وجهة نظر

بقلم
د.علي رابحي
«العالم» مثقّف وزيادة
 سؤال المثقّف والمؤسّسة العلميّة في الفكر الإسلامي سؤال ملحّ مرتبط بالقيم والماهية. ويزداد الوعي الوجودي بهذا السّؤال مع توغّل الثّقافة الوافدة الاقصائيّة وتغوّلها، تلك التي تُضفي على نفسها صبغة الكونيّة ناسفة بذلك مقولات الثّقافة التي هي تجاوزا قدر كلّ مجتمع وعنصر البناء فيه.
فبالموازاة مع الحملة على المدركات الجمعيّة والموروث الدّيني وتراث الأمّة وتراكماتها وتجربتها التّاريخيّة، بحجّة تحرير الوعي الجمعي، والانفتاح على آفاق العصر، وتحرير التّراث نفسه من فهومنا الجامدة له، وفتحه على آفاق أخرى للفهم، امتدت معاول الهدم من الفصل بين الدّين والسّياسة والثّقافة إلى الفصل بين الدّين والمجتمع وخاصّة مؤسّسة العلماء فرسان الأمّة وحصونها. لأنّ الثقافة الوافدة الاقصائيّة تشترط ألاّ يكون للمثقّف علاقة بالإسلام، وأن تكون الثّقافة التي يسوّقها ويدعو إليها ثقافة هشّة وخالية من المعنى. 
إنّه بفضل مؤسّسة العلماء ارتفع بنيان حضارة سامقة قدّمت عطاءها الرّائد والغنيّ في كلّ ميدان من ميادين الإبداع الإنساني، على أساس منظومة فريدة للقيم، قائمة على الرّبانيّة والشّمول والتّكامل والإحكام، كفيلة بتفجير الطّاقات وتسديد الإرادات. وبفضل مؤسّسة العلماء ارتفعت أسهم الأمّة المسلمة واغتنى رصيدها على مستوى مجتمعاتها المتنوّعة الأعراق والأصول، من حيث الأمن العام، والتّماسك المستدام، أمّا على مستوى موقعها في معترك الحياة العامّة، فكان عنوانها الهداية والإشعاع، والهيبة والقوّة، لا من باب التّسلّط والسّطوة، ولكن من باب التّحصّن والإعداد، والتّميّز والشّهود.
سأحاول في هذا المقال أن أجيب عن سؤال محوري هو: هل «العالم» مثقّف؟
وهذا السّؤال المحوري، يقتضي منهجيّا التّفكيك إلى سؤالين فرعيّين:
* السّؤال الفرعي الأوّل: من هو «المثقّف»؟ ومن هو «العالم»؟
* السّؤال الفرعي الثّاني: هل للعالم حضور في المشهد الثّقافي؟
وفرضيتي ترتكز على أنّ «العالم» مثقّف وزيادة. ومن المظاهر الدّالة على هذه الحقيقة والشّاهدة عليها أنّ «العالم» حاضر في عمق المجتمع يبرز فيه ويغيب. ويستطيع المتتبّع الرّاصد لمسار مؤسّسة العلماء في صعودها وانحدارها، أن يصل إلى اقتناع مفاده أنّ مستوى الصّعود كان رهينا بمقدار استلهام نموذج الإسلام وترسّم منهجه، والتّفاعل الجادّ والمخلص مع تشريعاته وأحكامه، وأنّ الأمّة كانت تمعن في الارتكاس والهبوط، بمقدار ضمور ذلك التّفاعل في كيانها، وخفوت التزامها بمنظومة قيم القرآن والسّنة. وواقع الأمّة اليوم، خير شاهد على هذه الحقيقة النّاصعة، وهو في ذات الوقت خير مهماز على الإسراع الصّادق لتقويم الذّات، وللتّوبة المنهاجيّة النّصوح، على طريق العودة الظّافرة لموقع الشّهود، استجابة لقول اللّه تعالى: ﴿‏‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾‏ (‏النور‏:‏ 31‏)‏، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم﴾‏ (الأنفال:24).
فرغم تراجع «العالم» عن دوره الرّيادي في المجتمع وحقّه في شرعيّة القول المكتسبة من خلال ما يمتلكه من وعي ونبوغ، ورشد وانتماء حقيقيّ للأمّة، ومن خلال تجربته العلميّة العمليّة، ورحلة وجوده الحضاريّة الضّاربة في التّاريخ والمتجذّرة فيه لأكثر من أربعة عشر قرنا، ورغم تراجع «العالم» عن أدواره من مختلف مواقعه المفقودة في تأطير المجتمع ومواكبة المشاريع المجتمعيّة السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة-كمؤسّسة الحلّ والعقد ومؤسّسة الحسبة ومؤسّسة القضاء ومؤسّسة التّعليم ومؤسّسة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر- ومع فشل دور «العالم» في الإجابة العلميّة الصّريحة عن سؤال الواقع وشبكة علاقاته المركّبة؛ فإنّ المؤسّسة العلميّة كانت وما تزال وستظلّ تعصم المجتمع من كلّ محاولات التّغريب والتّفكيك التي تستهدفه وتهدّده، لأنّ أساسها العقدي والقيمي ومنطلقها ومنطقها العلمي العملي هو الإسلام.
  جدليّة «المثقّف» و«العالم»
إنّ الحديث عن جدليّة «المثقّف» و«العالم»، مع العلم أنّ تاريخ «المثقّف» اصطلاحا حديث لا يتجاوز القرن من الزّمان، أصبحت في عصرنا أمرا ملحّا وضروريّا، خاصّة بعد انتشار مفهوم مفاده التّفريق الكلّي بين «العالم» و«المثقّف». ومنشأ هذا التّفريق المبتدع بين العلم وبين الثّقافة، صادر من أفواه من لا يزالون يعملون في سياق الزّمن المنقضي، أي زمن الظّلاميّة والجمود والعدميّة، ومسطّر بأقلام من لا يزالون يعملون خارج عصر العالم وعالم العصر الموسوم بالسلميّة والانفتاح والكونيّة. 
يرى البعض أنّه لا مشاحة في الاصطلاح، غير أنّي أذهب إلى أنّ تحديد مفاهيم المصطلحات المتداولة في أيّ خطاب شرط أساسيّ من شروط التّواصل، لتسهيل معرفة المعاني التي يريد المتحدّث التّعبير عنها، وأيضا كي لا يشوّش المصطلح على المتلقّي، ويبهم الخطاب، ويثير المخاطب؛ وعادة ما نستخدم مستويين من التّعريفات في البحث العلمي: أوّلهما مستوى عام، هو التّعريف اللّغوي، ويركّز على الدّلالة اللّفظيّة، علما أنّ اللّفظ غالبا ما يكون متعدّد المدلولات. وثانيهما مستوى خاصّ، هو التّعريف الاصطلاحي، وهو يستدعي الاتفاق النّظري أو الإجرائي بين طائفة معيّنة، على ما يراد عندهم من إطلاق لفظ محدّد. لذلك، نحن مطالبون –هنا ابتداء- بتحديد مفهوم لفظ «المثقّف» ومفهوم لفظ «العالم»، ولو على المستوى الاصطلاحي.
فاصطلاحا، مفهوم «المثقّف» ومفهوم «العالم» عندنا متقاربان، يجمعهما خيط ناظم هو إعمال العقل والنّظر الواعي والمعرفة العالمة، أتحدث طبعا عن التّفكّر والتّدبّر. فالمثقّف بالنّسبة لنا هو ذلك المفكّر الواقعي، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بواقع النّاس والوقائع والأحداث اليوميّة المعيشة، والمتّصل دائما بالمجال العام المحيط به في كلّ أبعاده؛ فهو يعرف شيئا عن كلّ شيء، فيقدّر المواقف، ويبدي الرّأي، ويصدح بالحقّ، ويطلبه. 
أمّا «العالم» فهو المفكّر النّظري، ذلك المتخصّص، الذي يعالج القضايا ويضع التّصوّرات، ويوقع عن اللّه في النّوازل الشّرعيّة، ويجيب عن الأسئلة المجتمعيّة في مجال اختصاصه؛ ويشترط فيه أن يعرف كلّ شيء عن شيء معيّن، وقد يعرف شيئا عن أشياء أخرى، وهذا ما كان عليه كثير من قدماء مجتهدي أمّتنا، وبذلك يصدق القول في «العالم» العامل -أو «العالم» المشارك بلغة القدماء- بأنّه مثقّف وزيادة.
المؤسّسة الثّقافيّة والفضاء العام
الثّقافة ليست ترفا فكريّا، وهي ليست تمجيدا للتّراث، بل هي شعار الحضارة، وتعبير عن مدركات الوعي الجمعي، لأنّها هي الحياة، فمن لا ثقافة له، لا حياة له. 
ومجالات الثّقافة ليست فحسب المؤسّسات التّعليميّة، والمراكز العلميّة، والصّالونات الأدبيّة، والمجالس الشّعريّة، وخشبات المسرح، وقاعات السّينما، ومنصّات الموسيقى، وخزانات الكتب، والمتاحف التّراثية، والمنابر الإعلاميّة، وغيرها؛ بل الثّقافة تتعدّى هذه الفضاءات، وتسير بين النّاس في المجال العام.
لا ينكر حكماء العالم وعقلاؤه، وضبّاط التّاريخ ومنصفوه، أنّ الثّقافة الإسلاميّة ثقافة بانية، ثقافة أنتجت حضارة سامية، عندما التزم بها المسلمون، وعملوا وتعاملوا بها؛ لكنّ هذه الثّقافة عهدها أفل، ووهجها ولى؛ فبعد أن كانت نبراسَ زمانها، أصبحت نبراسًا لا نور له، وبعد أن كانت مشكاة عصرها، أصبحت مشكاة لا شعاع لها، وبعد أن كانت محجة أناسها، أصبحت محجة مهجورة ضحّى بها أهلها وأضحوا منتسبين إليها لا غير، ومتلبّسين بثقافة الغير؛ فغدوا غير منتمين إلى الحضارة الإسلاميّة ولا إلى الحضارات الغيريّة. ثقافة بانية ران على عطائها رباعي متلازم يتجاذب بين الخوف والجهل والفقر والفرقة.
المؤسّسة العلميّة والمجال العام
إنّ «العالم» في أمّته، ينبغي أن يكون في الموضع الذي هو أهل له بمقتضى الحتميّة الشّرعيّة والمنطقيّة، إذ هو الممثّل لعقل الأمّة المتيقّظ، ووجدانها المرهف، وهو الرّائد الذي لا يكذب أهله، وهو العامل لخير هذه الأمّة الذي يزن حركتها ويضبطها بميزان الشّرع وضوابطه.
إنّ هذا الأمر يتّضح باستعادة كلّ المواقف التي وقفها العلماء في مواجهة الانحراف والانحدار والسّقوط والتّخلّف... فلم يكن دعاة المراجعة والإصلاح والنّهضة، إلاّ علماء يحملون هموم الأمّة ويرشدونها إلى سبيل التّخلّص من وضع الانحطاط.
إنّ «العالم» الحقّ هو الذي ينحاز إلى مجتمعه، ويتلمّس معاناته ويتعرّف همومه ومشاكله، ويعمل على إزاحة الموانع والعوائق التي تعترض عمليّة النّهوض على كلّ المستويات وفي كلّ المجالات: التّربويّة والتّعليميّة والعلميّة والعمليّة.. فالعالم بحكم رسالته، موصول بأمّته يحمل في قلبه كلّ انشغالاتها. 
وعلى هذا، فمسؤوليّة «العالم» ودائرة تحرّكه تتّسع لتشمل مجالات متعدّدة: علميّة ودعويّة واجتماعيّة وسياسيّة، فتتنوّع تبعا لذلك اهتماماته وتتنوّع طرق أدائه. فهو إذا يشتغل على المستوى العلمي والفكري، يوجّه جهده الكبير إلى خدمة المعتقد السّليم تهذيبا وتشذيبا ونفيا للتّخلف الفكري، مع الحرص على بناء العقول والأفهام، بناء يعالج القضايا ويحرّر المفاهيم ويضبط الدّلالات، مستجيبا في كلّ ذلك لمتطلّبات التّسديد والتّوجيه.
وهو إذ يشتغل على المستوى الاجتماعي، ينتصب لخدمة المجتمع إرشادا وعلاجا للعلل والأدواء الطّارئة، مع الحرص على بناء مجتمع سليم ومتماسك ومتواصل على أسس متينة من قواعد الشّرع وضوابطه. 
وهو إذ يشتغل على المستويات المختلفة: الإعلاميّة والسّياسيّة وتدبير الشّؤون العامّة، ينخرط في شؤون الحياة التي يتّسع لها توجيه الإسلام وتأطيره، بحيث يحتل «العالم» دوره في التّأثير والتّوجيه والإرشاد.
عرف الغرب الإسلامي ظهور مجموعة من الفقهاء والعلماء الذين كان لهم في المجتمع أثر كبير، ولهم عنده مكانة لا يصلها غيرهم، كما أنّ العُلماء كانت لهم أدوار حاسمة في عدد من القضايا الكبرى للبلاد والعباد، في القضاء، والسّياسة، والإصلاح الاجتماعي. 
بالعودة إلى القرن الماضي، سواءً في الفترة الاستعماريّة أو بعدها، نجد أنّ المغرب العربي كان يزخر بعدد من الفقهاء الذين لعبوا أدوارا كبيرة في رفع القيمة والمكانة العلميّة لبلدانهم، فوضعوا بصماتهم داخل المجتمع، وحظوا بالاحترام والتّقدير لما قدّموه من نضال وتضحية ومقاومة للمستعمر؛ وهذه كلّها عوامل ساهمت في ترسيخ فكرة احترام الفقيه وتقديره والاستشارة معه في الأمور الدّينيّة والدّنيويّة.
أمّا اليوم فقد اختلفت نظرة النّاس للفقيه والعالم الدّيني، و تقلّصت أدواره بشكل كبير، بل إنّ لفظة «فقيه»، أصبحت ذات حمولة سلبيّة، لصورة نمطيّة تشكّلت في ذهن العامّة عن الفقيه، الذي بات دوره مرتبطا فقط بأداء الصّلوات الخمس، واستشارته في بعض الأمور الثّانويّة، التي تخصّ حياة العامّة.
خاتمة
إنّ جدليّة العلاقة بين ما قد يتضمّنه مصطلح « المثقّف» من معاني التّفلّت والنّكوص، وما يتضمّنه مصطلح «العالم» من ضرورة التّصحيح والعودة، استدعى تسليط الضّوء على التّنافس الخفيّ بين المثقف و«العالم». انطلاقا من موقع التّجاذب بين الجانبين، على اعتبار أنّ كلّ واحد منهما يعمل لمشروع له مساحة من الالتقاء والاختلاف مع مشروع الآخر ونظرته. 
فخصائص الرّبانيّة والوضوح عند «العالم» وحضور البعد والبناء العقدي في كلّ أفعاله، مقدّمات للانفتاح على أسئلة المجتمع والتّواصل معه. وتدبّر راشد وعميق في حركاته وحراكه وتعثّراته وانكساراته. وليست بتاتا مدعاة للانغلاق وادعاء المقولات المغلقة. كما أنّ استجابة خطاب المثقف البانية للتّحرّر والتّجديد ومساءلة الواقع لا مفاصلته، تجعل مشروعه مشروعا مسؤولا، واعيا بهموم المجتمع وأسئلته. 
خلاصة القول إنّ الفعل والتّغيير الثّقافي في زحمة التّخلّف والاغتراب والاستعمار وكلّ أشكال التّوحّش والتّغوّل الثّقافي المعاصرة وقوّة زلزال العولمة الذي أصاب الأمّة وعمّق انكساراتها، لا تعفي مؤسّسة العلماء من الإنصات لنبض المجتمع ونداء أحيائه. ولن يكون هذا إلاّ بمقاربات ثقافيّة عميقة تستمدّ شرعيّتها من التّاريخ.