فقه المعاملات
بقلم |
![]() |
الهادي بريك |
من فقه المعاملات المالية في الإسلام الحلقة 7 : إستقراء تحليليّ لحركة المال في الشّريعة |
لا مناص من إستقراء جامع ـ وليس جزئيّ إنتقائيّ ـ للشّريعة في نصوصها الصّحيحة لأجل إلتقاط هندستها ومعرفة أولويّاتها وما قدّمته وما أخّرته. أمّا معالجة الشّريعة ـ سيما من المتصدّين للنّاس في أسئلتهم وقضاياهم وفي واقع زاخر بالتّطوّرات والتّعقيدات المعاصرة ـ بسطحيّة وتقليد، فهو كمن يبحث عن إبرة في كومة تبن. ولذلك نبّهت الشّريعة منذ البدء ـ في أوّل الزّهراء الثّانية أي سورة آل عمران ـ إلى التّمييز في الكتاب بين ضربين من الآيات : آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب اللاّتي يحرّرن هويته وهندسته، وأخرى متشابهات لا تفهم إلاّ في ضوء المحكمات. ذلك هو معنى المنهاج الذي يتقدّم الشّرعة التّفصيلية. من يستقرئ الشّريعة لا يعييه أن يلحظ أنّها قدّمت قضايا صارمة (توحيد الواحد سبحانه عقديّا، وتقديس الصّنعة الإلهيّة أي الإنسان الذي إستؤمن على الكون، والأسرة التي هي مصنع ذلك الإنسان، والحركة الماليّة التي هي محطّ التّنازع بين النّاس وقيام حياتهم في الآن نفسه، وإعداد مختلف جوانب القوّة مادّية ومعنويّة، وغير ذلك).
من يستقرئ الحركة المالية في الشّريعة يلتقط معاني وقيما مهمّة، لعلّ أوّلها هو أنّ حركة المال في النّاس كمثل حركة الدّم في العروق. وجه الشّبه هو أنّ المال قيام للحياة بمثل الدّم، وأنّ حركته ـ أيّ المال ـ كمثل حركة الدّم : كلّما كانت سلسة مرنة أعقبتها عافية وقوّة ونشاط، وكلّما تعوّقت أعقب ذلك مرض وإعياء. تعوّق حركة المال من أمراضه داء العصر، التّضخّم. إذ ينحصر المال في طائفة تظنّ أنّ إحتكارها المال يصلحها، وهو في الحقّ يفسدها. إذ هي جزء لا يتجزّأ من ذلك الجسم البشريّ الذي يزحم الأرض معها وفيها معايشها. علاقة عجيبة بين المال والدّم في حياة الإنسان لو تحرّر من الأثرة البهيميّة.
حركة المال بين النّاس في المجال الأسريّ
بناء الأسرة ذاتها جار على المال، إذ تفرض الشّريعة للزّوجة مهرا أو صداقا، قلّ أو كثر. ومن معاني ذلك ـ مع القيم الرّوحيّة المعروفة ـ تذرير مراكز المال لينداح حرّا طليقا فلا ينحبس. هذا دون إعتبار الهدايا وما هو مطلوب على غير وجوه الإلزام. ولكن يظل المعنى واحدا، بل إنّ القوامة نفسها مشروطة بالقوّة الماليّة لقوله سبحانه وهو يعلّل تلك القوامة ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ...﴾(النساء: 34).
علّة القوامة هي فضل الرّجل على المرأة (فضلا مادّيا فحسب) بما يجعله أقدر على إستجلاب ما به تقوم الأسرة ومن فيها، أي القوّة المالية. وبذلك تخرج الشّريعة من مراهقات المراهقين إلى تحصين تلك المؤسّسة العظمى المسؤولة على حصانة المجتمع والأمّة والتي فيها هي يصنع اللّه الإنسان الجديد. ولذلك إشترط للتّعدّد ـ بل لمبدئية الزّواج ذاته ـ الإستطاعة على الباءة والعدالة الإجتماعيّة ـ وليس القلبيّة هنا ـ. بل إنّ حركة المال تظلّ تصحب الأسرة حتّى بعد موت أعضائها، ولذلك شرع الميراث الذي من أكبر معانيه تذرير الثّروة الماليّة وتوزيعها بين النّاس وعدم مركزتها في أيد قليلة. عدا أنّ علّة التّوزيع هنا هي العلاقة الرّحميّة أو العلاقة السّببيّة (الزّواج)، وحتّى عندما لا تكون الزّوجة مسلمة فإنّه يلجأ إلى تحكيم العلاقة التّناصريّة. ولكن لا أرب لنا في هذا الآن بسبب خروجه عن موضوعنا.
ومن ذلك كذلك ـ ولخدمة المعنى ذاته أي توزيع المال كي لا يكون دولة بين الأغنياء فحسب ـ نظام الوصايا الذي وضعت له الشّريعة ضوابط وحدودا وسقوفا، فلا يجور على المعنى الأصليّ للميراث (حده الثّلث)، ولكنّ نظام الوصايا يعالج ما لم تبلغه منظومة الميراث، إذ تكون الوصيّة لمن لم يرث من الأرحام والأقارب وغيرهم، بل حتّى لغير المسلمين. وهكذا تتشوّف الشّريعة لتوزيع الثّروة إلى أبعد الحدود غير آبهة بالمعايير الرّحميّة فحسب إلاّ بما يرسّخ قيمة الأسرة ويحدبها حول مصالح مشتركة في الدّنيا (معنوية ومالية).
ومن ذلك كذلك إيجاب الإنفاق فريضة على من أسندت إليهم القوامة بسبب القدرة الماليّة. بل أوجبت ذلك حتّى لدائرة محدّدة من الدّائرة الرّحميّة بشروط وضوابط معروفة.
الخلاصة هنا إذن هي أنّ حركة المال بدأت بالعمل لتحقيق مقاصدها في النّاس منذ الإرتباط الأوّل بين زوجين، ويتواصل ذلك حتّى ما بعد الموت (صداقا وهديّة وقوامة وإنفاقا وميراثا ووصيّة وغير ذلك). والغرض الأسنى هو : تذرير الثّروة الماليّة بين النّاس أن يكون دولة بين طوائف منهم تحتكر القوّة سيّما أنّه لا قوّة ولا هيمنة ولا سيطرة إلاّ بالمال.
حركة المال بين النّاس في المجال المجتمعيّ
نظام الزّكاة
الزّكاة في الإسلام نظام ماليّ كامل متكامل له أغراضه العليا. ولذلك لم تتردّد الشّريعة في إيكاله لديوان العاملين عليها الذين يقومون بذلك نظير حصّة لهم بما يؤمّن رسوخ ذلك النّظام وديمومة عطائه وعدم إرتباطه بنظام سياسيّ أو إجتماعيّ. ولذلك لم يتردّد الصّحابة الكرام عليهم الرّضوان جميعا في قتال أهل اليمامة بسبب عدم دينونتهم للدّولة الجديدة ماليّا. وليس بسبب نكران قيمة الزّكاة. وهم في الحقّ لم ينكروا أصلها، ولكن ضنّوا بها على الدّولة الجديدة.
نظام الزّكاة وحده كاف لقطع دابر الفقر لو أخذ بقوّة الإيمان وقوّة التّنفيذ. ولذلك عده بعض الفقهاء ـ حتّى وهو من الأركان الأربعة للإسلام ـ نظاما دنيويّا ماليّا إجتماعيّا تقاتل الدّولة دونه لأجل تأمين حياة كريمة لمصارفه. وأوّلهم قطعا مقطوعا (الفقراء والمساكين). وليست الزّكاة عبادة شخصيّة فرديّة بين المرء وربّه فحسب. ولذلك غشيتها بعض الأحكام الفقهيّة المعروفة التي تميّزها عن الصّلاة والصّيام والحجّ. ربّما أخصّص في هذه السّلسلة حلقة أو أكثر عن الزّكاة وخاصّة لتحليل بعض مصارفها وبيان دورها في تحقيق السّلم الإجتماعيّ والقوّة الماليّة والإستقلال الإقتصاديّ والإمكان الإستثماريّ، ولكن لا مناص من القول منذ الآن أنّ الزّكاة موضوعة من الشّارع الحكيم سبحانه لأجل تحصين المجتمع كلّه من كلّ أسباب الفاقة وكلّ أسباب البطالة والعطالة وكلّ أسباب الزّلازل الإجتماعية التي تحصد روح الإجتماع بين النّاس وتمكّن للإقتتال وكلّ أسباب الإستقلال السّياديّ، إذ لا سيادة لوطن بدون مال كاف. وهل تحتلّ الأوطان اليوم وبالأمس إلاّ بإسم الحماية؟ ولكن تنكّبنا مقاصد الزّكاة، فظنّنا أنّها عبادة مثل الصّلاة تصلح صاحبها فحسب، وبذلك نبذنا بأنفسنا صرحا عظيما من صروح قوّتنا التي تضمن لنا الإستقلال والسّيادة والرّخاء والعدالة ووحدة الصّف وبناء المشاريع الإستثمارية العظمى، سيما في مجال العلوم والمعارف والقوى العسكريّة وغير ذلك من المصارف التي جاء بها ذلك النّظام الأعظم.
نظام العقل
العقل لغة معناه الحبس، ولذلك سمّي العقل عقلا لأنّه يحبس على صاحبه ما هو صالح ونافع ويصرف عنه ما هو فاسد ومفسد. نظام العاقلة في الأمّة الإسلاميّة معناه تكافل القبيلة ـ التي هي الوحدة الإجتماعيّة المؤسّسة في النّظام الإجتماعيّ الإسلاميّ الذي ورث ذلك عن الحياة العربيّة ـ ماليّا لأجل عقل ـ أي منع وعضل ـ أبنائها وبناتها عن اقتراف ما هو فاسد وتكون عاقبته (ديّة) تحرّرها القبيلة التي ينتمي إليها ذلك المفسد وتذهب إلى القبيلة التي قتل بعض أفرادها. القبيلة إذن وحدة إجتماعيّة تعقل رجالها عن إلحاق الضّرر بالآخرين، فإذا وقع بعض ذلك منهم فإنّ القبيلة نفسها هي التي تتحمّل الدّية (التي هي مائة من الإبل في النّظام العربيّ وأقرّ الإسلام ذلك). لذلك سمّيت القبيلة عاقلة. ومن معاني العقل تحصين القبيلة المعتدية من الثّأر الذي لا مناص منه لو رفضت القبيلة المعتدية دفع الدّية، فهي تعقل نفسها بالنّتيجة. وسمّي ذلك نظام العاقلة وهو نظام تأمينيّ جامع وقيّم من شأنه تجفيف منابع الثّارات العمياء وتوحيد صفّ القبيلة وترسيخ تراحمها. الإسلام أقرّ ذلك النّظام إداريا وماليا، أي نظام القبيلة ونظام العاقلة، عدا أنّه عمل على تغيير بعض القيم التي لا تتناسب وتشريعاته.
نظام العاقلة اليوم عندنا هو مجموع النّظم التّأمينيّة المختلفة من مثل الرّوابط المهنيّة والوطنيّة والتّأمينات المعروفة على وسائل النّقل وغيرها. ولكنّ نظام العاقلة اليوم بأسره تقريبا لم يعد يحمل القيم الصّحيحة، إنّما هو نظام همّه الأوحد إسترقاق الضّعيف وإستعباد الفقير. ولكنّ النّاس بحاجة دوما إلى نظام عقل يحمل القيم الإسلاميّة، وليس صورة عفوا من تلك القيم.
الذي يهمّنا هنا هو أنّ الشّريعة أقامت المجتمعات على أساس نظام العقل الذي يجعل من الوعاء الذي يضمّهم (دولة أو قبيلة أو أيّ رابطة) حاميا لهم إبتداء من اقتراف العدوان وإنتهاء بتحمّل المسؤوليّة الماليّة المترتّبة عن ذلك العدوان. وبذلك نخلص مرّة أخرى إلى أنّ التركيب المجتمعيّ في الإسلام يحضن قيمة التّكافل الماليّ والتّضامن الماديّ، وبذلك تتوزّع الثّروة أن تكون بأيد معروفة معلومة محدودة. أرأيت هنا كيف أنّ الشّريعة عملت على توزيع الثّروة خارج النّطاق الإسلاميّ بالكلّية، وذلك عندما يقتل مسلم غير مسلم. ذلك أنّ حركة المال ليست خاضعة في الأصل ـ إلاّ إستثناءات معدودات ـ إلى معايير الإيمان والكفر، بل إلى مقاييس الآدميّة والإنسانيّة والمساواة البشريّة. ولذلك كانت ديّة المرأة مثل ديّة الرّجل، ودية الصّغير مثل ديّة الكبير، ودية المسلم مثل ديّة الكافر وغير ذلك. كلّ ذلك لأجل تأمين حركة ماليّة منداحة بين النّاس أن تتعوّق تلك الحركة، فيكون المصير شبيها بتعوّق حركة الدّم في العروق.
نظام الأوقاف والأحباس
أصل هذا النّظام من لبّ الشّريعة، إذ حبّس بعض الصّحابة بعض أموالهم في عهده ﷺ بناء على توجيهه. الحبس (الوقف) هو حجز مال ـ عادة ما يكون غير منقول، ولكن يكون منقولا كذلك. والعبرة هنا بعطائه غير النّاضب وليس هو من المستهلكات السّريعة الخفيفة ـ عن الإنتفاع الخاصّ به وكذلك العامّ، وتخصيص ذلك لمصرف ما أو طائفة ما أو منشط ما. هو موقوف من صاحبه الذي يملكه فلا يتصرّف فيه عدا من عهد إليه بذلك. وهو نظام غرضه الأسنى ـ من بعد الأغراض الرّوحيّة الأخرويّة وما فيه من ثوابات وأجور وغير ذلك ـ تذرير المال وتوزيعه وعدم حبسه على صاحبه فحسب أو على ورثته. وعادة ما يكون ذلك لرعاية مشاريع كبرى في الأمّة من مثل الوقف على العلوم والمعارف أو على فقراء ومساكين ومعدمين أو على جهة ما أو غير ذلك. حتّى إنّ الأمّة لمّا عملت بنظام الأحباس في قرونها الأولى إستقرّت أحوالها الإجتماعيّة، إلى درجة أنّ المجتمعات استغنت عن الدّولة الحاكمة وأصبحت تلك المجتمعات قوّة ماليّة ضاربة في الأرض. ولذلك ازدهرت أسواق العلوم والمعارف بما ينفق عليها من ريع تلك الأوقاف. بل إنّ تلك الأوقاف إنداحت وشبعت منها الأمّة حتّى أوقفوا أموالا على القطط وعلى الكلاب الضّالّة وغير ذلك. ممّا يدلّ على أنّ روح الأمّة ماليّا وإقتصاديّا كانت بيد تلك الأحباس الموقوفة. ولكن مع الأيّام إضمحّل ذلك النّظام بسبب إنصرام وحدة الأمّة وانهزام حكّامها في وجه المحتلّ الذي رأى أنّ تلك الأحباس قوّة ماليّة للأمّة التي يريد إحتلالها وأنّها تحقّق لها سيادتها وإستقلال قرارها. فكان لا مناص من ضربها ولذلك بادر (بورقيبة) بسرعة قياسيّة إلى ضرب الأحباس وتجميد الأوقاف وشنّ عليها حملات فكريّة وثقافيّة.
وليس مثل نظام الأحباس محقّقا للأمّة إستقلالها وسيادتها ومؤمّنا العدالة الإجتماعيّة ومغذّيا للمشروعات العظمى التي بها تنهض الأمّة وتتحرّر. والغرض هو تذرير الحركة الماليّة وتوزيعها وعدم ركونها في أيد قليلة. ولكن يكتسب نظام الأحباس ميزة أخرى غير موجودة في أيّ نظام ماليّ في الأمّة وهي ميزة الدّيمومة والإستمراريّة، إذ يتحرّر ملكها من يد صاحبها لتكون ملكا لمن أوقفت عليهم
نظام التّجارة
ما لا يفقهه كثير من النّاس هو أنّ الشّريعة أعدمت نظاما ماليّا وحيدا، هو النّظام الرّبويّ القائم على ربا الجاهليّة (ربا النّسيئة بصورته القديمة وتلحق به بعض الصّور الجديدة. عدا أنّه لفرط جهلنا وميلنا إلى الأحوط بدل الأيسر أضحت كثير من الصّور الجديدة ملحقة بالرّبا، وما هي بالرّبا). أمّا نظام التّجارة فهو قائم البتّة، بل إنّه منفتح لإستيعاب كلّ الحاجات والضّرورات (ولقد سبق أن ضربنا لذلك أمثلة من السنّة الصّحيحة نفسها فيما يتعلّق ببيع السلّم وصورته المضادّة أي بيع الأجل وبيوع أخرى كثيرة).
ما لم يفقهه كثير من النّاس هو أنّ كلّ نظام لا يقوم على الرّبا ـ ربا النّسيئة ولو بصورة معاصرة صحيحة قياسا صحيحا جليّا. وليس عملا بالأحوط فحسب ـ هو نظام تجاريّ مقبول لعمارة الأرض. ولذلك جاء التّعليم الإسلاميّ صحيحا صريحا وبليغا وفي كلمة واحدة جامعة مانعة ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾. أي أنّ كلّ معاملة إمّا أن تكون ربويّة أو تكون غير ربويّة. وليس هناك في الأصل ـ إلاّ إستثناءات يرصدها أهل النّظر الفقهيّ المعاصر وليس كلّ من هبّ ودبّ ـ منزلة ثالثة وسطى. ذلك يعني أنّ كلّ المعاملات صحيحة مشروعة ما عدا التّرابي. الآية هنا شبيهة بالآية التي قال عنها الفقهاء الرّاسخون أنّها آية تبيح وليس تحرّم وهي قوله سبحانه ﴿ قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ...﴾(الأنعام: 145). هذه الآية بناؤها تحريميّ، وهي في الحقيقة تبيح كلّ شيء عدا ما ذكر، وهو أقلّ من القلّة وأندر من النّدرة، مثل ذلك قوله سبحانه ﴿... وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...﴾(البقرة: 275)، معناها أنّ كلّ صور المعاملات الماليّة والتّعاوضات المادية مشروعة مباحة عدا التّرابي، أي تحريم صورة واحدة وتحليل كلّ ما عداها.
أين نحن بفقهنا من هذا الإتّجاه الذي يخبرك أنّ أكثر الصّور محرّمة إلاّ ما ورد، وهو قليل من قليل؟ وعندما تباح كلّ صور التّبايع والإتّجار ـ عدا فيما هو محرّم عينا وهو قليل جدّا. وفيما هو تراب صارخ ـ فإنّ ذلك يعني أنّ الشّريعة متشوّفة ـ كلّ تشوّف ـ إلى تذرير الثّروة وعدم مركزتها في أيد معلومة، عادة ما تكون هي المستأثرة بالسّلطان. ولذلك كان نظام المضاربة الواسع الذي يتكافل فيه كلّ من رأس المال مع العمل لأجل عمارة الأرض والتقاط معايش النّاس المركوزة في الأرض وتأمين الرّخاء وترسيخ الكرامة التي لا تكون بدون مال بل بدون إستقلال ماليّ. كلّ ذلك ليكون النّاس بعضهم لبعض سخريّا كما قال القرآن الكريم. فلا وجود لطائفة مهما إستغنت إلاّ وهي بحاجة إلى خدمات طائفة أخرى أقلّ منها حظّا في الدّنيا. نظام التّبايع والتّقايض والتّبادل والإتّجار هو نظام كفيل بإندياح المال والثّروة بين النّاس وبعدل وتراض وليس بترابٍ.
الخلاصة
خير مثال لحركة المال في الشّريعة هي حركة الدّماء في الجسم البشريّ، كلّما جرت تلك الحركة منداحة سلسة حرّة قوي الجسم ونشط، وكلّما ضاقت الشّرايين به تلبّست تلك الحركة وأخضع الجسم إلى الأمراض والعجز. بمثل ذلك بالتّمام والكمال حركة المال بين النّاس في الأرض التي جعل اللّه فيها معايشها كافية شافية ضافية. كلّما سرت حركة المال سلسة حرّة عمّ الرّخاء وسادت العدالة. وكلّما تعوّقت ـ ولو بقالات جوفاء من المنسوبين إلى العلم، ولا علم ـ تلك الحركة مرض الاقتصاد بأدواء التّضخّم الذي هو سرطان حياتنا الماليّة منذ ذهب الإيثار وحلّت محلّها الأثرة الجشعة. ولذلك لم تقيّد الشّريعة حركة المال بين النّاس إلاّ بقيد واحد هو التّظالم لتأمين كرامة الإنسان وصوره كثيرة لا تكاد تحصى، ومنها قطعا صورة التّرابي الممقوت. هل نعي تلك الهندسة الماليّة في الشّريعة، وهل نستقرئ حركة المال فيها، أم نحكّم أهواءنا المتلبّسة بالدّين؟ |