بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
محدوديّة المناهج في كتب التّفسير(7) «مآزق القول بالتّرادف»
 من القضايا المتفرّعة صُلب المعجم واللّصيقة بمسألة التّرادف، تبدو قضيّة الاشتقاق الّتي تضطلع بدور مهمّ في تغذية المعاني وتعديدها. فمادّة «كذب» تعني الإتيان بخبر غير صحيح وتعني، أيضا، التّوقّف والالتفات إلى الوراء من أجل الاستطلاع فهو فعل الكاذب والمنافق(1). والمهمّ أنّ تقليب الألفاظ حسب أصلها الصّوتيّ والحرفيّ يظلّ سبيلاً لتقصّي المعنى. فالشّيطان يكون من شطّ ويكون، أيضا، من شطن. والخوف من خاف وهو يحتمل، بالإضافة إلى معنى الخوف، معنى التوقّع في الآية: ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(البقرة: 182). وعلامة العمه هي العمى. وإذا كانت الوظيفة الّتي يضطلع بها التّرادف هي توضيح الغامض من المعنى، فإنّ الحاجة إلى التّرادف المعجميّ اعتُبرت المدخل الرّئيس للفهم والإفهام.
والظّاهر أنّ الحاجة إلى فهم النّصّ القرآني، على عهد الرّسول وأصحابه، قد اقتصرت على العنايةِ باللّفظ المفرد ولم تتخطّه إلى الاهتمام بالتّركيب ومقتضياته طالما كانوا جميعا جزءا لا يتجزّأ من حدث التّنزيل. ولعلّ الأمر الّذي يفسّر استمرار هذا المنهج المعجميّ في التّفسير يعود إلى أمريْن: الأوّل عدم تطوّر العلوم اللّغويّة والثّاني التّدخّل السّياسي لضبط المعنى في اتّجاه واحد، لأنّ الانفتاح على التّأويل واتّساع الفهم قد يحرج السّلطة القائمة بالكشف عن تقصيرها(2).
سلفت الإشارة، آنفا، إلى أنّ القرآن كان مجرّد مجال لضرب المثل للتّدليل على صحّة القاعدة النّحويّة. وهي مرحلة سيبويه ومن معه من أوائل اللّغويين. ثمّ تلتها مرحلة ما بعد سيبويه وهي مرحلة يخرج فيها القيل القرآنيّ على أن يكون مجرّد مثال ويصبح النّحو هو الخادم لإثارة المعنى ومعنى المعنى دفاعا عن التّأويل وصحّته ومشروعيّته، فسجّل القرآن انقلابا من خادم للّغة إلى مخدوم بها. وأضحى النّحو، حينئذ، حارسا للقراءات ومتصدّيا لفهم التّراكيب الشّاذّة في القرآن وفضّ مشكلاتها الدّلاليّة. ومن ثمّ تعدّدت القراءات وتعدّدت مداخل التّأويل، بدءا بالآيات المتشابهة والمتضمّنة للإشكال الدّلاليّ البادي في الألفاظ المتشابهة والمتقاربة المعنى. ولقد دأب النّحو مع أبي عبيدة والزّجّاج على إظهار المقاصد القرآنيّة من خلال فكّ التّراكيب تقديما وتأخيرا حذفا وتكرارا من قبيل ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ﴾(الأنعام: 100). ومعناه أنّ الجنّ شركاء له(3). وأنّ دلالة ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾ الواردة في الآية 10 من سورة المنافقون، تعني لولا أمهلتني(4). 
وما من شكّ في أنّ إبدال التّركيب يؤثّر بصورة واضحة في التّأويل. وهذا التّأويل يستمدّ مشروعيّته من  استقامة المعاني الواردة في المفردات ومن صحّة التّراكيب النّحويّة، وتزداد المسألة دقّة إذا تعلّقت الأمور بقضايا العقيدة أو مسائل التّشريع، ومثال ذلك أنّ التّثنية قد تجري مجرى الجمع، حسب بعض اللّغويين، ويستدلّون على ذلك بالآية: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾(المائدة: 38). ومن ذلك أيضا أنّ بعض التّراكيب تلتبس في الإفادة بطبيعتها هل هي تراكيب فعليّة أم هي اسميّة من قبيل الآية التّالية: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾(الأنبياء: 3)(5). 
إنّ اللّفظ الّذي ينوب اللّفظ الآخر في المصحف قد يلتصق بظاهرة القراءة ويعود إليها، من قبيل قراءة لفظة «تبيّنوا» بدلا من «تثبّتوا» في الآية التّالية:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾(الحجرات: 6). وهكذا يُحكم التّرادف سلطته على المفردات المتقاربة، ويتّسع مجالها باتّساع أفق المعجم أمام الغريب منه بلفظ أقلّ غرابة، كالّذي جرى من خصومة بين أعرابيْين أمام عبد اللّه بن عبّاس فقال أحدهما: إنّه فاطر البئر أي هو من ابتدأها، فتبيّن لابن عبّاس معنى فاطر السّماوات والأرض(6). ومن الأمثلة المندرجة في هذا النّطاق، نذكر الآية التّالية:﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾(الرّعد: 132). فعبارة ييأس وفق هذا السّياق تصبح متضمّنة لمعنى يعلم بمعنى أفلم يعلم. وبهذه الطّريقة تصبح لفظة الغيّ مفيدة لمعنى الشّرّ في مقام آخر.
ومن مظاهر التّنوّع داخل بنية اللّفظ، أنّ اللّفظ الواحد يكون حاملا للمعنى ونقيضه، وهو ما يُعرف بالألفاظ الأضداد. وفي هذه الحالة يقع تغليب معنى على آخر خروجا من ضيق التّناقض. وللسّيوطيّ تفسير طريف لهذه الظّاهرة، يقول: «ثمّ سمع بعضهم لغة بعض، فأخذ هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء»(7). والمهمّ أنّ هذا الضّرب من الألفاظ محدود العدد في لغة العرب. وسبيل ذلك هذه الأمثلة: أخفى بمعنى أظهر في قول اللّه تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾(طه: 15) . كما هو الحال في الآية: ﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾(طه: 6) . ومعنى ذلك أنّ اللّه يعلم السّرّ كما يعلم الجهر. وعبارتا خلف ووراء تعنيان أمام ومصداق ذلك قوله تعالى:﴿وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾(الكهف: 79). وأمّا إذا تعارضت الدّلالة المعجميّة مع المعنى العامّ للآية، فإنّ المفسّر يجنح إلى التّأويل تجنّبا للحرج البادي في التّعارض مع قواعد الإيمان أو نواميس التأدّب، وخذ لذلك مثلا لفظة الاستحياء الواردة في الآية﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾(البقرة: 26). فالاستحياء يخرج من إفادته الأخلاقية إلى إفادة معنى الخشية. وعندئذ  يرفع الحرج(8). وفي هذا الإطار، تمّ التّعامل مع كلمة الضّرّ الواردة في الآية:﴿وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾(البقرة: 102)، فإنّ الضّرّ يُسنَد إلى البشر ولا يُسنَد إلى الله تعالى، ولاسيّما من منظور اعتزاليّ، لأنّ الله تعالى منزه عن ذلك» فكلّ ما سِوى اللّه إمّا متحيّز وإمّا قائم بالتّحيّز، والمتحيّز لابدّ أن يكون قادرا بالقدرة وليس قادرا بذاته»(9). وضمن هذا الفهم، تستقلّ مفردة الإذن بإفادة معنى العلم الإلهي(10). والضّرّ لا يندّ عن حدود هذا العلم، بوجه من الوجوه. 
وقد أطلق السّيوطيّ في كتابه المزهر مصطلحا يتمثّل في «الألفاظ الإسلاميّة»(11). وهو مصطلح يشتمل على ألفاظ عربيّة محّضها الاستعمال القرآنيّ لتدلّ دلالة دينيّة خاصّة من قبيل الصّلاة والزّكاة والحجّ والإيمان والإسلام والكفر والنّفاق والشّرك والتّوحيد. وبذلك بنى الخطاب القرآنيّ عوالم دلاليّة مخصوصة. فالصّاعقة في الآية﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾(البقرة: 55) تصبح دالّة على العقاب(12)، أو هي الزّجر والرّجفة(13) أو هي نار محرقة أو صوت عال آت من السّماء. وقيل أرسل اللّه جنودا سمعوا بحسّها فخرّوا صعقين(14). ومن هذا القبيل، أيضا، نذكر لفظة الرّعد التي تفيد، عند ابن عبّاس، أنّه ملَك موكّل بالسّحاب معه مخاريق من النّار يسوق بها السّحاب(15). وأنّ البرق هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السّحاب(16). 
والّذي نخلص إليه، هو أنّ اللّغة تحتوي على جانب كبير من المرونة تكون بها مطواعة ولاسيّما في جانبها المعجمي الّذي يتكيّف تكيّفا مع المقام ومع السّياق ووفق مقتضيات التّأويل. والملاحظ، أنّ الدّلالة اللّغويّة لا تفارق أيّ عمل تفسيريّ مهما كانت منطلقاته المذهبيّة، فالمركز اللّغوي مركز موضوعي لا يتسنّى لأحد تجاوزه، وما إن يتنزّل اللّفظ في سياق التّراكيب، حتّى تبرز المخاتلة في مستوى ضبط الدّلالة، وهو ما يدلّ على أنّ المفسّر لا يتّخذ المنطلق اللّغوي الموضوعيّ بطريقة مبدئيّة، وإنّما هو يختار ذلك اختيارا ظرفيّا حتّى يبلغ نتائج يروم تحقيقها مسبقا ويطلبها سلفا. وفي هذه الحالة، بإمكان المفسّر أن يتوخّى حِيَلاً نصّيّة مختلفة تيسّر عليه بلوغ حاجاته من النّصّ. ولاسيّما أنّ النّصّ القرآنيّ يتمتّع بجانب من التّعميم، وهو ما يُسمّى بالفراغ الدّلالي. وبذلك كانت لغته ذات فضاء واسع يسمح بالرّأي وضده، بخلاف النّصوص الواردة في بعض الكتب المقدّسة الأخرى التي تتميّز بالتّفصيل والتّدقيق. فالأدوات اللّغويّة، حينئذ، هي مجرّد وسائل مفضية إلى أهداف مرسومة في ذهن المفسّر للخطاب القرآني(17). وهكذا سهُل على المفسّر أنْ ينتقل من اللّفظ إلى شبيهه دون تدقيق في الفارق الدّلالي إمّا ظنّا في المطابقة المعنويّة بين اللّفظيْن وإمّا جنوحا إلى التّساهل. وللغزاليّ رأي متعلّق بالألفاظ وأنواعها والعلاقات بينها إذ يرجعها إلى أنواع ثلاثة: الأوّل ألفاظ لغويّة، وهي الّتي جرى بها لسان العرب في الاستعمال العاديّ. والثّاني أسماء ذات أبعاد دينيّة، وهي الّتي استأثرت بها الشّريعة من هذه الألفاظ عامّة وتمحّضت دلالتها لتتضمّن الإفادة الدّينيّة. والنّوع الثّالث يتمثّل في الأسماء الشّرعيّة كلفظ الصّلاة أو الزّكاة أو الصّيام أو الحجّ. ولقد شكّلت الأسماء في النّوع الثّاني مجال الاختلاف بين العلماء والفِرق عامّة إزاء مرجعيّتها اللّغويّة في ضبط معانيها. والمفسّرون اللّغويّون يقدّمون، لا محالة، الصّنف الأوّل ويعتبرون أنّ المعنى الدّينيّ لاحق بهذه الدّلالة اللّغويّة. في حين أنّ بقيّة المفسّرين يعتبرون أنّ الدّلالة اللّغويّة هي مجرّد خادمة للبعد الدّينيّ(18). وفي هذا الإطار، يصرّح الرّمّانيّ بقوله أمّا لفظة «أمّة» فتُرادف الطّريقة المستقيمة نقلا عن الزّجّاج، وهي تُعادل كذلك عبارة الطّريقة في الدّين استدلالاً بشعر النّابغة الذّبيانيّ(19).  إنّ الجدير بالملاحظة في الأسماء الدّينيّة، هو أنّها تحوّلت إلى قاموس تتجاذبه المذاهب لتشكّل مجال صراع بينها، ولاسيّما أنّ العبارة القرآنيّة غالبا ما تكون عامّة بما فيها من إشاريّة ورمزيّة، وهو ما أتاح لهذه المذاهب مجالا ملائما لشحن هذه الأسماء بما يستجيب لقواعد المذهب. وهذا الأمر يغذّي الأرضيّة الدّينيّة لدى الملل والنِّحل. وانظر إلى ألفاظ من قبيل:  الولاية والإمامة والكبيرة والحرام والقضاء والقدر والفسق والكفر كم تتضمّن من شحنات عقائديّة بين موافق ومخالف. 
وفي هذا المجال نُلفي أنّ المفسّر المعتزليّ شديد الحرص على تفسير بعض الألفاظ المتضمّنة للإرادة البشريّة والمحتوية على قدرة إنجازيّة من قبيل «وَقَعَ» و«أمر» و«قدّر» و«جعل» على أنّها مُترادفات متعلّقة بفعل الإنسان. وأمّا إذا ما أُلحقت باللّه تعالى  فهي تتعلّق بعلمه. وهذا الإجراء يُقصد منه إبراز قدرة الإنسان على خلق أفعاله وعدم تدخّل اللّه تعالى في إجباره. ومن ذلك أنّ الرّمّاني يُوكل الأمر إلى الإنسان اختيارا لما يفعله. ومن ثمّ يتحمّل مسؤوليّة عمله، فهو الذي إن شاء أفرط في تجاوز الأمر والخروج عنه. وإن شاء التزم بالحقّ(20). وكذلك الأمر بالنّسبة إلى لفظة الزّيغ، حيث لا يكون الزّيغ مخلوقاً للّه، فإنّ المعتزلة يقدّرون محذوفا في غير فعل المشيئة وجعله تخييرا، ومعناه أنّ اللّه يبتلي عباده ابتلاءً يُزيغ القلوب، أو أنّ اللّه يهيّئ من الأسباب ما تمنع الألطاف عن عباده «فابتداء الزّيغ يكون من العباد»(21). 
وكما أنّ القرآن قد عمد إلى مخالفة اللّسان العربيّ السّائد زمن نزوله في مستوى المعجم، أحيانا، فقد اتّخذ له تراكيب غريبة، في بعض الأحيان الأخرى، باعتبار أنّ التّراكيب هي نتيجة تفاعل بين الأجزاء المعجميّة. وقد ظلّت هذه التّراكيب غير مستقرّة على دلالة بعيْنها يطمئنّ إليها المسلمون اطمئنانا كاملا(22). ومحاولة ابن قتيبة هذه، تتمثّل في كشف الغطاء عن التّراكيب، المشار إليها آنفا، إزالة للغموض المعنويّ، مشيرا إلى أساليب الإضمار والحذف أو الزّيادة أو التّقديم أو التّأخير أو الاستعارة أو القلب(23). وهروبا من تشعّبات التأويل، غالبا ما يتمّ اللّجوء إلى الاحتجاج بالمعاني اللّغويّة الضّامنة لمعقوليّته، رغم تعدّد الأبعاد الدّلاليّة واختلاف الأفهام بحسب اختلاف القراءات والوظائف الإعرابيّة وما يكتنز في المفردة الواحدة من المعاني، وما يحُفّ بها من المرادفات. 
إنّ القول بأنّ الرّمّاني ينحاز إلى الاتّجاه الّذي يتبنّى مقولة التّرادف ويستخدمه أداة في التّفسير لا يجعل الدّارس يغضّ النّظر عن جنوح هذا المفسّر، في بعض الأحيان، إلى رفع اللَّبس الحاصل بين لفظيْن متقاربيْن في المعنى، فيُفصح عن الفويْرق الكامن بينهما، إذ من طبيعة اللّغة أن تتقارب مفرداتها في المعنى دون أن تتطابق، ومثال ذلك ما أبانه من الفرق بين اللّقاء والاجتماع. فإذا كان اللّقاء، عنده، لا يكون إلاّ على وجه المجاورة، فإنّ الاجتماع يكون كاجتماع العزمين في محلّ(24). وكذلك ما كشف عنه من التّقارب بين لفظتيْ «خلق» و«جعل» وكلتاهما تفيد معنى «فَعَلَ». إلاّ أنّ حقيقة الجعليّة تتمثّل في تصيير الشّيء على صفة والأحداث حقيقة. وأمّا الخلق فيقتصر على إيجاد الشّيء بعد أن لم يكن موجودا(25). ومع ذلك فإنّ الموقف الّذي يتّخه الرّماني في الغالب الأعمّ في تفسيره إنّما هو انحياز إلى التّرادف. وهي المقولة الّتي ستتحكّم في الوعي التّفسيري أكثر فأكثر كلّما تقدّم الزّمن.
ومن هذه المنطلقات العليقة بالمفردة وحدود المعنى الكامن فيها، والمستفاد منها، يلاحظ الدّارس اهتمام الرّمّاني بمسائل الإعراب والنّحو باعتبار أنّ المفردة تظلّ غير معزولة في مستوى الكلام، بل تُجرى ضمن ضروب من السّياق، يفعل فيه الجوار فعله، إن في مستوى الصّوت، وإن في مستوى الدّلالة. وهكذا، يتمّ رصد الوظيفة النّحويّة المنتجة، هي الأخرى، للمعنى، إن بالإشارة وإن بالعبارة. وانظر إلى الرّمّاني كيف يعتبر أنّ لفظة «كلّ» الواقعة في الآية:﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا...﴾(البقرة: 31) هي لفظة عموم على وجه الاستيعاب حدّها الإحاطة بالأبعاض كقول القائل: أبعْض القوم جاءك أم كلّهم، وقد تكون مفيدة، أحيانا، لمعنى التّأكيد مثل لفظة أجمعين(26).
كما أنّ الرّماني يستند إلى الاستثناء المنقطع في الآية 34 من البقرة 2 ليستنتج أنّ إبليس ليس من الملائكة. ومع هذا الاهتمام بطبيعة التّراكيب وأنواع الجُمل، فإنّ الانشغال بدلالة الألفاظ يظلّ هو الدّيدن الأكبر والمشغل الرّئيس في ذهن الرّمّاني، وهو ما يخوّل للدّارس اعتباره حجر الزّاوية في منهج التّفسير اللّغوي. ومصداق ذلك ما يؤكّده هذا المفسّر، في كلّ مرّة، من قيمة المعجم كاعتباره أنّ فعل اتّخذ هو على وزن افتعل وأصله يتخذ فقُلبَت الياء تاءً وأُدغمت في التّاء الّتي بعدها(27). ومن علامات اهتمامه بهذا الجانب المعجمي، أنّه لا يكتفي بالشّرح والتّوضيح، بل يتجاوزهما إلى المجادلة والمخالفة، فهو قد تصدّى  بتخطئة بعض الشّروح المعجميّة الّتي اعترض عليها كرده على أبي عليّ الجبّائي في شرحه لكلمة «فارض» من الآية 68 من البقرة 2، حين اعتبر أنّها تعني البقرة الّتي لم تلد بطونا كثيرة فيتّسع لذلك بطنها، والرّمّاني يستدلّ على صحّة رأيه بكون ذلك لا يُعرف وأنّه قليل في الاستعمال(28). وهكذا يتصدّى الرّمّاني إلى ضروب من الفهوم العليقـة بتفسير بعض الألفاظ مثل لفظة الرّسول الواردة في الآية 101 من البقرة 2 على أنّها تعني الرّسالة، عند بعض اللّغوين الذين يستدلّون على ذلك ببيت كُثيْر عزّة: «لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما بُحْتُ عِندَهمْ ... بِسُوءٍ وَلا أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ(29)، مستندا إلى أنّه خلاف الظّاهر وأنّه قليل في الاستعمال(30). 
والحاصل من كلّ ما سبق، هو أنّ كلّ أزمة تنتاب الثّقافة والفكر إنّما هي، في أساسها، أزمة وثيقة الصّلة باللّغة. والقول بالتّرادف التّام إنّما ينمّ عن تساهل في استيعاب المعارف فضلا عن إنتاجها إذ تصبح المفردة كشبهها. فعلّة التّشابه في الدّلالة تجعل المفردات متطابقة متماثلة ما يسبب التعمية على الفوارق المفيدة والمميّزة للمفاهيم وإن دقّت. وفي إطار تبنّي التّرادف يصبح الإنزال كالتّنزيل، في نطاق الخطاب القرآني. والحال أنّ التّنزيل نقلة من موضع إلى آخر خارج الوعي البشري وأمّا الإنزال، فهو انتقال المعرفة من خارج هذا الوعي إلى داخله بمفعول اللّغة المستساغة. كما يصبح القدر كالمقدار، علما بأنّ القدْر هو مبلغ كلّ شيء وهو قضاء اللّه تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها، وأنّ القدَر، ومنه جاءت قدرة اللّه تعالى، وهي استطاعته على نفاذ أيّ شيء يريده في كمّه وكيفه. والقدَر هو وجود الأشياء بكمّها وكيفها معا خارج الوعي الإنساني باعتبار الوجود الموضوعي. وأمّا  المقدار  فهو كمّ مجرّد عن الكيف وهو صيغة معرفيّة مجرّدة(31). كما يصبح، أيضا، التّبليغ مثل الإبلاغ في حين أنّ البلاغ والتّبليغ عامّان لا يخصّان قوما دون قوم ولا عصرا دون عصر ولا مكانا دون مكان، بينما الإبلاغ منصرف إلى قوم محدّدين. وهذه المعاني الدّقيقة إنّما تتّضح حينما تُربط بالسّياقات الّتي وردت فيها ضمن النّص القرآني. وتبعا للفهم السّائد إزاء المُصحف وهو غير المدقّق للفروق بين المفردات، يُلفي النّاظر خلطا مفهوميّا، إذ يصبح الرّسول كالنّبيّ والقرآن كالفرقان، والذِّكر كالكتاب، واسم اللّه مطابقا لدلالة الرّحمان، ويصبح الرَّحمان كالرّحيم وتضحى النّفس كالرّوح، والبعل كالزّوج، والوالد كالأب، والوالدة كالأمّ، والولد كالابن، والعدّ كالإحصاء، والعدل كالإحسان، والزّوجة كالمرأة، والقرية كالمدينة، وقميص المُلك كقميص الثّياب والسّكين كالمُدية، وقتل مثل ذبح، ورأى كأبصر، والحظّ كالنّصيب، والعدّة كالأجل، والنّبأ كالخبر. وقال مثل نطق وجاء مثل أتى والسّنة مثل العام والمطر مثل الغيث، والتّبذير يساوي الإسراف وبصير مثل مبصر، وخرج «على» مثل خرج «لِ»،  ونفخ «في» كنفخ «بِ» وألقى كرمى، والتّمام مثل الكمال، والضّوء مثل النّور، والنّوم مثل الرّقاد، والموتى كالأموات، ولفظ مسّ كلفظ  لمس، وصيغة «استفعل» مثل صيغة «أفعل» وصيغة «افتعل» كصيغة «أفعل»، ويُصبح «منطق الطّير» مُعادلا «للغة الطّير» وغير ذلك كثير. 
وليس خافيا أنّ المعنى الوارد في اللّفظ إذا اكتنفه العمى فلا مناص من أن يلتبس المعنى الوارد في التّركيب. والمهمّ أن نلاحظ، أنّ هذا العمى هو العامل الأساسي الكامن وراء عدم اتّفاق المفسّرين بأسرهم إزاء المداخل التّفسيريّة كلّها من قبيل النّاسخ والمنسوخ وأسباب النزول والمحكم والمتشابه والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد. فالآية الواحدة الّتي تكون على حالة عند أحدهم هي على غير تلك الحالة عند غيره. والنّتيجة الحاصلة هي دوران الوعي الدّيني النّابع من التّفسير في حلقات مفرغة.
  وإذا كان التّقارب الصّوتيّ شفيعا للقائلين بالتّرادف بين مجموعة ألفاظ، فإنّ الذي يلفت الدّارس، هو التّرادف الذي أُجريَ بين كلمات لا صلة صوتيّة بينها ولا علاقة اشتقاقيّة تجمعها مثل لفظتي الأب والوالد والابن والولد، والأمّ والوالدة. وغير خاف أنّ الخطاب القرآني شديد التّمييز بين هذه المفردات ولاسيّما أنّها تستتبع مسؤوليات جزائيّة شديدة الصّلة بالقوانين الاجتماعيّة والمبادئ الإيمانيّة والأحوال الشّخصيّة، كقضايا الإرث والتّبنّي واستئجار الأرحام. وإذا كانت العلاقة بين الدّال والمدلول علاقة طبيعيّة في بدء نشأتها، مرتبطة بالسّمع وبالبصر. وهي ما يسمّيها القرآن بالمعرفة الفؤاديّة، فإنّ المعرفة أصبحت منجزا يتحقّق من خلال حامل أساسي هو الخبر ولاسيّما إذا كان متواترا، وهو ما يُسمّى بالسّماع.  ثمّ إنّ العقل البشريّ تطوّر نحو إنتاج المعرفة الصوريّة النّاهضة على المنطق وقواعده حيث يتمّ الرّبط بين المقدّمات والنّتائج. وضمن كلّ مرحلة من هذه المراحل التي تتشكّل فيها المعرفة البشريّة، يمكن أن يُطلَق على الشّيء الواحد أكثر من اسم باختلاف المقام واختلاف العرف. كما يمكن إطلاق اللّفظ الواحد على أكثر من شيء. وتدريجيّا، يظنّ اللاّحق أنّ تعدّد الأسماء ضرب من التّرادف. ولعلّ إقامة وعي نابع من ثقافة تنهض على أسس لغويّة دقيقة تمحّص الفروق بين المصطلحات والمفردات(32). هو المعْبر الجوهري الّذي ارتآه بعض الدّارسين المُحدثين لتحقيق الوعي الحادّ القاطع مع الكسل والتّساهل، من أمثال محمد شحرور وأبي القاسم حاج حمد. 
والجدير بالملاحظة، هو أنّ تركيز محمد شحرور، على سبيل المثال، على أن يكون عماد النّهضة الثّقافيّة هو أن ينفض العقل العربي يده من التّرادف كان مدعاة لنقده. إذ ذهب البعض إلى اعتباره قد «أكثر من الاستدلال بأصول اللّسان العربي إلى درجة المبالغة والتّكلّف حتّى يثبت أنّ التّرادف في القرآن غير موجود، وأنّ كلّ لفظ يدلّ على معنى مخصوص به لا يشترك فيه مع غيره وأنّ الجهل بهذه الحقيقة مرجعه الانحطاط العربي الذي رافقه انحطاط في المعرفة باللّغة العربية والحال أنّ هذه المعرفة ضروريّة لفهم القرآن، بل إنّ هذا الفهم مستحيل دون تلك المعرفة اللّغويّة الدّقيقة»(33). إلى هذا الحدّ من تفكيك العناصر المكوّنة لظاهرة التّرادف، وبعد بيان أنّ مقولة التّرادف هي الّتي بسطت سلطانها على الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، وأنّها هي الظّاهرة الّتي ألحقت الضّيم بفهم الكثير من معاني القرآن. تجدر الإشارة إلى أنّه لمّا أفادت المفردات بدلالاتها، والتّراكيب بمعانيها، فإنّ مآل ذلك كلّه هو خدمة فكرة الإعجاز القرآني. فما القصد من الإعجاز وما أساليبه ومظاهره وماهي الإشكالات الحافّة به؟ هذا ما سنتطرق إليه في الحلقات القادمة.
الهوامش
(1)  الزّمخشري، م ن، ج  ن ، ص179.
(2)  انظر محمّد الهادي الجطلاوي، قضايا اللّغة في كتب التّفسير: المنهج، التّأويل، الإعجاز، م س، ص162.
(3)  الزّجاج، إعراب القرآن، ج 2، م س، ص688.
(4)  الزّجاج، م ن ، ج 3، ص930.
(5) انظر الزّجّاج، إعراب القرآن، ج 1، الباب 10، م س، ص183.
(6)  انظر الزّمخشريّ، الكشّاف، ج3،  م س، ص 297.
(7) السّيوطي، المزهر، ج1، م س، ص ص 1،4.
(8) الطّبري، بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مج 1، تحقيق أحمد عبد الرّازق البكري ومن معه، إشراف وتقديم عبد الحميد  عبد المنعم مدكور، دار السلام، مصر ، ط 2، ص272.
(9)  القاضي عبد الجبّار، التّفسير الكبير أو المحيط،  ويليه فرائد القرآن وأدلّته، تحقيق خضر محمد نبها، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 2009، ص 80.
(10)  انظر أبا بكر الأصمّ، التّفسير، تحقيق خضر محمد نبها، دار الكتب العلميّة، بيروت،  ط1، 2007، البقرة 2، الآية 102، ص37.
(11)  انظر السّيوطي، المزهر، ج1، م س، ص294.
(12)  القاضي عبد الجبار، التّفسير، سورة البقرة 2، الآية 55، م س، ص81.
(13)  أبو علي الجبّائي، التّفسير، دراسة وتحقيق خضر محمد نبها، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 2007، ص ص 73،74.
(14)  انظر الزّمخشريّ ، الكشّاف، ج1، م س، ص 282.
(15)  انظر ، الزَمخشري، ج2، م ن، ص 353.
(16)  أبو حيّان الأندلسي، البحر المحيط، ج2، م س،  ص84.
(17)  انظر الهادي الجطلاويّ، قضايا اللّغة في كتب التّفسير، م س، ص287.
(18)  يمكن العودة في هذا المجال إلى مقدّمة المحقّق،  في تفسير الطّبري، جامع البيان، مج 1، م س، ص ص 22،23.
(19)  الرّماني، الجامع لعلم القرآن، م س، آل عمران 3، الآية  113، ص63.
(20)  الرّمّاني، التّفسير، الكهف 18، الآية 28، م س، ص428.
(21)  القاضي عبد الجبّار، التّفسير،  سورة آل عمران 3، الآية 8، م س، ص126.
(22)  ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، شرح السيد أحمد صقر، المكتبة العلميّة، بيروت، ط3، 1981، ص102.
(23)  ابن قتيبة، م ن،  ص33 وما بعدها.
(24)  الرّمّاني، التّفسير، سورة البقرة 2، الآية 14، م س، ص21.
(25)  الرّمّاني، م ن، سورة البقرة 2، الآية 30 ، ص23.
(26)  الرّمّاني، التّفسير، سورة البقرة 2، الآية 31، م س، ص23.
(27)  الرّمّاني، م ن، سورة البقرة 2، الآية 51، ص31.
(28)  الرّمّاني، التّفسير، م س، ص ص 33،34.
(29)  هذا البيت من الطّويل وهو من القصيدة  الّتي مطلعها: ألا حَيَّيّا لَيْلى أجَدَّ رَحيلي وآذَنَ أصْحَابي غَداً بقُفُولِ. انظر كثير عزّة، الدّيوان، جمع وشرح إحسان عباس، دار الثّقافة، بيروت، ط 1، 1971، ص108.
(30) الرّمّاني، التّفسير، سورة البقرة 2، الآية 101، م س، ص35.
(31)  انظر محمّد شحرور، الكتاب والقرآن، م س، ص147، ص ص 343،344.
(32)  نشير إلى أنّ التّراث اللّغوي والتّفسيري لم يخل من مصنّفات تؤكّد هذا الجانب باتّخاذها إيّاه موضوعا أفردته بالتّصنيف ولكنّها لم تكن هي الطّابع المميّز لما ساد من التّقاليد الثّقافية والفكرية. ومن هذه المصنّفات نذكر المفردات في غريب القرآن لأبي القاسم الحسين محمّد المعروف بالرّاغب الأصفهاني، م س. والفروق اللّغوية لأبي هلال العسكري، م س.
(33) زهيّة جويرو، محاولات تجديد علم أصول الفقه بين التّرميق والتّفجير، مقال ضمن كتاب جماعي بعنوان «أعمال مهداة إلى الأستاذ عبد المجيد الشّرفي، وحدة البحث في قراءة الخطاب الدّيني، كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية، جامعة تونس، 2014، ص ص 373،399.