همسة
بقلم |
محمد المرنيسي |
تجار الفراغ |
سألت صاحبي أين يقضي الشّباب أوقاتهم خارج المقاعد الدّراسية؟ وأين يجد العمال والموظّفون راحتهم خارج ساعات العمل الرّئيسيّة؟ فأجاب في نبرة حزينة بائسة:
- «في المقاهي والمطاعم والملاهي والملاعب والأسواق والحدائق، وما فضل من الوقت تستعرض فيه أنواع من الزّينة جيئة وذهابا بين الشّوارع والمنتزهات؛ بحثا عن التّواصل للتّرفيه والدّفء. برنامج خارجي دائم إلاّ في حالة الطّوارىء».
- «وماذا ترى في روّاد المقاهي؟»
- «في المقاهي تسيح البلايا والدّواهي: محلّلون رياضيّون، وخبراء الاقتصاد والمال، ومنظّرون في سياسة التّعليم والفنّ بمختلف أنواعه، ودعاة يقتحمون كلّ مجال، ويقومون كلّ مقال، لا يستحون ولا يخجلون، وفي جهلهم يسرحون ويمرحون، وببطولاتهم الزّائفة ينتشون ويضحكون، كلّ يدّعي أنّه الرّقم الصّعب المتفرّد، يقتلون الوقت بلا رحمة، ويثقلون كواهلهم في غفلة وبلادة، والذّكي منهم من يصحو قبل فوات الأوان».
- «وكيف تقوّم نشاط عشّاق الملاعب في مختلف المباريات هنا وهنالك؟»
- « في الملاعب وأمام شاشات المقاهي جيوش من الهيامى والمجانين والحمقى، اختلفت أعمارهم ومستوياتهم الاجتماعيّة، فقدوا عقولهم، وعطّلوا أعمالهم ومهامهم، وحضروا وحضّروا طقوسا وشعارات لفريقهم المفضّل داخل الحدود وخارجها، يتابعون اللّعب بهمّة عالية، وشغف بالغ، يهتزّون عند ضياع الفرصة، ويتمايلون نشاوى فرحين عند الفوز والانتصار، ويألمون ساخطين محبطين عند الخسارة والاندحار، وقد يختم المشهد أحيانا بأعمال الشّغب والتّخريب لبعض الممتلكات، عند عودة القوم الى منازلهم. ثمّ تبدأ التّحليلات والتّعليقات في الطّرق والمقاهي والملاهي والمنتديات لنتيجة المباراة التي أخذت من مالهم ووقتهم الكثير، وهم غافلون.
فهل من عاقل يتجّرد من عواطفه وأهوائه ويقوّم هذه الظّاهرة بما لها وعليها، ويتّخذ القرار المناسب الذي ينفعه ولا يضره، قبل أن يحاسب على ضياع وقته وسوء عمله».
- «وماذا ترى في(العشّ النّاعم) بين الأهل والأحباب يا أبا علي؟»
- «في العشّ مهما اتسع واستقام يستبدّ به منبر السّحرة، يقدّم فيه ما يملأ العين والقلب، بما تهوى الأنفس من الصّور والمشاهد والأنغام والأفلام وفنون الكلام وإتقان جذب العميان الى متاهات الضّلالة والخسران.
أفلام ومسلسلات، ومقالات مثيرة، ومقاطع صوتيّة متنوّعة، وصور مستجدية كسيرة،كلّها تبحث غالبا عن المال والرّبح والشّهرة وتنشر الخنا والقبح والقيء، لا تؤلم منتجيها أوجاعُ النّاس، ولا ترى حرجا في اتباع الأرجاس والأنجاس، بل يفخرون بصحبتهم وصداقتهم، ويدافعون عن ضلالتهم وانحرافهم، ونسوا أو تناسوا عداوتهم وحقدهم للمؤمنين في كثير من النّصوص الشّرعيّة التي لا يذكرها الإعلام بدعوى التّسامح وقبول الآخر وهم على خلاف ما يدّعون.
وقلّما ترى ما يرضيك أو تسمع ما ينفعك في هـذا المنبر؛ فالقنـوات فيه كالمتبرّجـات، يعرضن زينتهـن لعشّاق المظاهـر -وما أكثرهم- يصطدن أهل الفراغ الذين لا قيمة للوقت في نظرهم الاّ للمتع واللّذات المادّية، فهي التي تستحقّ في نظرهم أن يتعب المرء لها وينصب، من أجل الوصول الى ما يحبّ ويرغب.
وفي بعض المناسبات يكتظ البيت بزوّاره، فيشمل الكبار والصّغار، يجتمعون أجسادا، ويختلفون غاية ومرادا. الكبار في لغوهم تائهون، وفي مجاملاتهم وسرد بطولاتهم غارقون، يحكون يقصّون، يتسابقون في الحديث، يمزحون ويضحكون ولا يملّون. والصّغار يمسحون شاشات هواتفهم؛ لاستعراض عناوين وصور ما يرغبون في مشاهدته أو سماعه أو قراءته، يختلفون في مشاعرهم وأهوائهم، لا يفترون ولا يكلّون من اللّهو والعبث فيما يعشقون الى حدّ الإدمان. ولكلّ ليلاه، وليلى صمّاء عمياء لا تسمع ولا ترى.
والشّيوخ حيارى لا يتكلّمون ولا يكلّمون، يرون ويسمعون، وكأنّهم غائبون، لا تأثير لهم ولا أثر فيما يتّخذ خلفهم من قرار أو مسار؛ وقد كانوا من قبل يقودون ويحكمون، ويتحمّلون الأثقال والأهوال؛ لرفع القواعد، وتقوية السّواعد، وحماية العشّ من الآفات والمكائد، حتّى إذا استوى البنيان، واشتد عود الفتيان، وأمِنت المسالك من العدوان، قيل للشّيوخ بلسان الحال: الزموا مكانكم، واقرأوا تاريخكم، واصلحوا ما أمكن من أخطائكم، فالزّمان اليوم يكتبه غيركم، والكلّ سوف يسأل عمّا قدّمت يداه، وستجزى كلّ نفس بما كسبت من خير أو شرّ.
فيا أيّها التّائهون الغافلون الغارقون في الوحل، راجعوا مسيرتكم، وقوّموا أعمالكم قبل أن تقوم عليكم، ولا تركنوا الى ما لا يدوم من مال وصحّة وجمال، وتزوّدوا بما ينفع، واستعدّوا للرّحيل قبل أن يحلّ الأجل، فيقطع الرّجاء والأمل.
فاغتنم صاحبي الوقت المتاح لك اليوم قبل الغد لإصلاح ما انكسر، واستدراك ما فات وغبر،
﴿ ... وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(لقمان: 17)».
|