الإنسان والكون
بقلم |
نبيل غربال |
مفهوما الليّل والنّهار في القرآن (7) غشيان اللّيل للنّهار |
لقد استخدم القرآن صيغة المضارع للفعل (غشي) مع اللّيل:﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: 54)، ﴿وَٱلَّيلِ إِذَا يَغشَىٰهَا﴾ (الشمس: 4) و﴿وَٱلَّيلِ إِذَا يَغْشَيٰ﴾ (الليل:1) وصيغة الماضي للفعل (جلّى) مع النّهار: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّيٰ﴾ (الليل: 2) ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّيٰهَا﴾ (الشمس: 3)، وهذا يدعو للتّساؤل. سنحاول فهم ذلك من خلال تحديد المعنى الأصلي للجذر (غشي) كما فعلنا مع الجذر (جلو) بأقرب ما يمكن من الدّقة، وسنرى أنّ لهذا التّساؤل إجابة في إطار الفرضيّة التي قلنا فيها أنّ اللّيل في القرآن هو الظّلام الموجود في الحيز الفضائي التّابع للأرض والذي يحدث إذا لم يتوفّر أحد شرطيّ النّهار.
فما هو المعنى الأصلي للجذر (غشي)؟ وماذا يترتّب من معنى عند استعمال المضارع الذي يفيد الدّلالة على الحدث مع الاستمرار والتّجدّد في لسان العرب؟
1. الغشيان لغة
من أقدم النّصوص التي استعمل فيها لفظ مشتق من الجذر (غشي) نورد إثنين، الأول للقيط بن يعم الأيادي وذلك حوالي 150 ق. ه. وجاء فيه: «وقد أظلّكم من شطر ثغركم***هولُ له ظُلَمٌ تغشاكم قطعا، حيث «غشيه الظّلام ونحوه: غطّاه وغمره»(1) ، والثّاني قاله امرؤ القيس حوالي 50 ق ه: «وَإِذ هِيَ سَوداءُ مِثلُ الفُحَيمِ*** تُغَشّى المَطانِبَ وَالمَنكِبا، حيث «غشّى الشيء: غطاه»(2). وفي معجم العين « غشي: غاشِيَةُ السَّيف والرّحل غِطاؤه»(3) . ويرى بن فارس أنّ « الغين والشّين والحرف المعتل أصلٌ صحيح يدلُّ على تغطيةِ شيءٍ بشيء. يقال غَشَّيت الشَّيءَ أُغَشِّيه. والغِشاء الغِطاء»(4) .
تكاد تجمع المعاجم على معنى التّغطية للفظ «غشي» ولكن، هل من فرق بين اللّفظين أي الغشاء والغطاء؟
جاء في كتاب «الفروق اللّغوية» لأبي هلال العسكريّ (5): «إن الغشاء قد يكون رقيقا يبين ما تحته ويتوهّم الرّائي أنّه لا شيء عليه لرقّته ومن ثمّ سمّيت أغشية البدن وهي أعصاب رقيقة قد غشي بها كثير من أعضاء البدن مثل الكبد والطّحال، فالغطاء يقتضي ستر ما تحته والغشاء لا يقتضي ذلك، ومن ثمّ قيل غشي على الإنسان لأنّ ما يعتريه من الغشي ليس بشيء بيّن، والغطاء لا يكون إلاّ كثيفا ملاصقا. وقيل الغشاء يكون من جنس الشّيء والغطاء ما يقتضيه من جنسه كان أو من غير جنسه، ولذلك تقول تغطّيت بالثّياب ولا تقول تغشّيت بها، فإنّ استعمل الغشاء موضع الغطاء فعلى التّوسّع»(6).
نلاحظ مما قاله العسكريّ أنّ أهم ما يفرق بين الغشاء والغطاء أنّ الغشاء لا يقتضي ستر ما تحته بل ويمكن أن يجعل الرّائي يتوهّم أن لاشي بينه وبين ما يراه. فما دلالة الآيات 53, 4 و1 من سور الأعراف والشّمس واللّيل على التّوالي لو التزمنا بهذا المعنى للفعل «غشي»؟
2. الليل يغشى الشمس
تقول الآية الرّابعة من سورة الشّمس ﴿وَٱلَّيلِ إِذَا يَغشَىٰهَا﴾، أنّ اللّيل يغشى الشّمس أي لا يسترها إذا التزمنا بالفرق بين الغطاء والغشاء، وهذا يتناقض مع ما قيل في التّفاسير والذي يبرّره ما تعوّد عليه الإنسان من أنّ اللّيل إذا جاء تختفي الشّمس وكأنّه غطّاها. هناك إذا، حسب الآية، ليل لا يمنع من رؤية الشّمس، فهل هذا ممكن؟ إذا تبنّينا الفرضيّة التي تقول أنّ اللّيل الأرضي هو ظلام يتحقّق بانعدام أحد شرطيّ الضّياء الأرضي فيصبح للآية معنى لا يتناقض مع مقتضى دلالة الجذر. كيف؟
كنا قد رأينا أنّ الظّلام الأرضي موجود فوق طبقة النّهار بحكم ضآلة كثافة الغازات عند تلك الارتفاعات. ولو صعد الإنسان في الغلاف الغازي وتجاوز طبقة النّهار ونظر في اتجاه الشّمس فلن يمنعه الظّلام الأرضي من رؤيتها بل وسيتوهّم أنّه لا شيء بينه وبينها. إنّها حقيقة طبيعيّة، فهل تشير الآية إليها؟ نعتقد ذلك. أما عن صيغة المضارع المتعلّقة بالغشيان والتي تدلّ على أنّه حدث أرضي (باعتبار أنّه مرتبط باللّيل وهو ظلام أرضي) مستمرّ طيلة حياة الأرض فهي تصف حقيقة طبيعيّة، لأنّ الظّلام سابق النّهار كما رأينا في فقرة إغطاش اللّيل وإخراج النّهار. لقد كان الظّلام الأرضي الذي يعلو طبقة الضّياء ومازال يغشى الشّمس، واستعمال المضارع مع غشيان اللّيل الشّمس يعكس علم قائل الآية بالحقيقة الطّبيعيّة.
3. الليل يغشى النهار
ننقل عن الطوسي ما قاله في الفعل غَشِيَ فهو «فعل يتعدى الى مفعول واحد، كقوله ﴿تَغْشَى وجوههم النار﴾ فاذا نقلته بالهمزة أو التضعيف تعدى الى مفعولين، وقد ورد القرآن بهما قال الله تعالى ﴿فأغشيناهم فهم لا يبصرون﴾فالمفعول الثاني محذوف، وتقديره فأغشيناهم العمى، وفقد الرؤية. وبالتضعيف نحو قوله﴿ فغشَّاها ما غشَّى﴾(ما) في موضع نصب بأنه مفعول ثان»(7).
نعرض فيما يلي بعض التّفاسير المتعلّقة خاصّة بإسناد فعل الإغشاء (الغشيان) في الجملة: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ من الآية 53 من سورة الأعراف.
4. الليل بمعنى اللَّحَاق والادراك!
قال الرّازي في المسألة الثّانية من المسائل الثّلاث التي تناول فيها جملة: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾، قوله: «﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ يحتمل أن يكون المراد يلحق اللّيل بالنّهار، وأن يكون المراد النّهار باللّيل، واللّفظ يحتملهما معاً وليس فيه تغيير، والدّليل على الثّاني قراءة حميد بن قيس ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ بفتح الياء ونصب اللّيل ورفع النّهار أي يدرك النّهار اللّيل ويطلبه»(8). وبعلاقة بقراءة حميد بن قيس نجد في تفسير بن عطيّة ما يلي: «وقرأ حميد « يَغْشَى « بفتح الياء والشّين ونصب « اللّيلَ» ورفع « النّهارُ»، كذا قال أبو الفتح، وقال أبو عمرو الدّاني برفع « اللّيل» -أي ﴿يَغْشَى الليلُ ٱلنَّهَارَ﴾. قال القاضي أبو محمد: وأبو الفتح أثبت»(9).
5. التغشية بمعنى التغطية!
ونجد فيما قاله أبو حيّان(10) مزيدا من المعطيات عن قراءة حميد بن قيس. فقد جاء في تفسيره: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ التّغشية التّغطية، والمعنى أنّه يذهب اللّيل نور النّهار ... وفحوى الكلام يدلّ على أنّ النّهار يغشيه اللّه اللّيل، وهما مفعولان لأنّ التّضعيف والهمزة معدّيان، وقرأ بالتّضعيف (يُغَشِّي) الأخوان وأبو بكر وبإسكان الغين (يُغْشِي) باقي السّبعة، وبفتح الياء وسكون الغين وفتح الشّين وضمّ اللاّم (يَغْشَى) حميد بن قيس، كذا قال عنه أبو عمرو الداني ﴿يَغْشَى اللّيلُ ٱلنَّهَارَ الزيادة مني )، وقال أبو الفتح عثمان بن جنّي عن حميد بنصب { اللّيل } ورفع { النّهار } ﴿يَغْشَى ٱلْلَّيْلَ النهارُ﴾، قال ابن عطية: وأبو الفتح أثبت (انتهى). وهذا الذي قاله من أنّ أبا الفتح أثبت كلام لا يصح ...... والذي نقله أبو عمرو الدّاني عن حميد – ويقصد يَغْشَى اللّيلُ ٱلنَّهَارَ كما قال بن عطية - أمكن من حيث المعنى لأنّ ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ اللّيل في قراءتهم وإن كان منصوباً هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النّقل يُغْشِي أو التّضعيف يُغَشِّي صيره مفعولاً (أي اللّيل ) ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى لأنّ المنصوبين تعدّى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى، فيلزم أن يكون الأول منهما، كما لزم ذلك في ملّكت زيداً عمراً إذ رتبة التّقديم هي الموضّحة أنّه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى»(11).
ما نقلناه بإيجاز عن أبي حيان يلخص القراءات التي تصدّى لها المفسرون وهي أربع: يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ ويُغَشِّي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ ويَغْشَى اللّيلُ ٱلنَّهَارَ ويَغْشَى ٱلْلَّيْلَ النّهارُ. وعنده أنّ القراءة: يَغْشَى اللّيلُ ٱلنَّهَار حيث يسند الفعل الى اللّيل تتوافق مع القراءتين: يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ ويُغَشِّي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ أين صيّرت الهمزة والتّضعيف الفعل غشي متعد الى مفعولين، وتقدم الليل في الرتبة يلزم أن الليل هو الفاعل من حيث المعنى. نحن إذا أمام قراءات أغلبها يجعل الليل هو الفاعل. وبناء عليه فان ما سنتبناه من فاعل للغشيان في الجملة ﴿يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَار﴾ هو ما قاله ابو حيان (ت 754 هـ): « وفحوى الكلام يدلّ على أنّ النّهار يغشيه اللّه اللّيل « وما قاله الشّوكاني: «قوله ﴿يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَار﴾ أي يجعل اللّيل كالغشاء للنّهار، فيغطّي بظلمته ضياءه»(12)خاصّة أنّ ذلك « أكثر وأشهر عند علماء التّفسير»(13). فاللّيل المراد في الآية هو بالنّسبة لنا الظّلام الأرضي الذي يَغْشَى ضياء النّهار وهذه حقيقة طبيعيّة. فبالنّسبة لإنسان موجود فوق طبقة النّهار فإنّ الظّلام الذي يغمره لن يحول دون رؤيته النّهار عندما ينظر في اتجاه الأرض.
إنّ الالتزام بالمعنى الأكثر احتمالا للجذر (غشي) وبما يسمح به اللّسان العربي من معان للجمل القرآنيّة وبمفهوم النّهار القرآني (توفّر شرطي الشّمس وغازي الأكسجين والنّيتروجين بكثافة محدّدة) أمكننا من قراءة علميّة لغشيان اللّيل للشّمس والنّهار باستخدام فرضيّة أنّ القرآن يستعمل مفهوما للّيل يتضمّن كلّ الظّلام الأرضي أي الظّلام الموجود في الحيّز الفضائي الخاضع لجاذبيّتها الثّقالية.
إنّ غشيان اللّيل للشّمس وكذلك للنّهار هي ظاهرة طبيعيّة لم يكن في متناول الإنسان رصدها الاّ في النّصف الثّاني من القرن العشرين حيث عرف كيف يتغلّب على الجاذبيّة ويبتعد عن الأرض مسافات مكّنته من رؤية الحقيقة الطّبيعيّة بأمّ عينيه. والإشارة اليها في القرآن آية على أنّ مصدره غير بشري.
الهوامش
(1) معجم الدوحة التاريخي للغة العربية https://www.dohadictionary.org/dictionary
(2) نفس المرجع
(3) العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م (غشي)
(4) مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م (غشي)
(5) أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري (ت 395 هـ - 1005 م) عالم لغوي وأديب نُسب إلى عسكر مُكرم من قرى الأهواز(إيران)، له مؤلفات كثيرة أشهرها جمهرة الأمثال و الفروق اللغوية و المحاسن في تفسير القرآن
(6) الفروق اللغوية – أبوهلال العسكري ، الفرق بين الغشاء والغطاء
(7) تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف ومدقق
(8) تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف ومدقق مرحلة أولى
(9) تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف ومدقق
(10) محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي الأندلسي الجياني النّفزي. من علماء العربيّة والتّفسير والحديث والتّراجم واللّغات، ولد في عام 654 هـ/ 1256 م بغرناطة. وتوفي بالقاهرة عام 745 هـ/ 1344 م.
(11) تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف ومدقق
(12) تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف ومدقق
(13) تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف ومدقق مرحلة اولى
|