تحت المجهر
بقلم |
مليكي مروى |
العلمانية في فكر محمد أركون (1-5) خلفية محمد أركون الفكريّة |
المقدّمة:
في زمن الثّورة الفكريّة وتحوّلات العالم الحديث، تبقى العلمانيّة موضوعًا شائكًا يحظى بالاهتمام والتأمّل، فهي تمثّل مفهومًا فلسفيًّا واجتماعيًّا ينطوي على فصل السّلطة الدّينيّة عن السّلطة الحكوميّة، وتعزيز دور العقلانيّة والعلم في توجيه شؤون المجتمع. تعتبر العلمانيّة، في جوهرها، استجابة فلسفيّة لمطالب العصر بالتّحرّر من رهان الدّين في الحكم والسّياسة، وتقديم مفهوم جديد للعلاقة بين الدّين والدّولة.
ومع هذه الخلفيّة الفلسفيّة، ننتقل إلى تفكير محمد أركون، أحد أعمدة التّفكير العربي في القرن العشرين. يشكّل تفكير أركون محورًا هامًّا في الدّراسات الفلسفيّة والاجتماعيّة، حيث أسهم بشكل كبير في تشكيل وجهة نظر العالم العربي نحو العديد من القضايا الحيويّة، بما في ذلك فهم العلمانيّة وتأثيرها في المجتمع.
ففي عالم متشابك بالتّنوع الثّقافي والدّيني، ويعجّ بالتّنوع والتّحدّيات يظلّ البحث عن الفهم العميق والتّحليل الشّامل للمفاهيم الفلسفيّة أمرا ضروريّا لفهم تطوّرات الحضارة وتحوّلات الثّقافة. ومن بين هذه المفاهيم تبرز العلمانيّة كمفهوم يحمل في طيّاته تحدّيات العصر وتطلّعات الفكر الحديث.
وتعدّ العلمانيّة واحدة من المفاهيم المثيرة للجدل والتي تشكّل محورا للنّقاشات والتّحليلات الفلسفيّة والاجتماعيّة. تأخذ العلمانيّة بعدا فلسفيّا يهدف إلى فصل الدّين عن الدّولة والمجتمع، وتؤمن بحرّية الفكر والمعتقد وتشجّع على التّعايش السّلمي بين أفراد المجتمع بغضّ النّظر عن انتماءاتهم الدّينيّة. تلك الفكرة الجريئة أثارت تحفّظ البعض وإشادة البعض الآخر، وفي هذا السّياق يبرز تحليل مفهوم العلمانيّة وتطبيقاتها في تفكير محمد أركون المفكّر العربي البارز، كمحطّة أساسيّة لفهم تطوّر الفكر العربي المعاصر والتّحديات التي تواجهه.
من هذا المنطلق يسعى هذا المقال إلى استكشاف رؤية أركون للعلمانيّة وتحليلها ودراسة تأثيراتها المحتملة على المجتمعات العربيّة، سنقوم بتحليل الجوانب الفلسفيّة والاجتماعيّة لمواقفه وآرائه ونحاول فهم عمق تفكيره ومدى تأثيره في الحياة الفكريّة والثّقافيّة في المنطقة.
فهذه الدّراسة تهدف إلى استكشاف وتحليل العلمانيّة في تفكير محمد أركون بشكل شامل، بدءًا من تفاصيل المفهوم العامّ للعلمانيّة وصولًا إلى تفسيرات أركون الخاصّة لهذا المفهوم وتطبيقاته. سنبحر في أعماق فكره، نحاول فهم كيف أدرج أركون العلمانيّة في سياق فكري وثقافي أوسع، وكيف أثّرت رؤاه في تشكيل وجهة نظر المجتمع العربي نحو هذا المفهوم.
من خلال هذه الرّحلة الفكريّة، نأمل أن نسلّط الضوء على أهمّية فهم التّفكير العلماني في تفكير أركون، وكيفيّة أن نفهم هذا الجانب من فلسفته يعزّز فهمنا للتّحوّلات الاجتماعيّة والثّقافيّة التي عاشها المجتمع العربي في القرن العشرين.
من هو محمد أركون؟
ولد أركون في مطلع شهر فيفري سنة 1928م في بلدة «تاوريت ميمون» من قرى إقليم القبائل الكبرى في الجزائر، في أسرة أمازيغيّة تنتمي إلى الطّبقات الدّنيا والفقيرة في المجتمع. وبعد أن أكمل دراسته الابتدائيّة في المدارس الفرنسيّة في مسقط رأسه، تخلّف عن مواصلة الدّراسة في العاصمة خلافا لرغبته تحت وطأة الوضع المادّي لأسرته، فاضطر إلى الجمع بين مواصلة دراسة المرحلة الثّانية ومساعدة والده في متجره في مدينة وهران. وبعد اجتياز هاتين المرحلتين، واصل دراسته الجامعيّة في كلّية الآداب في جامعة الجزائر في حقل الأدب العربي، حيث نال شهادة الباكالوريوس (ليسانس) سنة 1952م.
ثمّ انتقل أركون إلى باريس لمواصلة دراساته العليا هناك سنة 1952م. وعلى الرّغم من حقله العلمي الرّئيسي في اللّغة والأدب العربي، حضر مختلف الدّروس في الأنثروبولوجيا، والفلسفة، وعلم الاجتماع في المدرسة العلميّة للدّراسات العليا. وفي عام 1969م، قدّم أطروحة الدّكتوراه تحت إشراف «لويس ماسينون» في موضوع «نزعة الأنسنة في الفكر العربي، مسكويه الفيلسوف والمؤرّخ»، وحاز على الشهادة نهاية العقد السّادس من القرن الماضي. مارس أركون منذ عام 1960م التّدريس في حقل تاريخ الفكر الإسلامي في جامعة السّوربون، كما كان يشغل منصب أستاذ زائر في العديد من الجامعات الأوروبيّة والأمريكيّة، لينهي مسيرته العلميّة -وهو في ذروتها- بوفاته في باريس في الرّابع عشر من سبتمبر سنة 2010م، عن عمر ناهز الثّانية والثّمانين عاما(1) .
خلفية محمد أركون الفكريّة
إنّ خلفيّات الأفكار والنّظريّات تنقسم إلى خلفيّات معرفيّة، وخلفيات غير معرفيّة. وإنّ الخلفيّات المعرفيّة عبارة عن عناصر دخيلة في التّبلور التّاريخي للنّظريّة، ويكون لها ارتباط منطقي، وهي في الغالب ذات صبغة تحفيزيّة. وسوف نبحث في البداية في الخلفيات غير المعرفيّة لأفكار أركون، لننتقل بعد ذلك إلى بحث خلفيّاته المعرفيّة.
1. الخلفيات غير المعرفية لفكر أركون
«إن الخلفيات غير المعرفيّة عبارة عن عناصر تحفيزيّة، من قبيل: الظّروف السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، حيث تؤثّر في الغالب في غايات المفكّر وتدفعه إلى إخضاع موضوع خاصّ لبحثه وتحقيقه. ومن الضّروري - لإدراك أسباب تبلور المشروع الفكري لأركون - أن نلتفت إلى الظّروف السّياسيّة وكذلك المناخات الاجتماعيّة والثّقافيّة التي ترعرع فيها. تتمثّل أساسا في الظّروف السّياسيّة من حرب واستعمار وكبت سياسي والظّروف الثّقافيّة والاجتماعيّة، فإلى جانب الاستعمار السّياسي كان هناك استعمار ثقافي في الجزائر، حيث كانت فرنسا تعتقد بتفوّق ثقافتها على سائر الثّقافات الأخرى، وكانت ترفض أيّ ثقافة أخرى غير الثّقافة الفرنسيّة، وتنكر على الثّقافات الأخرى حتّى لغتها، وكان المبشرّون المسيحيّون يتوافدون على الجزائر لتغيير دين أبنائها، حتّى فرضت العزلة على الإسلام. وكانت أجواء الكبت والقمع مهيمنة حتّى على الجامعات، وكان أركون واحدا من خمسة أو ستة أشخاص سمح لهم بمواصلة الدّراسة في حقل الأدب العربي. في حين كان آلاف الفرنسيّين يواصلون دراساتهم في مختلف الحقول العلميّة، وكانوا يُعربون عن احتقارهم لتعلّم اللّغة العربيّة وكانت الدّراسات الاستشراقيّة تقدّم عن الإسلام صورة نمطيّة ميّتة وبالية، كما درس أركون في معهد الاستشراق في جامعة السّوربون الذي كان يعتبره من أكثر الأقسام انغلاقا في الجامعة، ومن ناحية أخرى في الوقت الذي كانت الحضارة الغربية تشهد ازدهارها وتطورها العلمي، كانت المجتمعات الإسلاميّة - بشكل عام - ومن بينها الجزائر، تواجه الكثير من المشاكل الثّقافيّة والاجتماعيّة. وكان الشّرح المذهبي والرّكود والتّخلّف العلمي والانحطاط الفكري بشكل خاصّ من أهم خصائص المجتمع الإسلامي. لذلك كان أركون يرى أنّ التّجديد في الفكر الإسلامي انتهى مع ابن خلدون وابن رشد. كما أنّ إقامته في باريس وإدراكه للظّروف الاجتماعيّة والثّقافيّة فيها قد أثّر في تبلور مشروعه الفكري وظهوره (2).
2. الخلفيّات المعرفيّة لفكر أركون
لقد أمضى أركون أهمّ سنوات ازدهاره العلمي في فضاء التّنوّر الفكري لفرنسا. وبالالتفات إلى التّحوّلات العلميّة التي شهدتها فرنسا في فترة إقامة أركون فيها، فقد تعرّف على أحدث الاتجاهات العلميّة وعلى المفكّرين والمنظرين الفرنسيّين من الطّراز الأول. وقد أثّر بعض المفكّرين وبعض المذاهب في أركون فقد كانت مدرسة الحوليّات الفرنسيّة، وعلم النّفس التّاريخي، وما بعد البنيويّة، والاستشراق، من أهم الاتجاهات المؤثّرة في فكر أركون ومنهجه، وكان لها دور واضح في توجيه الدّقة الفكريّة لأركون(3)
بعد تحليل الخلفيّات المعرفيّة وغير المعرفية لمحمد أركون، يمكن استنتاج أنّه سعى من خلال مشروعه الفكري إلى إعادة قراءة التّراث الإسلامي بأدوات منهجيّة نقديّة معاصرة.وتجسّد اهتمامه بالجمع بين المعرفة الغربيّة الحديثة والتّراث الإسلامي، رغبة في خلق حوار بين الحضارات وتجاوز الصِّدامات الفكريّة التَّقليديَّة. كان أركون يؤمن بتجاوز التَّفسيرات السَّطحيًّة والتَّقليديّة للنُّصوص الإسلاميّة، عبر توظيف مناهج متعدّدة التّخصُّصَات، ممّا يُمكّن المجتمعات الإسلاميّة من مواكبة التَّحدّيات المعاصرة وتحقيق التّقدّم الفكري والاجتماعي.
الهوامش
(1) كيحل(مصطفى)،الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون،دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى، 1432هـ/2011م، ص23ـ 24
(2) مجموعة من المؤلفين،محمد أركون دراسات النظريات ونقدها، العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، النجف، العراق، الطبعة الثانية، 1445ه/2023م، ص ص 14 ـ 20.
(3) مجموعة من المؤلفين،محمد أركون دراسات النظريات ونقدها، م.س،ص20
|