تأملات

بقلم
د.عبدالله البوعلاوي
نحو قراءة تدبّرية لفقه السّنن الكونيّة من خلال القرآن الكريم (5) فقه السنن الكونيّة ضرورة لتحقيق الش
 تشير العلاقة بين السّنن الكونيّة والتّكليف الإنساني إلى كيفيّة ارتباط القوانين والظّواهر الطّبيعيّة التي تحكم الكون (السّنن الكونيّة) بمسؤوليّات الإنسان الدّينيّة والأخلاقيّة (التّكليف الإنساني). وتتجلّى هذه العلاقة بين الإثنين في كون الإنسان مطالب بفهم هذه السّنن واستثمارها بشكل يتوافق مع التّكليف الإلهي، ممّا يعزّز دوره في إعمار الأرض وتحقيق العدالة. 
خلق اللّه الكون وفق نظام دقيق ليكون ساحة اختبار للإنسان، ويحمل في طياته دروسًا وعبراً،  تساعده  في أداء واجباته الدّينيّة والدّنيويّة بشكل صحيح، كما تعينه على التّفكّر في عظمة الخالق وإدراك مسؤوليّته. إنّ السّنن الكونيّة ليست مجرّد ظواهر طبيعيّة بل هي إشارات من اللّه تساعد الإنسان على تحقيق الغاية التي خلق لأجلها، وهي عبادة اللّه وتحقيق خلافته في الأرض. 
لقد منح اللّه تعالى الإنسان حرّية الإرادة، لكن هذه الحرّية لم يكن ليخرج بها عن مشيئة اللّه وحكمته، فهي مقيّدة بالسّنن الكونيّة والتّكليف الإلهي، وهو مطالب بأن يسير وفق هذه السّنن مع مراعاة تكليفه ومسؤوليّته أمام اللّه تعالى، ممّا يشير إلى وجود توازن بين الحرّية الإنسانيّة والنّظام الكوني.
تشير السّنن الكونيّة إلى القوانين والظّواهر التي تحكم الكون، وهي نواميس اللّه في خلقه وتدبيره، والتي تعكس النّظام الدّقيق الذي أودعه اللّه في الكون بكافة تفاصيله. وهذه السّنن هي الطّريقة التي يسير بها الكون وفق إرادة اللّه الحكيمة، مع مراعاة حرّية الإرادة التي منحها اللّه للبشر وسائر المخلوقات. وكلّ سنّة من هذه السّنن تجري وفق حكمة إلهيّة بالغة، تُظهر التّوازن والتّناغم بين مكوّنات الكون. يقول اللّه تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ (الأعلى : 1-2) ، حيث يشير كلّ مكوّن من مكوّنات الكون إلى بصمة إبداعيّة فريدة تعكس عظمة اللّه وقدرته، ممّا يدعو إلى التّأمّل في حكمته البالغة والسّنن الكونيّة، ومدى ارتباطها بنصوص القرآن الكريم.
تسهم السّنن الكونيّة بشكل كبير في توجيه حركة المجتمع وتؤثّر على تطوّره، وهي تجري بشكل منتظم ومستمر، إلاّ في الحالات التي تتدخّل فيها السّنن الخارقة، أي المعجزات التي تتجاوز القوانين الطّبيعيّة، قد «تكون حاجة المسلمين اليوم لفهمها وحسن التّعامل معها وتسخيرها، للقيام بأمانة الاستخلاف وتعمير الأرض، أشدّ من حاجتهم للحكم التّشريعي الذي تضخّم وتضخّم حتّى كاد يشمل الإسلام بأبعاده كلّها، مع أنّ الحاجة إليه تأتي ثمرة لأعمال هذه السّنن»(1) . 
يعتبر فهم هذه السّنن والتّعامل معها بذكاء أمرًا حيويًّا للمسلمين اليوم. هذا الفهم يمكّنهم من تنفيذ مسؤوليّة الاستخلاف في الأرض وتعميرها بطريقة تتماشى مع مشيئة اللّه تعالى. تأتي الإشارة إلى أنّ الحاجة إلى فهم السّنن الكونيّة قد تكون أكثر أهمّية من التّمسّك المفرط بالحكم التّشريعي، الذي قد أصبح محورًا مركزيًّا في الفهم التّقليدي للإسلام، حتّى طغى على أبعاد الدّين الأخرى. فالحكم التّشريعي يجب أن يُفهم كنتيجة أو ثمرة لتطبيق السّنن الكونيّة. بمعنى أنّ المجتمع المسلم إذا استوعب هذه السّنن وأحسن التّعامل معها، فإنّه بذلك يكون قد أسّس الأرضيّة التي يُبنى عليها التّطبيق الصّحيح للحكم الشّرعي. 
دون هذا الفهم، قد يكون تطبيق الأحكام الشّرعيّة معزولًا عن السّياق الكوني والاجتماعي الذي يعمل فيه، ممّا قد يؤدّي إلى خلل في فهم الدّين بشكل شامل، بمعنى أنّه «ليس هناك فوضى في الكون، من ناحية البناء العلمي له، ومن ناحية الانطلاق الحضاري. سنن قائمة بيقين وسنن ثابتة... وقد انطبقت هذه السّنن على صاحب الرّسالة نفسه، نَصْرًا وهزيمة. فعندما قصّر المسلمون في اتخاذ الأسباب المطلوبة لاستكمال النّجاح في «أحد» هُزِموا، وقيل لصاحب الرّسالة:﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران: 128)، «وإذا استكملوا أسباب الانتصار انتصروا..ولا يُتصوّر أنّ أمّة من الأمم تُحَابى أو تُستثنى من هذه القوانين»(2).
إنّ القوانين الاجتماعيّة والكونيّة كانت وما زالت تشكّل العوامل الرّئيسيّة في صعود الأمم وسقوطها. وفي هذا السّياق، يكمن العنصر الأهمّ في القدرة على التّحرّر من أغلال التّقليد والتّبعيّة العمياء، ممّا يسمح بفهم هذه القوانين واستيعابها بشكل عميق. ويتطلب ذلك البحث المستمر في الأسباب والعوامل التي تؤدّي إلى التّقدّم والازدهار، وكذلك في تلك التي تسهم في الهزيمة والتّراجع والتّخلّف. إنّ التّقليد والتّبعيّة هنا يشيران إلى الانغماس في عادات وممارسات اجتماعيّة أو فكريّة دون تحليل أو نقد، ممّا يعيق التّقدّم ويؤدّي إلى التّراجع. ونقصد  بالتّحرّر بناء نظرة نقديّة واعية للتّاريخ والعلم والمجتمع، ممّا يفتح الباب للعقل للاجتهاد والتّجديد.
تبدأ الخطوة الأساسيّة لفهم السّنن بالوعي بها، وكيفيّة تأثيرها على حركة المجتمعات والحياة الاجتماعيّة الإنسانيّة. هذا الوعي يُمكّن من صياغة خطط وبرامج تهدف إلى مواجهة التّحديّات ودفع الأقدار، بدلاً من الانسياق وراء «الفكر القدري» وانتشار النّظرة الجبرية. هذه«هي الفلسفة التي عطّلت قانون السّببيّة تعطيلا كاملا، لقد عطّلته في السّنن الكونيّة، فتخلّفنا في عمارة الأرض.. وعطّلته في السّنن النّفسيّة، فسادنا التّواكل وانطفاء الفاعليّة»(3). 
إنّ التّفكّر في القرآن الكريم والتّأمل العميق في معانيه يشكّلان الطّريق الأمثل لفهم القوانين الكونيّة والاجتماعيّة وتأثيرها في حياة البشر. إنّ تدبر آيات القرآن واستخلاص دلالاتها يتقدّم على القراءة السّطحيّة أو مجرّد حفظ النّصوص وتلاوتها. التّدبّر هنا يعني التّأمّل الواعي في معاني الآيات وربطها بالواقع العملي، بحيث يتحوّل القرآن إلى منهج حياة وليس مجرّد نصّ ديني يتلى دون فهم. التّدبّر في القرآن ليس ترفًا فكريًا، بل هو شرط أساسي للنّهضة ولتحقيق الرّسالة التي يحملها المسلمون للعالم. يُعدّ التّعمّق في معاني القرآن وتطبيقها على الواقع أعلى درجات العبادة وأكثرها نفعًا، مقارنة بمن يكتفون بقراءة الآيات وترتيلها دون إدراك معانيها الحقيقيّة.
إنّ واقع الأمّة الإسلاميّة اليوم، على الرّغم من كثرة حُفّاظ القرآن الكريم، يعكس فشلها في تجاوز مستوى التّفكير البدائي وعدم قدرتها على حمل رسالة الإسلام والشّهادة على الأمم الأخرى، مع أنّها تمتلك الهداية الإلهيّة للبشريّة جمعاء. وكما بيّن اللّه تعالى في القرآن، فقد حذّر بني إسرائيل من الانقسام بعد أن وصلهم العلم من عند اللّه تعالى، لكنّنا للأسف لا نزال نغفل عن التّدبّر العميق في القرآن الكريم، ممّا يؤدّي إلى التّفرّق والضّعف، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة : 5) 
ولعلّ الغرب المادّي أدرك أهمّية السّنن الكونيّة وفقه أمرها، وتعامل بذكاء مع قوانينها، فتمكّن من السّيطرة على موارد الأرض والتّحكّم في مصائر الشّعوب. إلاّ أنّ الفكر المادّي الغربي، الذي اعتمد بشكل حصري على العلم والعقلانيّة البشريّة، أساء للإنسان وللكون على حدّ سواء، حيث تجاهل مصدرًا رئيسيًّا من مصادر المعرفة الإنسانيّة، وهو الوحي الإلهي. هذا الإغفال أدّى إلى اختلال التّوازن بين العلم والدّين، ممّا جعل الإنسان ينحرف عن فهمه الشّامل للحياة والوجود. بمعنى آخر نجح الغرب في فكّ شفرات القوانين الكونيّة واستطاع عبر ذلك تحقيق هيمنته على العالم. لكن هذا النّجاح المادّي جاء على حساب الجانب الرّوحي والأخلاقي للإنسان، إذ أنّ الفكر المادّي ركّز فقط على مصدر واحد من مصادر المعرفة، وهو العلم التّجريبي والعقلانيّة. 
يعتبر القرآن الكريم مرجعا شاملا، يستطيع الإنسان من خلاله تحقيق التّكامل بين الرّوح والمادّة، ويوجّهه نحو حياة متوازنة تجمع بين متطلّبات الجسد واحتياجات الرّوح، ويضمن سعادة البشريّة ورفاهيتها في الدّنيا والآخرة، بمعنى أنّ المنهج الذي يقدّمه القرآن الكريم منهج يُعنى بتقديم إرشادات تنظّم جوانب الحياة المختلفة، بحيث يمكن للإنسان أن يعيش حياة متناغمة لا تفصل بين الدّين والدّنيا، «إنّ خميرة النّهوض موجودة في القرآن الكريم، وأسباب النّهوض والسّقوط في القرآن، السّنن هي أشبه ما تكون بمعدّلات رياضيّة، وبمجرد أن أحسن المسلمون التّعامل معها، أوجدوا حضارة، وعندما تنكّروا لها كان السّقوط، لذا نرى كلّ ما جاء على الحضارة من الفساد الدّاخلي والاستبداد السّياسي، وما إلى ذلك، ومن الموجات العارمة الخارجيّة المبيدة والسّنين الطّويلة التي عاشتها لإسقاط الحضارة الإسلاميّة، لكن مع ذلك استعصت الحضارة الإسلاميّة، ولعلّ ما يعطيها لونا من الخصوصيّة بسبب الوحي، بسبب خلود القرآن، وإنّ قابلية النّهوض موجودة باستمرار، وإنّ عدم القضاء عليها دليل على عدم خضوعها للدّورات  الحضاريّة والمقاييس الحضاريّة الأخرى بشكل صارم»(4). 
إنّ التّفاعل الإنساني مع السّنن الكونيّة، يرقى به إلى مستوى تأمّلات في الحكمة الإلهيّة، ونسج علاقة وطيدة بينه وبين القوانين الكونيّة التي وضعها اللّه تعالى وفق حكمته. فالإنسان ليس مجرّد كائن يعيش في الكون ليقضي أيّامه المعدودات بدون هدف، بل يقضيها ليقوم بالمسؤوليّة تجاه خالقه وتجاه الكون في تناغم حقيقي، فهو  يتفاعل معها فهمًا عميقًا لها واستيعابًا للحكمة الإلهيّة التي تقف وراءها. 
إنّ العلاقة التي تربط الإنسان المسلم بالكون وقوانينه  ليست مجرّد علاقة علميّة أو فلسفيّة أو مادّية نفعيّة، بل هي علاقة عميقة ومتعدّدة الأبعاد تربط الإنسان بوجوده، وتساهم في تحقيق دوره كخليفة في الأرض، مستخدمًا العقل والوحي لفهم الكون وإعماره بما يتوافق مع الحكمة الإلهيّة. والإنسان بطبيعته يسعى إلى فهم هذا النّظام لتحقيق التّوازن في حياته، معرفة تساعده على التّأقلم من جهة مع محيطه ومن جهة أخرى تحقيق متطلبات الحياة المادّية والرّوحيّة. إنّ هذا الانسجام يُغذّي حاجة الإنسان الرّوحيّة من خلال الحكمة التي أودعها اللّه تعالى في تدبير الكون فيقوده ذلك إلى تثبيت إيمانه بأنّ هناك غاية أكبر وراء كلّ شيء. «إنّ سنن السّقوط والنّهوض، أو القوانين التي تخضع لها مجتمعات البشر، لم تقتصر في معرفة الوحي على قراءة الماضي، أو استيعاب الحاضر فقط، وإنّما تجاوزت المنظور إلى تقديم رؤى مستقبليّة، تسبق الإعداد والاستعداد، للتّعامل معه»(5).
يعتبر الوعي بالسّنن الإلهيّة وفهمها أمرا أساسيّا في العقيدة الإسلاميّة، وعاملا رئيسيّا في استيعاب أسباب نهوض الأمم وأسباب سقوطها، حيث تناول القرآن الكريم تلك السّنن التي تحكم الحياة والأحياء - وهي القوانين التي تتحكّم في الحركة التّاريخيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة - بما في ذلك سنن صعود الأمم وانهيارها. وغالبًا ما يتجلّى الحديث عن هذه السّنن في سياق القصص القرآني، مؤكّدًا أنّ هذه القوانين سارية على جميع البشر دون استثناء. 
واكتشاف هذه السّنن وفهمها والتّعامل معها يُعتبر ضروريًّا لتحقيق الشّهود الحضاري ، (بمعنى إعمار الأرض والقيام بمسؤوليّات الاستخلاف الإنساني)، والتّمكّن من أداء دور الشّهادة والقيادة للنّاس استجابة لأمر اللّه تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: 142) ، و«اكتشاف السّنن هو الذي مكَّن الدّول المتقدّمة من تحقيق التّقدّم والتّحكّم في مسار الأحداث؛ بينما كانت غفلة المسلمين عن هذه السّنن السّبب الرّئيسي في انحطاطهم وتخلّفهم، ممّا جعلهم مسخّرين من قِبل غيرهم بدلاً من أن يكونوا هم المهيمنين والمسيطرين»(6).
ليس عبثا أن يتكرّر الحديث عن السّماوات والأرض والسّنن الكونيّة المختلفة في القرآن الكريم، وكذلك عن الذّرة وما دونها، ومختلف مكوّنات الكون، إلاّ لأسباب متعدّدة تتعلّق بالغرض من الرّسالة الإلهيّة والتّوجيه الرّباني للإنسان المتمثل في إثبات وحدانيّة اللّه وإظهار عظمته. هذه الآيات تُذَكّر الإنسان بأنّ اللّه هو الذي خلق كلّ شيء بقدرته المطلقة، وأنّ هذا الكون المنظّم بدقّة لا يمكن أن يكون نتيجة صدفة، بل هو دليل على وجود اللّه ووحدانيته، كما يكون الكون بمكوّناته فضاء للتّفكّر ودعوة للتّأمل. هذا التّفكّر يُعمّق الإيمان ويُعزّز الفهم الصّحيح لدور الإنسان في الكون.
إنّ الكون يسير وفق سنن وقوانين ثابتة وضعها اللّه تعالى. هذه السّنن تحكم كلّ ما يجري في الكون، وفهم هذه السّنن يُمكّن الإنسان من التّعامل مع العالم من حوله بطريقة صحيحة ومستدامة، ليكون الإنسان مسؤولًا عن إعماره والتّعامل مع مكوناتها بحكمة ورعاية.
إنّ الكون بأسره ينطق بعظمة الخالق وجمال صنعه، فهو بمكوناته المتناسقة آيات تدلّ الإنسان على الطّريق الصّحيح في حياته. كما قال اللّه تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحج : 63)، وقال أيضا: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ (فاطر : 27) .هذه الآيات تدعونا إلى الاستفادة من كلّ ما سخّره اللّه لنا في هذا الكون، واستغلال موارده وإمكاناته لصالح ديننا ودنيانا. الكون ليس مجرّد مساحة مادّية تعيش فيها الكائنات، بل هو نظام متكامل يعكس حكمة اللّه فلا ينبغي لنا أن نغفل عن أيّ جانب من جوانب هذا التّسخير الإلهي، لأنّه يشكّل دفعة قويّة نحو تحقيق التّوازن بين حياتنا الرّوحيّة والمادّية، فكلّ ما في الكون من مخلوقات وظواهر وموارد هو جزء من التّسخير الإلهي الذي وهبه اللّه للإنسان، وهو مُطالب بأن يستخدم هذه النّعم لتحقيق نفع مزدوج؛ نفع ديني يتمثّل في تقوية علاقته باللّه والعيش وفقًا لأوامره، ونفع دنيوي يتعلّق بتحقيق الرّفاهيّة المادّية والتّقدّم الحضاري.
إنّ ما يجذب الانتباه إلى التّعامل مع الكون هو حركة سننه وقوانينه المستمرّة والدّائمة، التي تسير وفق نظام محدّد وثابت لا يتغيّر. وكلّما فهم الإنسان هذه السّنن وفسّر حركتها، زادت قدرته على ابتكار المعرفة التي تساعده على التّكيّف معها واستغلالها لصالحه. إذا أدرك الإنسان كيفيّة رؤية الكون ومنهجه، واستجاب لدعوة القرآن للتّأمّل في مكوناته المختلفة من الذّرة إلى السّماوات والأرض، فإنّه سيستخدم كلّ قدراته الفكريّة والعقليّة في استكشاف كلّ ما يعود عليه بالنّفع. كلّ آية في القرآن تفتح آفاقًا علميّة وتربويّة جديدة تتجاوز القراءة السّطحيّة، وتُؤسّس لمختبرات علميّة في مجالات متعدّدة، ذلك أنّه: «حين يرشدنا القرآن الكريم للانتفاع بالبحر مثلا، فهو تسخير يتعدّى الرّؤية الفقهيّة في الطّهارة المائيّة وأكل ميتته إلى اعتباره مختبرا علميّا وفضاءً لكسب المعرفة والثّروة الاقتصاديّة، ومجالا لتقريب البعيد والتّحاور معه. كذلك النّظر(7) إلى السّماء والأرض والجبال والنّجوم، وفي المخلوقات كالإبل والخيل والبغال والحمير، وفي الطّيور والحشرات والنّبات.. من أجل ابتكار الوسائل والأدوات للتّعامل مع كلّ صنف من أصناف المعرفة، وأن يفتح باب الاجتهاد في القضايا المتجدّدة، لإدراك المقصد من كلّ ألوان المعارف في القرآن الكريم، وأن تُقرأ النّصوص بواقع الحال، وليس بواقع الماضي.
بنى القرآن الكريم المعرفة على منهج سليم يعرّف الإنسان بواقعه ويُبَصِّره بالكون وفق السّنن الكونيّة وما تقتضيه المصلحة العامّة. هذا المنهج يتيح للإنسان قراءة الأحداث الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة بعقليّة اجتهاديّة تنيرها قيم الوحي، ويُمكنه من تقييم الواقع بناءً على هذه القيم. ففهم السّنن الاجتماعيّة والكونيّة في الأنفس والآفاق يُعتبر شرطًا أساسيًّا وعاملًا ضروريًّا لتحقيق الخيريّة والشّهود الحضاري. لقد جعل اللّه تعالى التّغيير مرتبطًا بالذّات الإنسانيّة؛ فمن عمل بهذه السّنن نال النّصر والتّأييد، ومن تخلّف عنها أو تجاوزها فقد فاته ركب الحضارة وأصبح تابعًا لمن أخذ بها.
الهوامش
(1) كيف نتعامل مع القرآن، في مدارسة مع الشيخ محمد الغزالي، لعمر عبيد حسنه،ص:63 المكتب الإسلامي،، بيروت، دمشق، القاهرة، الطبعة الثانية، 1420ه-1999م .
(2)  المصدر نفسه ، ص: 64
(3)  كيف نتعامل مع القرآن، الشيخ محمد الغزالي، ص: 67
(4)  كيف نتعامل مع القرآن، الشيخ محمد الغزالي،  ص: 166
(5)  في النهوض الحضاري، بصائر.وبشائر، عمر عبيد حسنه، المكتب الإسلامي،ص: 49 بيروت، دمشق، عمان، الطبعة الأولى، 1418هـ1996م 
(6)  كيف نتعامل مع القرآن، الشيخ محمد الغزالي، ص: 153-154 بتصرف
(7) ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ، رِّزقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا  كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ ﴾(ق :  6-11).
إنّ محلّ الإنكار هو الحال التي دلّ عليها(كيفَ بنيناها) ، أي ألم يتدبّروا في شواهد الخليقة فتكون  الآية في ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم  مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى  وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾(الروم : 8)  (التّحرير والتّنوير، للشيخ الطاهر بن عاشور  ، ج26/ ص:  285). 
هذا الوجه أشدّ في النعي عليهم لاقتضائه أن دلالة المخلوقات المذكورة على إمكان البعث يكفي فيها مجرد النظر بالعين. و» فوقهم» حال من السماء. والتقييد بالحال  تنديد عليهم لإهمالهم التأمل من المكنة منه إذ  السماء قريبة  لا يكلفهم  النظر فيها إلا رفعَ  رؤوسهم. وأُطلق البناء على خلق العلويات بجامع الارتفاع. والتزيين جعل الشيء زينا، أي حسنا أي تحسين منظرها للرائي يبدو فيها من الشمس نهارا والقمر والنجوم ليلا( التّحرير والتّنوير، ج26/ ص: 286)
ولو كان في أديم ما يسمى بالسماء تخالف من أجزائه لظهرت فيه فروج وانخفاض وارتفاع، ونظير هذه الآية قوله تعالى﴿الذي خلق سبع  سموات طباقا﴾..... إلى قوله تعالى: ﴿هل ترى من فطور﴾.  ولما كانت الأرض تلوح للأنظار دون تكلف من يؤت في لفت أنظارهم إلى دلالتها باستفهام إنكاري تنزيلا لهم منزلة من نظر في أحوال الأرض فلم يكونوا بحاجة إلى إعادة الأخبار بأحوال الأرض تذكيرا لهم...  وجاء التّعبير القرآني ببسط الأرض وليس المراد بحجمها لأنّ  ذلك لا تدركه المشاهدة؛ حتّى لا يُستدل عليهم بما لا يعلمونه(التّحرير والتّنوير،ج26/ص:287)، 
وقوله تعالى :﴿وإلى الجبال كيف نصبت﴾، زيادة التنبيه إلى بديع خلق الله تعالى، إذ جعل الجبال متداخلة مع الأرض ولم تكن موضوعة عليها وضعا كما توضع الخيمة لأنّها لو كانت كذلك لتزلزلت وسقطت وأهلكت ما حواليها.
وقوله تعالى:﴿ من كل زوج بهيج ﴾، والزوج: النوع من الحيوان والثمار والنبات(التّحرير والتّنوير، ج26/ص:288)، والمعنى: وأنبتنا أصناف النبات وأنواعه، والمقصود من التوكيد بحرف(من) تنزيلهم منزلة من يُنكر ان الله أنبت ما على  الأرض من أنواع حين ادعوا استحالة إخراج الناس من الأرض.. وليست (من) للتبعيض إِذِ ليس المعنى عليه(التحرير والتنوير،ج23/ص:289).
وقول الله تعالى:﴿تبصرة لكل عبد منيب﴾، أي ليكون من ذكر من الأفعال  ومعمولاتها تبصرة وذكرى، أي جعلناه لغَرضِ لأن نُبصِّر به وُذكِّر كل عبد منيب.. والتّبصرة  والذّكرى من جملة الحِكم التي أوجد اللّه تلك المخلوقات لأجلها. وليس ذلك بمقتضٍ انحصار حكمة خلقها في التّبصرة والذّكرى، لأنّ أفعال اللّه  تعالى لها حِكم كثيرة علِمنا بعضها وخفِي علينا بعضها(التّحرير والتّنوير، ج26/ص: 290). 
وخُص العبد المنيب بالتّبصرة والذّكرى وإن كان فيما ذكر من أحوال الأرض إفادة التّبصرة والذّكرى لكلّ أحد، لأنّ العبد المنيب هو الذي ينتفع  بذلك  فكأنّه  هو المقصود من حكمة تلك الأفعال. وهذا تشريف للمؤمنين وتعريض بإهمال الكافرين التّبصر والتّذكر( التّحرير والتّنوير، ج26/ص: 291).