خواطر

بقلم
شكري سلطاني
رحلة البحث عن الحقيقة الأبديّة
 يستهمّ الإنسان سفينة الحياة مع سائر البشر وكلّ ورزقه وحظوظه الدّنيويّة وعمله وأجله لتستمر الرّحلة إلى منتهاها، ولكن قلّ من يدرك كُنه الحياة وحقيقتها وقيمة محتواها وما تقدّمه للبشر من فرص وإمكانيّات للتّجاوز والتّطوّر والتّحوّل والرّقّي العرفاني والوجداني والسّلوكي. فما قيمة حياة الإنسان إذا عاشها كعيشة البهائم والأنعام؟
إنّ تمام وعي الإنسان وفهمه وإدراكه ونضجه يتمثّل في التبصّر بمعاني الوجودوحقائقه وأبعاده، بمعرفة نفسه وربّه خالقه ورازقه والغاية من وجوده، حتّى يسلك سبيل الحكمة والرّشاد فهما ووعيّا وإدراكا وممارسة، ولكي يغتنم جيّدا فرصة وجوده في الحياة دون غفلة وضلال وضياع.  فما هو جدوى الإستبصار لفهم حقائق  الوجود؟
1. الإستبصار كعمليّة لكشف أبعاد الوجود :
إنّ الإستبصار هي مرحلة متقدّمة في حياة الإنسان اليقظ الفطن الصّاحي، وهي طور ما بعد تحقيق الإحتياجات الأساسيّة الضّروريّة الحياتيّة كالإحتياجات الفيزيولوجيّة والإجتماعيّة والأمان، وذلك بعد رحلة مضنيّة عسيرة من الكدح والتّجارب وإكتساب الخبرات. يعتمد الإنسان في سيره وسعيه على الملاحظة والتفكّر والتأمّل  والتّدبّر متحقّقا بالوعي الذّاتي.
إنّ النّقلة النّوعيّة التّي تحدثها عمليّة الإستبصار من تجاوز للوجود الحسّي المادّي الدّنيوي بمعوقاته وعقباته ومقاربته الدّنيويّة ذات النّزعة الإستهلاكيّة والإستحواذيّة حيث سكون النّفس في دائرة الأنا والرّكون في المثلث العدمي ( الوهم وسوء الفهم وزيف المشاعر)، فلا هو تجاوز فهمه ولا ارتقى بسلوكه وفعله ولا غيّر ما بنفسه.
الإستبصار حالة صحوة وإنتقال من الغفلة والغرور والعُجْب واللّهو والعبث وسفر الظّاهر إلى السّعي والكدح والنّفس المُحيّدة، فلا أنانّية ولا نرجسيّة بل يتحلّى الإنسان ويتجمّل بقيّم معنويّة خالدة ترسخ تباعا في النّفس، ليكتسب مهارة الصّبر الجميل وتظهر عليه رايات الشُكر قولا وفعلا، بتمكنّه من ذهنيّة ذات مقاربة شاملة تأخذ بعين الاعتبار الظّاهر والباطن، عالم الشّهادة وعالم الغيب، عالم الأحياء وعالم الأموات، حيث الموت قانون ومحطّة عبور وليس فاجعة ومصيبة وهلاك وفناء.
إنّ الخروج من ظلمات الجهل والوهم وغشاوة الزّيف والضّلال والخداع إلى أنوار العلم والمعرفة والحقيقة تتمّ من خلال تجربة حياة ووعي بتوفيق وهداية من اللّه سبحانه وتعالى حيث يتراءى من خلال البصيرة الحيّة المثلّث العُبودي ( الحقّ الإلهي  والصّراط المستقيم والحقيقة المحمديّة) الذّي ينعكس ويتمظهر واقعيّا عبر الشّريعة والطّريقة والحقيقة، وكلّها أبعاد ومعانٍ يعيشها الإنسان الرّاقي ذوقا وحسّا وأخلاقا وعقليّة عبر أقواله وأفعاله. فما هي آليّات البحث عن الحقيقة الأبديّة؟
2.  آليات البحث والكشف :
لن تكتمل رحلة الإنسان في البحث عن الحقيقة حتّى يحاور نفسه وينقدها ويسعى جاهدا لتهذيبها وتغييرها مقتلعا من بستانها كلّ النّباتات الطّفيلية الضّارّة ويزرع بدلا عنها ورد الصّفا والنقا والبهاء، مواصلا خطواته ومساره لمعرفة حقيقة نفسه العميقة ومعرفة ربّه ومعرفة الوجود.
إنّ الإنطلاق في طريق البحث والمعرفة والكشف حتما يكون من الوجود الدّنيوي الذي يتميّز بشقيّه الحسّي والمعنوي الذّي يغلب عليه الجانب المادّي الحسّي الظّاهراتي بسيادة الظّواهر بمظاهرها وصورها وأشكالها وأحجامها وألوانها وأبعادها، مُغذّية الأبصار والعيون، ولا تلامس البصيرة لأنّ الجانب المعنوي باطني أعلى وأرقى يتطلّب حدسا وحسّا ذوقيّا رفيعا وفهما وإدراكا متعاليا وذكاءً عاطفيّا، لكي يتجاوز الإنسان الفطن الكيّس المجال الحسّي المادّي بحجبه وقيوده إلى ما وراء الصّورة والحركة ومظاهر الظّواهر بإكتناه الأسرار والحكمة من وجود الوجود. 
إنّ البُعد المادي هامّ وحاسم في حياة البشر، فكلّ المخلوقات محاطة بظروف عيشها مرتبطة بعناصر حياتيّة تُؤمّن وجودها الدّنيوي. ويعتبر الزّمن عنصرا أساسيّا محدّدا صيرورة الإنسان ومآله بما أنّه يتغيّر ويتحوّل مع الزّمان ولا يثبت على حال. أليست حياة الإنسان حدثا طارئا في تاريخ البشريّة مُقيّدا ومُحدّدا بزمن؟
ولتبيّن ودراسة حقيقة الحقائق في تجربة البحث الإنسانيّة، كان لا بدّ من فهم الدّلالات الرّبانيّة في ذات الإنسان وكذلك الإشارات والبراهين والآيات الإلهيّة في الكون.
أ- الإشارات الإلهيّة :
إنّ الإشارات الكونيّة المبثوثة في الوجود تُعبّر عن تجليّات الحقّ سبحانه وتُرشد كلّ باحث إلى حكمة الخالق وقدرته، وتكشف عن أسمائه وصفاته التي لا تتقيّد ولا تُحدّ بظروف وشروط وزمن، بل هي أزليّة مطلقة تُفيد في فهم غائيّة الوجود وإبداع الخالق وحكمته وقدرته سبحانه وتعالى.
إنّه لإبداع حيّر الألباب لما يتمّ كشفه في الطّبيعة من  نواميس وقوانين مُنظّمة لها، وما يظهر في جسد الإنسان من أليات مُسيّرة مُيسّرة لعمله. 
ب- الدّلالات الإلهيّة :
تحمل كينونة الإنسان كذات بشريّة دلالات إلهيّة واضحة وبرهانا على خِلقته وتكوينه وتسويته، وهي تُمثّل مفتاحا لمغاليق الأفهام ومصباحا لمعرفة الربّ عزّ وجلّ. وللإنسان إطار ماديّ ظاهري بارز للعيان وهو البدن، يستعمله كدابّة للسّير والسّعيّ، نافذته البصر وله باطن وجود نفسه وروحه ونافذته البصيرة.
إذن من البداهة أن يرتحل الإنسان من سفر الظّاهر إلى سفر الباطن بتجاوز ظاهر وجوده إلى باطنه، فمن وجوده الحسّي المادّي الدّنيوي السّطحي إلى وجوده المعنوي الأخروي الغيبي العميق حيث يرتقي إلى مجالات معرفيّة وعرفانيّة أعلى وأرقى ومطالعة الغيوب. فحكمة اللّه العزيز الحكيم في الكون والمخلوقات  تُفهم من خلال منطق السّببيّة، وتُفْهم بإتّباع الأسباب والمسبّبات، لِتُبنى مفاهيم تساعد الإنسان في تفسيراته وإستيعابه للوجود معرفيّا بما تقتضي حكمة الخالق سبحانه وتعالى ترتيبيّا وتنظيميّا وإحكاما لقوانين الكون.
أمّا قدرة العزيز الوهّاب فهي مطلقة تتجاوز الأسباب والمسبّبات وتخرج عن حيّز فهم الإنسان وإدراكه الذي يرتبط بمبدأ السّببيّة والمحسوس والملموس، إذ أنّها مشيئة ربّانية أزليّة لا تخضع لمنطق سببي، بل تخضع للسرّ الربّاني المتمثل في كلمة «كُن فيكون». فالحكمة الرّبانيّة يمكن فهمها من خلال بدن الإنسان ووظائف أعضائه وتمظهرات نفسه والظّواهر في الطّبيعة.أما القُدرة الإلهيّة فتظهر في النّفخة الرّبانيّة والإمتداد من اللاّهوت إلى النّاسوت سكونا وحركة، لتجعل من الإنسان كائنا حيّا مُدركا للوجود متمتّعا بالحياة.
إنّ من يتتبّع ويدرس الدّلالات الإلهيّة والإشارات الرّبّانيّة يستنتج من خلالها أنّ مجال الخالق وبُعده مخالف تماما للبشر، فالخالق لا يشبه  بتاتا مخلوقاته.
3. « مهما تصوّرت ببالك فاللّه لا يُشبه ذلك» :
اللّه عز وجل لا  يحيطه مكان ولا زمان، ولا يُمكن أن يُطبّق المنطق المفاهيمي الكينوني والصّيروري البشري عليه سبحانه، فذاك مُحال. فكلّ ما في الكون مُكوّن من المُكوّن، وقد تمّت عمليّة الخلق من عدم ثمّ التّسويّة لهدف وغاية، ثمّ التّقدير والهداية، فلكلّ سعيه وفعله بما اقتضت  مشيئة الخالق العظيم.﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾(الأعلى: 2-3). واللّه عزّ وجل لا يخضع لما كان قد خلقه، فهو  خارج الزّمان والإحاطة والمكان، فلا أين له، وهو خارج التّكوين والتّسوية، فكلّ ما خطر ببال البشر فاللّه سبحانه خلاف ذلك.
إنّ من عرف نفسه فقد عرف ربّه ومن عرف ربّه فقد صحّح مسار حياته في الإتّجاه الصحيح. فكيف إذن يُفهم الوجود الإلهي؟
ليس هناك مقاربة بشريّة أو رؤية فلسفيّة إنسانيّة يُمكن أن تَفْهَم وتُفسّر الوجود الإلهي، فهي عاجزة تماما  عن الإحاطة ذهنيّا وفكريّا وتجريديّا بوجوده سبحانه، وذلك لعدم قدرة المُحاط أن يُحيط بالمحيط. فالمنطلقات الدّنيويّة الحسيّة المادّيّة لا تُناسب ولا توافق ولا تتطابق مع العلوّ الربّاني، لذلك فالمنطلق الأقرب للفهم يقتضي نفي كلّ تفكير من الإنسيّ إلى الرّباني، من النّاسوت إلى اللاّهوت، سواء أكان بالتّناسب أو التّشبيه أو المطابقة، لأنّ المجال الإلهي مجال خاصّ فرديّ أحاديّ متجاوز متعالٍ،  يختصّ بالإله الأعظم دون سواه. ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرهِ  إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج: 74)
ولذا يستوجب فهم الوجود الربّاني وحضوره من زاوية رؤية عرفانيّة بعيدة كلّ البُعد عن الوجود الحسّي الدّنيوي المادّي وخارج تصوّرات وتمثُلات البشر النّسبيّة المُقيّدة بزمان ومكان وإحاطة دنيويّة.
اللّه عزّ وجل لا يحتاج للسّعيّ ولا هو في حاجة لمعرفة، وليس من صفته الإستهلاك، فكل ذلك خارج عن ذاته ولا يليق بمقامه ولا بصفاته العلويّة الرّبانيّة، فهو النّور السّرمديّ والعِلم التّام الكامل المطلق والقدرة والمشيئة والإرادة الأزليّة المطلقة لا تحكمه القوانين البشريّة، وهو وراء الأفهام والأذهان والقلوب والعقول وكلّ ما حوى الكون. 
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(الزمر: 67) صدق الله العلي العظيم