رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
الحرب على غزة مستمرة.. ولكن!(*)
 الطّريقة التي يدير بها نتنياهو وحكومته الحرب على قطاع غزّة تَدُلُّ على أنّ الحرب مستمرّة، وقد تطول بلا أفق قريب.
عقليّة المنظومة الإسرائيليّة الحاكمة
ثمّة مؤشّرات مرتبطة بعقليّة المنظومة الإسرائيليّة الحاكمة وطبيعتها
الأوّل: رغبة نتنياهو الجامحة بالبقاء في رئاسة الوزراء، وإطالة عمر حكومته لأطول فترة ممكنة، لمحاولة تحقيق انتصار أو أي منجز، يمكّنه من الخروج ولو بماء وجهه، في ضوء الفشل الذّريع في تحقيق أهدافه المعلنة في سحق المقاومة، و«تحرير» المحتجزين لدى حماس، وفرض تصوّره لليوم التّالي للحرب في قطاع غزّة؛ وسعيه للهروب للأمام، حيث يدرك أنّ أيّ صفقة وفق شروط المقاومة، تعني عمليّاً نهاية حياته السّياسيّة، وربّما ذهابه أيضاً للسّجن.
الثّاني: عقليّة اللّيكود والصّهيونيّة الّدينيّة القائمة على النّظرة الاستعلائيّة تجاه الآخرين، وعدم التّعامل معهم كبشر، وأنّ ما لا يتحقّق بالقوّة، يمكن تحقيقه بمزيد من القوَّة.
الثّالث: وجود مطالبات داخل المنظومة الحاكمة لتهجير ما يمكن تهجيره من أبناء القطاع، وإعادة تفعيل مشاريع الاستيطان، خصوصاً في شمال القطاع.
الرّابع: «حالة الإنكار» التي يعيشها نتنياهو، إذ إنّه بشخصيّته الفوقيّة المتعجرفة، وشعوره القويّ أنّه «ملك إسرائيل» غير المتوّج، وأنّه أحد عظماء التّاريخ اليهودي، لم يستوعب أن يتم تمريغ أنفه وقوّاته بالتّراب، وأنّ «كياناً لا يؤبه له» مثل قطاع غزّة يصمد هذا الصّمود على مدى أحد عشر شهراً، أمام «القوّة العظمى» في الشّرق الأوسط وأمام تحالف عالمي. ولذلك، فإنّ نتنياهو سيواصل عدوانه بعقليّة «المقامر» حتّى لو استُنزفت طاقته، عسى أن تلوح له فرصةٌ ما للخروج من مأزقه.
الخامس: «حالة الإغواء» التي يعيشها نتنياهو وحكومته المتطرّفة، فثمّة بيئة مشجّعة تتمثّل في قيادة رسميّة فلسطينيّة عاجزة وسلطة في رام اللّه متعاونة مع الاحتلال، وتقف في وجه المقاومة في الضّفّة، وتنتظر إسقاط حماس لترثها في القطاع.
وثمّة بيئة عربيّة وإسلاميّة ضعيفة وعاجزة، وكثير منها يرغب في انتصار الاحتلال وسحق حماس، وعددٌ منها يواصل التّطبيع ويوفّر للاحتلال الكثير من احتياجاته، وآخرون شركاء في الحصار وفي قطع شريان الحياة عن المقاومة، وفي تشويه المقاومة ومواقفها سياسيّاً وإعلامياًّ.
وثمّة بيئة دوليّة، بالرّغم من كلّ التّعاطف الذي تبديه وبالرّغم من العزلة المتزايدة التي يعانيها الاحتلال، فإنّها ما زالت عاجزة عن إيقاف المجازر الوحشيّة والتّدمير المُمَنهج.
ولأنّ نتنياهو وزمرته المتطرّفة يدركون ذلك كلَّه، فما زالوا يرون أنّ ثمّة فرصة يجب استغلالها، وأنّ هناك «سراباً» يجب ملاحقته لمتابعة محاولة سحق المقاومة وتطويع قطاع غزّة.
مؤشّرات مرتبطة بطريقة إدارة الحرب
ثمّة مؤشّرات مرتبطة بطريقة إدارة الحرب على القطاع تصبٌّ في إطالة أمدها:
الأوّل: الإفشال المتعمّد للمفاوضات للوصول إلى صفقة مع حماس والمقاومة، ووضع شروط جديدة، كان أبرزها اصطناع عقدة محور صلاح الدّين (فيلادلفيا) ورفض الانسحاب منه. وهو شرط يُفجّر أي مفاوضات قادمة؛ لأنّه مرفوض من المقاومة ومن سلطة رام اللّه ومن مصر، وباقي الأنظمة العربيّة، ويلقى معارضة عالميّة حتّى من حلفاء الاحتلال الإسرائيلي وأصدقائه. أي أنّه شرطٌ وضعه نتنياهو بقصد أن يُرفض!! وهو ما سيتيح له فرصة الاستمرار في الحرب.
الثّاني: السّعي لعقد صفقة بشأن إطلاق سراح الأسرى، مع الإصرار في الوقت نفسه على الاستمرار في الحرب وعدم الانسحاب الكامل من قطاع غزّة. وهو ما يعني فصل المسارين، بحيث يتخفّف من الأعباء والضّغوط المرتبطة بتحرير الأسرى، بما يمكنه من زيادة فاعليته بعد ذلك في مطاردة المقاومة وتصفيتها ولو على مدى زمني طويل.
الثّالث: إعلان الاحتلال في 28 آب/ أغسطس تعيين العميد إلعاد جورين قائداً عسكريّاً لقطاع غزّة بمنصب «رئيس الجهود المدنيّة – الإنسانيّة»، وهو منصبٌ يوازي منصب رئيس الإدارة المدنيّة في الضّفة الغربيّة. ويهدف لتولّي مسؤوليّة الحياة المدنيّة للنّاس كجوانب المساعدات الإنسانيّة والإغاثة، وإدارة المعابر، والأنشطة المدنيّة طويلة المدى كعودة النّازحين وترميم المنشآت المدنيّة والإعمار.
وهذا التّعيين يحاول إعطاء إيحاء بأنّ الاحتلال قد يستمرّ سنوات سعياً؛ للوصول إلى بناء سلطة محليّة بديلة لحماس.
بين الشّروط الإسرائيليّة وشروط المقاومة
بينما يسعى الاحتلال الإسرائيلي لسحق المقاومة و«تحرير» المحتجزين وفق معاييره، ويريد استمرار الحرب والبقاء في القطاع حتّى يحقق أهدافه ويفرض تصوّره عن اليوم التّالي في إدارة القطاع وصولاً إلى إدارة محليّة عميلة تنزع أسلحة المقاومة وتضمن أمن غلاف غزّة؛ فإنّ المقاومة ترفض الموافقة على أيّ صفقة لا تضمن الوقف التامّ للحرب، والانسحاب الكامل من القطاع، وصفقة مُشرّفة لتبادل الأسرى.
وهذا يعني أنّ الحدّ الأعلى الذي يُقدّمه الإسرائيلي لا يصل إلى الحدّ الأدنى الذي تقبله المقاومة؛ وهو ما يعني استمرار الحرب، خصوصاً وأنّ المقاومة لا تملك خياراً سوى متابعة أدائها القويّ واستنزاف الاحتلال، حتّى يُجبر نتنياهو للنزول على شروطها.
قراءة واقعيّة للموقف
تعكس المعطيات السّابقة رغبة نتنياهو في استمرار الحرب، وفي إطالة فترة رئاسته للحكومة. غير أنّها في الحقيقة لا تعكس القدرة على إنفاذ رغباته على الأرض. كما يُظهر اختبار عدد من المعطيات أنّها بالرّغم من أنّها تُعرض في إطار استراتيجي، فإنّها عمليّاً مجرّد أدوات ضغط تكتيكيّة مؤقّتة.
ثمة خمس نقاط يجدر وضعها في الحسبان عند قراءة المشهد:
الأولى: يهدف الاحتلال الإسرائيلي من خلال التّشدّد في موضوع محور صلاح الدّين (فيلادلفيا) وتعيين حاكم عسكري للقطاع، والإيحاء بطول البقاء، إلى محاولة تفكيك الحاضنة الشّعبيّة الغزّاويّة وتيئيسها، لتوفير بيئة «انفضاض» عن المقاومة وقبول بالشّروط والمعايير الإسرائيليّة، وذلك للضّغط على المقاومة للوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة، عند عقد أي صفقة معها.
فمداولات المفاوضات التي عُقدت في الأشهر الماضيّة، برعاية أمريكيّة قطريّة مصريّة، تشير إلى قبول الجانب الإسرائيلي الانسحاب من محور نتساريم ومن شمال قطاع غزّة، ومن معظم نقاط تواجد الاحتلال الإسرائيلي. وبالتّالي فلا يوجد معنى حقيقي لمواضيع التّهجير والاستيطان، ومنع النّازحين من العودة، إذا ما استمر أداء المقاومة والصّمود الشّعبي.
الثّانية: إنّ عقدة بقاء الاحتلال في محور صلاح الدّين (فيلادلفيا) التي يُصرّ عليها نتنياهو هي في جوهرها أداة ضغط تكتيكي، وليست موقفاً استراتيجيّاً، فنتنياهو نفسه لم يتذكّر أهمّية المحور إلاّ في الشّهر الثّامن للحرب، وسبق للطّرف المصري أن أغلق الأنفاق بفاعليّة تامّة، وهناك العديد من الطّرق والأدوات البديلة العربيّة والدّوليّة المحتملة، والممكن قبولها من الاحتلال. والاحتلال لا يجد طرفاً فلسطينيّاً ولا مصريّاً ولا عربيّاً مستعدّاً للتّجاوب معه في إدارة معبر رفح والبقاء في المحور؛ وحتّى معظم حلفائه في البيئة الدّوليّة يرفضون بقاءه، ومقترحات الأمريكان نفسها لعقد صفقة مع المقاومة تتضمّن انسحاب الاحتلال من المحور. كما أنّ قيادة الجيش وعلى رأسها جالانت والمؤسّسة الأمنيّة لا يرون ضرورة للبقاء في المعبر، يضاف إليهم قادة عسكريّون كبار أمثال رئيسي أركان الجيش السّابقين إيهود باراك، وآيزنكوت.
الثّالثة: إنّ استمرار الأداء القوي للمقاومة، واستمرار الاستنزاف الكبير الذي يعاني منه الجيش الإسرائيلي في القطاع، مع تضافر التّقديرات الإسرائيليّة والعالميّة بقدرة المقاومة على الصّمود، وصعوبة إن لم يكن استحالة القضاء عليها في الأفق المنظور، وتزايد المخاوف من عدم قدرة الجيش على البقاء لفترات طويلة في المحاور التي يرغب نتنياهو بالسّيطرة عليها مثل نتساريم وصلاح الدّين (فيلادلفيا)، مع إمكانيّة ازدياد الثّغرات داخل جيش الاحتلال مع الزّمن، يزيد كلّ هذا من فرص المقاومة في مضاعفة أدائها وفرض شروطها.
وقد وصفت جريدة معاريف الإسرائيلية (29/8/2024) بأنّ شهر آب / أغسطس 2024 الأكثر دمويّة للجيش الإسرائيلي خلال الحرب، ممّا يدلّ على مدى فاعليّة المقاومة. ومن جهة أخرى، نقلت الإذاعة الإسرائيليّة عن مسؤولين عسكرييّن إسرائيلييّن أنّ عمليّات الجيش انتهت في القطاع بشكل عام، وأنّه تمّ إبلاغ القيادة السّياسيّة أنّ الفرصة قد حانت لإبرام صفقة مع المقاومة.
وهذا ما عبَّر عنه جالانت وزير الجيش، عندما صوَّت في الكابينت ضدّ البقاء في محور فيلادلفيا؛ وعندما طلب لاحقاً بإعادة التّصويت لصالح الخروج منه. أمّا الجنرال المتقاعد إسحق بريك، فذكر في مقال نشرته هآرتس في 21/8/2024 أن «إسرائيل» ستنهار في غضون عام واحد، إذا استمرت حرب الاستنزاف ضد حماس وحزب اللّه، وأنّ جميع مسارات المستوى السّياسي والعسكري تقود «إسرائيل» إلى الهاوية.
الرّابعة: إنّه بعد اضطرار كتائب القسّام لقتل ستّة أسرى إسرائيلييّن، قبل أن يتمكّن جيش الاحتلال من الوصول إليهم في 30 آب/ أغسطس الماضي، انتهى عمليّاً «شهر العسل» المؤقّت الذي تمتّع به نتنياهو بعد عودته من الولايات المتّحدة مستنداً إلى دعم أمريكي قويّ، وبعد نجاحه في اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنيّة، ورئيس أركان حزب اللّه فؤاد شكر. فقد انقلبت الأجواء الدّاخليّة ضدّ نتنياهو، وساد الشّعور بأنّ طريقة نتنياهو في العمل لن تعيد الأسرى إلاّ في توابيت، وخرجت مظاهرات ضخمة وصل عدد المشاركين فيها إلى نحو 750 ألفاً تطالب بعقد صفقة مع المقاومة، وتصاعدت حدّة المعارضة الشّعبيّة والسّياسيّة لنتنياهو. وأظهرت استطلاعات الرّأي عودة جانتس للتّفوّق على نتنياهو، وعدم رضا 61 % عن أداء نتنياهو، وموافقة 53 % على الانسحاب من معبر رفح، ورغبة أغلبيّة كبيرة بعدم نزول نتنياهو في الانتخابات القادمة.
الخامسة: ثمّة إشكاليّة كبيرة تواجه الاحتلال في حالة إصراره على البقاء في القطاع وإدارته عسكريّاً، وهي تحمّل المسؤوليّة المباشرة (عمليّاً ووفق القانون الدّولي) عن حياة النّاس وإغاثتهم وإعادة بناء البنى التّحتيّة والخدمات والمدارس والمستشفيات، ووجوده في بيئة مقاومة وحاضنة شعبيّة معادية، مع عدم قدرته على الاستمرار في ارتكاب المجازر إلى ما لا نهاية.
وثمّة غالبيّة إسرائيليّة ترى أنّ آخر ما يرغبه الصّهاينة هو إدارة الاحتلال المباشرة للقطاع، وتلبية الاحتياجات المدنيّة واليوميّة لحياة النّاس.
خلاصة:
يسعى نتنياهو من خلال استمرار الحرب، والإيحاء بالإصرار على البقاء في قطاع غزّة، إلى استمراره في الحكم لأطول فترة ممكنة، وإلى محاولة الوصول إلى تحقيق صورة انتصار على المقاومة، وتطويع الحاضنة الشّعبية. غير أنّ عناصر الضّغط على نتنياهو وحكومته تُفسد هكذا حسابات، خصوصاً مع استمرار المقاومة في أدائها القويّ، والتفاف الحاضنة الشّعبيّة حولها.
لقد فشل الاحتلال طوال أكثر من ثلاثين عاماً في سحق المقاومة في الضّفة الغربيّة، وفي تطويع البيئة الشّعبية، بالرّغم من تعاونه الكبير مع سلطة رام اللّه، وما تزال حماس قويّة وذات شعبيّة كبيرة في الضّفّة. وبالتّالي فمن باب أولى أنّ فرضيّاته وتجربته في القطاع مصيرها الفشل.
المؤشّرات تظهر أنّ الحرب على غزّة ستطول؛ غير أنّ نتنياهو ربّما لا يدرك، أنّ غرور القوّة يعميه عن الاستنزاف والأثمان الكبيرة التي يدفعها وحكومته عسكريّاً وأمنيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً…، وأنّ هذا قد يكون من «استدراج» اللّه-سبحانه-للاحتلال، وبالتّالي بدء العدّ العكسي للمشروع الصّهيوني واحتلاله.
وفي المقابل، فإنّ هذا لا يعفي كلّ قادر على نصرة غزّة من مسؤوليّاته الكبرى، كلٌّ حسب استطاعته، أفراداً وشعوباً ودولاً وحركات ومنظمات. وعلى الجميع إدراك اللّحظة التّاريخيّة الحرجة التي تمرّ بها قضيّة فلسطين، ومنع استفراد الاحتلال الصّهيوني بغزّة، ووقف سيل الدّماء والدّمار، ومضاعفة الجهود في مشروع التّحرير وإنهاء الاحتلال.
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع «الجزيرة.نت» ، 16/09/2024.