شخصيات الإصلاح
بقلم |
![]() |
التحرير الإصلاح |
الجاحظ «مفكر أديب قتلته الكتب» |
يعدّ الجاحظ من كبار أئمة الأدب العربي الذين اشتهروا في العصر العباسي. وهو موسوعة تمشي على قدمين، وتعتبر كتبه دائرة معارف لزمانه، كتب في كل شيء تقريبًا؛ كتب في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء والسلطان والجند والقضاة والولاة والمعلمين واللصوص والإمامة والحول والعور وصفات الله والقيان والهجاء.
هو «عمرو بن بحر بن محبوب الكناني» أشتهر بالجاحظ بسبب جحوظ عينيه أي بروز العينين من مكانهما الطبيعي. وكان معروفاً بقبح المظهر، لكنّ روحه تميّزت بالفكاهة والقدرة على الهزل.
ولد الجاحظ عام 159 هـ (776 ميلادية) في البصرة، جنوبي العراق، في الوقت الذي زاد فيه نفوذ المعتزلة، الذين كانوا ينادون بإعمال العقل وتشجيع الفكر الإنساني. قضّى طفولة صعبة في أسرة فقيرة، حيث كان يبيع الخبز والسّمك في سوق البصرة وهو صبي حتّى يؤمن لعائلته لقمة العيش، ولكنّه كان يحب تعلم القراءة والكتابة فبدأ بحفظ القرآن ثم أخذ العلم عن أعلام البصرة فجلس إلى الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري وأخذ عنهم علم اللغة العربية وآدابها ودرس النحو على الأخفش، وتبحر في علم الكلام على يد إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري. وعندما اشتد عوده وأصبح شاباً تعلم اللّغة الفارسيّة والهنديّة وأصبح مواظبا على الذهاب إلى مربد البصرة فيأخذ اللغة مشافهة من الأعراب، ويناقش حنين بن إسحاق وسلمويه فيتعرَّف على الثقافة اليونانية، ويقرأ ابن المقفع فيتصل بالثقافة الفارسية، ثم لا يكتفي بكل ذلك، بل يستأجر دكاكين الورّاقين ويبيت فيها ليقرأ كل ما فيها من كتب مؤلفة ومترجمة، فيجمع بذلك كل الثقافات السائدة في عصره؛ من عربية وفارسية ويونانية وهندية أيضا. ثم توجه إلى بغداد، وفيها تميز وبرز، وتصدّر للتدريس، وتولّى ديوان الرسائل للخليفة المأمون.
كان الجاحظ لسان حال المعتزلة في زمانه، فرفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء، ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء، سواء من ينقلون علم أرسطو، أو بعض من ينقلون الحديث النبوي.
آمن الجاحظ بأهمية الشّك الذي يؤدّي إلى اليقين عن طريق التّجربة. وهاجم رجال الحديث، لأنهم لا يحكّمون عقولهم فيما يجمعون ويروون، فكان يقول: «ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهانها لخفّت المؤونة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان». وكان يرفض الخرافات كلها، وينقد من يرويها من العلماء أمثال أبي زيد الأنصاري، فيقول: «إن أبا زيد أمين ثقة، لكنه ينقصه النقد لأمثال هذه الأخبار التي يرويها عن السحالي والجن، وكيف يراهم الناس ويتحدثون إليهم ويتزوجونهم وينجبون؟» كما رفض وضع صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكانة أعلى من البشر، بحيث لا يحق لأحد أن يتعرض لأعمالهم ويقيمها وينقدها، فهو يرى أن من حق المؤرخ أن يتناول أعمالهم بميزان العقل، لأنهم بشر كالبشر يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة، وإذا كانت صحبتهم للرسول ﷺ تعطيهم حق التوقير فإن هذه الصحبة نفسها تجعل المخطئ منهم موضع لوم شديد؛ لأنه أخطأ رغم صحبته للرّسول ﷺ وقربه منه.
أمّا في السّياسة، فقد رفض الجاحظ بشدّة القول بأنّ سبّ الولاة فتنة ولعنهم بدعة، وكان-كمعتزلي- يرى ضرورة الخروج على الإمام الظّالم في حالة وجود إمام عادل، مع الثّقة في القدرة على خلع الظّالم وإحلال العادل محلّه، دون إحداث أضرار أكثر ممّا يتوقّع جلبه من المنافع. وكان الجاحظ يؤكّد أن العقل الصّحيح أساس من أسس التّشريع.
من مجامع كلام الجاحظ: «المنفعة توجب المحبة، والمضرة توجب البغضة، والمضادة عداوة، والأمانة طمأنينة، وخلاف الهوى يوجب الاستثقال، ومتابعته توجب الألفة. العدل يوجب اجتماع القلوب، والجور يوجب الفرقة. حسن الخلق أنس، والانقباض وحشة. التكبر مقت، الجود يوجب الحمد، والبخل يوجب الذم». ويعرّف الجاحظ منهجه في تبيان الحلال والحرام بقوله : «إنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب النّاطق، وبالسّنة المجمع عليها، والعقول الصّحيحة، والمقاييس المعينة» رافضًا بذلك أن يكون اتفاق أهل المدينة على شيء دليلاً على حلّه أو حرمته؛ لأنّ عظم حقّ البلدة لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه، ولأنّ أهل المدينة لم يخرجوا من طباع الإنس إلى طبائع الملائكة «وليس كلّ ما يقولونه حقًا وصوابًا».
ويعد الجاحظ من أغزر كتّاب العالم؛ فقد كتب حوالي 370 كتابًا في كلّ فروع المعرفة في عصره، وكان عدد كبير من هذه الكتب في مذهب الاعتزال، وبحث مشكلاته، والدّفاع عنه، لكنّ التّعصّب المذهبي أدّى إلى أن يحتفظ النّاس بكتب الجاحظ الأدبيّة، ويتجاهلون كتبه الدّينيّة فلم يصل إلينا منها شيء. وكان أسلوبه في الكتابة أحد المميّزات الكبرى التي تمتّع بها الجاحظ، فهو سهل واضح فيه عذوبة وفكاهة واستطراد بلا ملل، وفيه موسوعيّة ونظر ثاقب وإيمان بالعقل لا يتزعزع. من أشهر مؤلّفاته رحمه اللّه: «البيان والتبيين» في أربعة أجزاء، و«البخلاء»، و«المحاسن والأضداد»، و«البرصان والعرجان»، و«الّتاج في أخلاق الملوك»، و«الآمل والمأمول»، و«التّبصرة في التّجارة»، و«البغال»، و«فضل السّودان على البيضان»، و«رسائل الجاحظ»و«كتاب الحيوان» في ثمانيّة أجزاء الذي يعتبر موسوعة لما لا يقلّ عن 350 نوعاً من الحيوانات.
كان الجاحظ أوّل عالم أحياء مسلم يطوّر نظريّة عن التّطوّر. فقد كتب في مؤلّفه «الحيوان» عن تأثيرات البيئة على فرص بقاء الحيوان على قيد الحياة، حيث لاحظ بعناية الصّراع الواضح من أجل الوجود بين جميع الأنواع ووصفه بدقّة. ومن المثير للاهتمام أنّه ربط بين استهلاك الغذاء والبيئة، مؤكّدًا أن هذه الأخيرة أوجدت، أو ربّما، ساهمت في الخصائص الفيزيائيّة لجميع النّباتات والحيوانات. وقبل وقت طويل من طرح داروين نظرياته الخاصّة، لاحظ الجاحظ كيف كانت البيئة مسؤولة عن ألوان بشرة الإنسان المختلفة. ويمكن القول أنّ الجاحظ اكتشف فكرة التّطور البيولوجي، وأتقنها داروين.
اشتد المرض بالجاحظ في أواخر أيامه فأصيب «بالفالج»، وهو نوع من الشّلل النّصفي، ومن كثرة ولعه بالقراءة والكتابة زحف وحيداً إلى مكتبته المكتظة بالكتب المكدّسة، فانهالت مجلّداتها الضّخمة عليه، فمات في حينه عن عمر يناهز التّسعين عاماً سنة 255 هـ/ 869م.
|