «المعرفة في جوهرها مُقارنة»، وما الرُّكون إلى الفلسفة الكونيّة واختزال جهودنا في تحليلها سوى علامة كبرى على الانغراس في أنماط فكريّة أخرى لا تخرج من عمق معاناتنا ولا تستجيب لمشكلاتنا التي تملأ سماء العالم الإسلامي وأرضه، فوقفنا على مكاسب تطوير أركان الفلسفة المقارنة للخروج من الأنفاق المُظلمة الخاصّة بالفلسفة الكونيّة، فبدت لنا في : إنهاء الفلسفة الكونيّة، وتأسيس التَّواصل والتَّعارف كبنية للمعرفة، فضلا عن أفق الضّيافة والتَّعارف بين الثّقافات.
وآثرنا أن نُخصّص الخاتمة إلى حوار وتحاور حول قلق المشاريع الفكريّة في العالم العربي والإسلامي المعاصرين، تنوّع هذا الحوار بين الكلام في حديث نهاية الفلسفة وقيمة بعض الإنتاجات الفكريّة، وسرُّ انجذاب بعض هذه الإنجازات والاجتهادات الفكريّة نحو مسالك «مابعد الحداثة» في الفهم والمعرفة.
أخيرا؛ لا يسعنا إلاّ أن نشكر المولى تبارك وتعالى على توفيقه وتسديده وإعانته لنا على إتمام هذا الجهد المعرفي الذي سيكون للباحثين مقام السّلطة في الحكم على قيمته وأهميته، كما لا تفوتني فرصة الشّكر لكلّ من ألهب في قلوبنا حماسة طلب العلم من العلماء والأساتذة والباحثين أخصّ منهم بالذّكر: طه عبد الرحمن من المغرب والدُّكتورة نورة بوحناش وجمال مفرج وعمار طسطاس من الجزائر، والدكتور المفكّر زكي الميلاد من المملكة السّعودية رئيس تحرير مجلة الكلمة والدّكتور عبد الجبار الرفاعي من العراق مدير مجلة قضايا إسلاميّة معاصرة والدّكتور محمد بوهلال من تونس رئيس وحدة بحث اتصال العلوم وانفصالها في الثّقافة العربيّة، وجميع الأصدقاء والزُّملاء من حاملي همّ البناء والإصلاح الفكري للأمّة الإسلاميّة . فلهم جميعا جزيل الشّكر وأسمى مشاعر المحبّة والأخوة. وأسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يبارك في هذا الجهد وأن ينفع به القارئ الكريم.