تطوير الذات
بقلم |
![]() |
محمد أمين هبيري |
مبدأ عدم التّأثيم |
يعتبر ابن خلدون أنّ الإنسان يتميّز بوجود الغرائز والمصالح التي تحرّكه في حياته. فالإنسان يسعى لتحقيق مصالحه الشّخصيّة والمادّيّة، وهذا يتأكّد من خلال سلوكه وتصرّفاته اليوميّة. بالإضافة إلى ذلك، يتوجّب على الإنسان أيضًا السّعي للحفاظ على نفسه وعلى عائلته، وذلك يعد من جملة المصالح التي تحظى بأهمّية بالغة. إلى جانب ذلك، يميل الإنسان أيضًا للتّعاون والتّفاعل مع غيره من البشر، وذلك لتحقيق مصالحه الاجتماعيّة والثّقافيّة. لذلك، يمكن القول أنّ الطّبيعة الإنسانيّة والمصالح هي أساس نظريّة ابن خلدون في فهم الإنسان وفهم تصّرفاته في المجتمع.
إنّ مبدأ «عدم التّأثيم» الخلدوني يعدّ من النّظريّات الفلسفيّة البارزة التي تقدّمت بها أروقة التّفكير في علم الاجتماع السّياسي. يقوم هذا المبدأ على فهم عميق لطبيعة السّلوك الإنساني ومدى تعقيداته، ويتناول السّياسة بعين تفصيليّة تفرّد بنوع من التّفسير الواقعي لها. ففي مقابل النّظريّات التي تعتمد على تصنيف الأفعال السّياسيّة إمّا بأنّها صائبة أو مخطئة، يأتي مبدأ التّأثيم الخلدوني ليقدّم منظورًا مختلفًا تمامًا.
تعود أهمّية مبدأ التّأثيم الخلدوني إلى قدرته على تفسير الظّواهر السّياسيّة وتناولها بشكل شامل يحاول فهم العوامل المؤثّرة فيها، إذ يعتبر هذا المبدأ أنّ الفعل السّياسي ليس مجرّد تصرّفات يمكن تصنيفها بين الخير والشّر، بل هو نتاج لظروف معيّنة وخلفيّات تاريخيّة وثقافيّة واجتماعيّة. ومن هنا، يتميّز مبدأ التّأثيم الخلدوني بقدرته على تفسير التّناقضات التي قد تظهر في سلوك الحكّام والسّياسيّين، ويساعد في فهم الخطوات التي يتّخذونها حتّى في ظلّ الظّروف القاسية.
لكن لا يقتصر دور مبدأ التّأثيم الخلدوني على تفسير السّلوك السّياسي فحسب، بل يمتدّ إلى إلقاء الضّوء على عوامل أخرى مهمّة تؤثّر في بناء المجتمعات وتطويرها. فابن خلدون لم يكتف بتحليل الظّواهر السّياسيّة، بل امتد تأثيره إلى مفهوم العمران البشري والتّطوّر الاجتماعي. إذ نظر إلى الجوانب الاقتصاديّة والثّقافيّة والدّينيّة وغيرها من الجوانب التي تشكّل ركائز المجتمعات، ووضع نظريّة شاملة لتفسير تطوّر هذه المجتمعات.
بالنّظر إلى هذا التّحليل الشّامل، يظهر مدى تقدّم ابن خلدون في فهم العمليّة الاجتماعيّة والسّياسيّة، وكيف أنّه -وفي زمنه - قد تجاوز العديد من الفلاسفة والمفكّرين الذين سبقوه في هذا المجال. إنّ تصوّره لمبدأ التّأثيم الخلدوني ليس مجرّد تنظير فلسفي جديد، بل هو إطار تحليلي يعزّز من قدرة الفرد على فهم السّياسة والمجتمع بشكل أعمق وأوسع، ممّا يسهم في تطوّر الفكر السّياسي والاجتماعي في العصور اللاّحقة.
يمكن تقسيم البحث إلى جزأين؛ الأول نخصصه للمبدأ في ذاته (الجزء الأول)، والثاني للمبدأ في موضوعه (الجزء الثّاني)
الجزء الأول: مبدأ عدم التّأثيم في ذاته
يمكن تقسيم هذا الجزء إلى عنصرين؛ الأول أساس المبدأ والثاني مبرّرات المبدأ
العنصر الأول: أساس المبدأ
يعتبر مبدأ عدم التّأثيم الخلدوني أحد الرّكائز الفلسفّية في فهم طبيعة السّياسة والمجتمع، ينطلق من فلسفة ابن خلدون حول الإنسان والمجتمع، والتي تتمحور حول فهمه للغرائز البشريّة والتّنافسات والصراعات التي تحدث داخل المجتمعات.
يكمن أساس هذا المبدأ في الاعتراف بطبيعة الإنسان التي تتّسم بالدّوافع المختلفة والمتعدّدة، حيث يعتبر ابن خلدون أنّ الإنسان لا يتحكّم في تصرّفاته فقط بناءً على القيم والمبادئ الأخلاقيّة، بل إنّه يتأثّر بمجموعة من العوامل الدّافعة مثل الرّغبة في السّلطة والثّروة والنّفوذ والأمن والاستقرار. ومن هنا، يرى أنّ السّلوك الإنساني في المجتمع لا يمكن تحكيمه ببساطة بين ما هو صائب وما هو خاطئ، ولكنّه يتأثّر بمجموعة من العوامل والظّروف التي تحيط به.
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر ابن خلدون أنّ المجتمعات تتطوّر عبر الزّمن نتيجة للتّنافس والصّراعات بين القوى المختلفة التي تتنافس على الموارد والنّفوذ. ومن هنا، يربط بين طبيعة الإنسان وبين الطّبيعة الاجتماعيّة للمجتمعات، حيث يرى أنّ تفاعل الفرد مع المجتمع يشكّل نتيجة لتداخل العوامل الدّافعة والظّروف الاجتماعيّة والسّياسيّة التي يمرّ بها المجتمع.
تترتّب على هذه الفلسفة المتعلّقة بطبيعة الإنسان والمجتمع، عدّة نتائج وتأثيرات على فهم السّياسة والمجتمع. فهذا المبدأ يساعد في تفسير التّناقضات التي تحدث في السّلوك السّياسي، ويسلّط الضّوء على القوى الدّافعة التي تحدّد سلوك الفرد داخل المجتمع. كما يسهم هذا المبدأ في فهم عمليّات التّغيير والتّطوّر في المجتمعات عبر الزّمن، حيث يرى أنّ التّقدّم والتّطوّر لا يحدثان بشكل ثابت أو متجانس، بل يتأثّران بتفاعل القوى المختلفة داخل المجتمع.
بهذه الطّريقة، يظهر أنّ مبدأ عدم التّأثيم الخلدوني لا يمثّل فقط إطارًا فلسفيًّا متعدّد الأبعاد يساعد في فهم السّلوك السّياسي الإنساني وتفاعلاته داخل المجتمعات بل هو مبدأ سياسي يحكم ذاك الفعل السّياسي، ويسهم في رؤية أعمق وأشمل لعمليّات السّياسة والتّغيير الاجتماعي.
العنصر الثّاني: مبرّرات المبدأ
من خلال مبدأ عدم التّأثيم الخلدوني، يسعى ابن خلدون إلى توضيح وتبرير فكرته بتفصيلات محكمة تستند إلى عدّة نقاط أساسيّة. يعود مبرّر هذا المبدأ إلى تحليل عميق لطبيعة الإنسان والمجتمع، ويتمثّل في مجموعة من الجوانب المهمّة التي يعتبرها ابن خلدون محوريّة في فهم السّياسة والتّفاعلات الاجتماعيّة.
أوّلاً، يبرّر ابن خلدون مبدأ عدم التّأثيم الخلدوني بالاعتراف بالطّبيعة الخاطئة للإنسان، حيث يرى أنّ الإنسان، بطبيعته، ليس مثاليًّا، بل هو معرّض للخطأ والانحراف، سواء في حياته الشّخصيّة أو في مجال السّياسة وصنع القرار. ومن هنا، فإنّ الفعل السّياسي ينطوي على درجات متفاوتة من الخطأ، حيث يمكن أن يكون قرارًا صائبًا في ظل ظروف معيّنة، ولكن يتحوّل إلى خطأ في ظروف أخرى.
ثانيًا، يبرّر ابن خلدون مبدأه بتعقيد الفعل السّياسي وصعوبة تحليله بشكل مطلق، إذ يرى أنّ السّياسة ليست بسيطة، بل هي تتألّف من مجموعة من التّعقيدات والتّفاصيل التي يصعب فهمها بشكل كامل. فالفعل السّياسي يتأثّر بعدّة عوامل، مثل الثّقافة والتّاريخ والاقتصاد والبيئة، ممّا يجعل تحليله أمرًا صعبًا ومعقّدًا.
ثالثًا، يبرّر ابن خلدون مبدأه بالظّروف المحيطة التي تلعب دورًا حاسمًا في تحديد طبيعة الفعل السّياسي، حيث يرى أنّ نفس الفعل قد يكون صوابًا في ظروف معينة ولكن يتحوّل إلى خطأ في ظروف أخرى، وذلك بسبب تباين الظّروف الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة التي يتمّ فيها اتخاذ القرارات. ومن هنا، فإنّ الفهم الكامل للفعل السّياسي يتطلّب دراسة السّياق الذي يحدث فيه، وفهم الظّروف التي تحيط به.
بهذه الطّريقة، يظهر أنّ مبدأ عدم التّأثيم الخلدوني يستند إلى مبرّرات تتعلّق بالطّبيعة البشريّة، وتعقيد الفعل السّياسي، وتأثير الظّروف المحيطة، ممّا يساهم في إثراء الفهم لعمليّات صنع القرار السّياسي والتّفاعلات الاجتماعيّة بشكل عام.
الجزء الثاني: مبدأ عدم التّأثيم في موضوعه
يمكن تقسيم الجزء الثاني إلى عنصرين؛ الأول نتائج المبدأ، والثّاني حدود المبدأ
العنصر الأول: نتائج المبدأ
مبدأ عدم التّأثيم الخلدوني، بفلسفته التي تركّز على تحليل الفعل السّياسي بمنظور شامل وواقعي، يُسفر عن نتائج إيجابيّة تؤثّر بشكل كبير في فهم وتحليل السّياسة وصنع القرار. تلك النّتائج تسهم في تعزيز التّفهّم والتّسامح وتطوير الحكمة فيما يتعلّق بالأمور السّياسيّة.
أولًا، يؤدّي هذا المبدأ إلى زيادة مستوى التّفهّم لدى الفرد لسلوك الحكام والسّياسيّين ودوافعهم ومصالحهم. فهو يسلط الضّوء على التّعقيدات والظّروف التي تؤثّر في اتخاذ القرارات السّياسيّة، ممّا يساعد في توجيه الانتقادات بشكل أكثر دقّة وفهمًا لما يجري في السّاحة السّياسيّة.
ثانيًا، يساهم هذا المبدأ في تعزيز التّسامح وقبول أخطاء الحكّام والسّياسيّين. فبفهم السّياق التّاريخي والاجتماعي لاتخاذ القرارات، يصبح من الأسهل تقبّل الأخطاء والفشل، وتحليلها بصورة أكثر عقلانيّة دون الانجراف إلى التّشدّد أو الانتقاد العميق.
ثالثًا، يُعزّز مبدأ عدم التّأثيم الخلدوني صنع القرارات السّياسيّة بحكمة أكبر. فبفهم العوامل المؤثّرة والتّعقيدات التي تحيط بالفعل السّياسي، يتمكّن القادة من اتخاذ قرارات مستنيرة تأخذ بعين الاعتبار المصالح العامّة وتحاول التّوفيق بينها وبين المصالح الخاصّة.
وبهذه الطريقة، يتّضح أنّ مبدأ عدم التّأثيم الخلدوني له أثر إيجابي كبير على صعيد فهم الفعل السياسي وتحليله. إذ يعزّز من مستوى التّفهّم والتّسامح، ويساهم في صنع قرارات سياسيّة أكثر حكمة وإصلاحيّة، ممّا يسهم في تطوير المجتمعات وتحسين الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة بشكل عام.
العنصر الثاني: حدود المبدأ
بالرغم من أن مبدأ عدم التّأثيم الخلدوني يقدّم إطارًا نظريًّا مفيدًا لفهم الفعل السّياسي وتحليله، إلّا أنّه يجب أن ندرك أنّ له حدودًا ولا يمكن استخدامه كمبرّر لأيّ فعل سياسي، خاصّة تلك الأفعال التي تعتبر جرائمَ ولا تقبل التّبرير. فعلى الرّغم من التّعقيدات التي يتضمّنها الفعل السّياسي وتأثير الظّروف والخلفيّات على صحّته، إلاّ أنّ هناك أفعالًا تتجاوز حدود القانون والأخلاق ولا يمكن تبريرها بأيّ شكل من الأشكال. فمثلًا، لا يمكن أبدًا تبرير أو تبرئة القتل أو الظّلم باستخدام هذا المبدأ، حيث تظلّ هذه الأفعال مرفوضة بشكل عام في المجتمعات وتعتبر جرائم يجب محاسبة من يرتكبها.
لذا، يجب علينا أن نفهم أنّ مبدأ عدم التّأثيم لا يُعفي أيّ فعل سياسي من المساءلة والتّحقيق في صحّته وشرعيّته، وأنّ هناك حدودًا واضحة يجب عدم تجاوزها، حتّى في ظلّ تعقيدات الوضع السّياسي والاجتماعي.
|