تطوير الذات
بقلم |
محمد أمين هبيري |
مبدأ التآخي |
المقدمة
نبذل جهودا لفهم مبدأ التّآخي، كما جاء في الآية الكريمة﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ...﴾(الحجرات: 10)، حتّى يتسنّى لنا تطبيقه في حياتنا اليوميّة، فهو مبدأ كوني ذو بعد تربوي يعتمد على الإيمان بالمساواة الأساسيّة بين جميع أفراد البشريّة، سواءً في الأصل والمنشأ أو في الحقوق والفرص. فعندما نتحدّث عن التّآخي، فإنّنا نشير إلى تلك الرّوح الإنسانيّة التي تجمعنا كأفراد في مجتمع واحد، وتعلّمنا أنّنا جميعًا متساوون أمام القانون وتبعا لذلك أمام اللّه، وألاّ يجب أن يكون هناك أيّ تمييز بين البشر بناءً على جنسهم أو لونهم أو ديانتهم أو أصلهم.
تتجلّى أهمّية التّآخي في عدّة جوانب حياتيّة، أهمّها العدالة الاجتماعيّة، حيث يعمل هذا المبدأ على تحقيق فرص متساوية للجميع دون أيّ تمييز أو تحيّز. ومن هذا المنطلق، يسهم التّآخي في بناء مجتمعات تسودها العدالة والمساواة، حيث يعيش أفرادها بسلام واستقرار.
بالإضافة إلى ذلك، يساهم التّآخي في تعزيز التّرابط الاجتماعي وتعزيز الرّوابط بين أفراد المجتمع، ممّا يؤدّي إلى نشر ثقافة السّلام والتّعاون. ومن خلال تعزيز التّرابط بين الأفراد، يتمكّن المجتمع من مواجهة التّحديات بشكل أفضل وتحقيق التّنمية والازدهار.
ومن المهمّ أيضًا التّأكيد على ضرورة التّآخي بين عموم البشر، فالتّعايش السّلمي والاحترام المتبادل بين مختلف الثّقافات والأعراق والأديان يمثّل أساساً لبناء عالم أفضل وأكثر استدامة. لذا، يجب علينا أن نعمل جميعاً على تعزيز روح التّآخي والتّعايش السّلمي في مجتمعاتنا، وأن نقف بحزم ضدّ أي تمييز أو تفرقة تهدّد وحدتنا كبشر.
باختصار، يعتبر التّآخي مبدأ كونيّا خلق اللّه سبحانه وتعالى كونه على النّفس الواحدة﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيبٗا﴾ (النساء:1) وهو ما يجب أن نسعى جميعًا لتكريسه في حياتنا اليوميّة، حيث يسهم في بناء مجتمعات عادلة وسلميّة ومزدهرة، تعمّ فيها السّعادة والرّخاء لجميع أفرادها بغضّ النّظر عن اختلافاتهم. كما تنتج من هذا المبدأ كونيّة الرّسالات السّماويّة وأعظمها الإسلام ما يعني أنّ التّعدّد الدّيني مقصود لغاية الاختلاف لتحقيق ما يتجاوز الواقع، خيالا، بآليّة التّسابق في الخيرات بين الأخوة البشريّة.
يمكن تقسيم البحث إلى جزئين؛ الأول نخصصه للحديث عن المبدأ في ذاته (العنصر الأول) والثاني عن المبدأ في موضوعه (العنصر الثّاني)
الجزء الأول: مبدأ التآخي في ذاته
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ أساس المبدأ (العنصر الأول) ومبرّرات المبدأ (العنصر الثاني)
العنصر الأول: أساس المبدأ
يُعتبر مفهوم التّقوى من القيم الأساسيّة التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بمبدأ التّآخي والوحدة البشريّة. فالتّقوى، وفقاً للتّعريف الشّرعي، هي اتباع الأوامر الإلهيّة واجتناب النّواهي، وهي قاعدة معياريّة للفضل والتّميز بين النّاس، وعموما فهي احترام الفطرة الإنسانيّة.
يتجلى ارتباط التّقوى بمبدأ التّآخي من خلال الفهم العميق للوحدة البشريّة مع التّأكيد على أنّ جميع البشر ينتمون إلى أصل واحد، وهو آدم وحواء، وهذا يعني أنّهم متساوون في الأصل والمنشأ. وفي ضوء هذا المبدأ، يجب على الإنسان أن يحترم الفطرة التي فطره اللّه عليها، وأن يعيش وفقاً للقيم الكونيّة المنتجة للفعل الإنساني.
وإذا كانت التّقوى هي المعيار الوحيد للفضل بين النّاس، فإنّ احترام الفطرة يعدّ جزءًا أساسيًا من تلك التّقوى. فالفطرة تشير إلى الحقيقة الإنسانيّة الأساسيّة والرّوحانيّة التي يحملها كلّ إنسان، وهي الفطرة التي جعلها اللّه سليمة وطاهرة. ومن هنا، يأتي دور التّقوى في تعزيز احترام هذه الفطرة، ومنع أي تحريف أو تشويه لها.
إذاً، يعتبر الاحترام الكامل للفطرة السّليمة من الأمور التي تحقّق التّقوى غاية مبدأ التّآخي. ويشمل ذلك احترام كلّ جانب من جوانب الإنسان، بما في ذلك الجسم والنّفس والرّوح، والسّعي لتحقيق توازن بينها جميعًا. ومن خلال هذا الاحترام والتّقوى، يتمّ تعزيز مفهوم التّآخي والوحدة البشريّة في المجتمعات الكيانيّة وتشجيع التّعاون والتّضامن بين أفرادها. بالتالي، يمكن القول إنّ التّقوى في الإسلام ليست مجرد قاعدة للفضل بين النّاس، بل هي أيضًا مبدأ يوجّهنا نحو احترام الفطرة السّليمة التي فطرنا اللّه عليها، والتي تؤكّد على الوحدة البشريّة وضرورة الاعتناء بجميع أبعاد الإنسانيّة بتوازن وعدل.
العنصر الثّاني: مبرّرات المبدأ
يعكس مبدأ التّآخي القيم الأساسيّة وتعكس رؤية العالم للعدالة والتّضامن الاجتماعي. فهذه المبرّرات تبرز الأسس الوجوديّة التي يقوم عليها مبدأ التّآخي، وتظهر أهمّية تطبيقها في بناء مجتمعات متماسكة ومزدهرة.
تبدأ المبرّرات بالعدالة الإلهيّة، حيث يؤمن الإنسان السّوي بأنّ اللّه خلق الجميع متساوين في الكرامة والحقوق. فبغض النّظر عن الجنسيّة أو العرق أو الدّيانة، يتمتّع جميع البشر بنفس القدر من الكرامة والحقوق التي يجب احترامها وتوفيرها لهم. هذا المفهوم يمثّل الأساس الرّئيسي لضرورة احترام التآخي والوحدة البشريّة. ثمّ تأتي مبرّرات التّكافل الاجتماعي، حيث يرى الإنسان الذي تزكّت فيه معاني الإنسانية أنّ التّآخي هو السّبيل لبناء كيان اجتماعي قويّ ومتماسك. فالتّعاون والتّضامن بين أفراد المجتمع يعزّز من قوّتهم ويساهم في تحقيق التّنمية والازدهار. وبالتّالي، يصبح التّآخي أساساً للتّعايش السّلمي والاستقرار الاجتماعي.
تعكس مبرّرات الرّحمة الإلهيّة أهمّية التّراحم والتّعاطف بين البشر، حيث يعتبر أنّ التّآخي يدعو إلى توجيه الرّحمة والمساعدة للآخرين في الحالات التي يحتاجون فيها. فالرّحمة والتّعاطف تعزّز من الترابط الاجتماعي وتعزز من مستوى السعادة والرفاهية في المجتمع.
وأخيراً، يبرز مبرّر التّعايش السّلمي أهمّية التّآخي في تحقيق الأمن والاستقرار في الكيانات. فعندما يسود التّآخي والتّعايش السّلمي بين أفراد الكيان الواحد، يقلّل ذلك من حدوث الصّراعات والتّوترات ، ويسهم في بناء بيئة آمنة ومستقرّة للكيان.
بهذه الطّريقة، تظهر المبرّرات المتعدّدة لمفهوم التّآخي أهمّيته وضرورته في بناء كيانات عادلة ومتماسكة، وتبرز القيم الإنسانيّة والدّينيّة التي يقوم عليها هذا المبدأ.
الجزء الثّاني: مبدأ التّآخي في موضوعه
يمكن تقسيم الجزء الثاني إلى عنصرين؛ نتائج المبدأ (العنصر الأول) وحدود المبدأ (العنصر الثاني)
العنصر الأول: نتائج المبدأ
تعكس نتائج مفهوم التّآخي الآثار الإيجابيّة التي يمكن أن يحقّقها هذا المفهوم على مجتمعاتنا وحياتنا اليوميّة. إذ يعتبر التّآخي الأساس لبناء مجتمعات قويّة ومتماسكة، حيث يؤدّي إلى تعزيز التّرابط الاجتماعي والتّضامن بين الأفراد. ونتيجة لذلك، تنعكس هذه القوّة في استقرار المجتمع وقدرته على التّصدّي للتّحدّيات والمشاكل بشكل فعال.
بالإضافة إلى ذلك، يضمن التّآخي للجميع حياة كريمة، حيث يسعى المجتمع لتوفير الفرص المتساوية لجميع أفراده، وضمان حقوقهم الأساسيّة بغضّ النّظر عن خلفياتهم أو ظروفهم الاجتماعيّة. ومن خلال توفير الحياة الكريمة للجميع، يسهم التّآخي في بناء مجتمع عادل ومتساوٍ. كما يُشجع التآخي على نشر السّعادة والوئام بين النّاس، حيث يعزّز التّعاون والتّضامن بين الأفراد ويقوّي العلاقات الاجتماعيّة الإيجابيّة. ونتيجة لذلك، يعيش أفراد المجتمع حياة مليئة بالسّعادة والرّضا، ويتمتّعون بالوئام والتّفاهم المتبادل.
في النّهاية، يمكن القول أنّ مفهوم التّآخي يعتبر أساسًا لبناء مجتمعات قويّة ومزدهرة، وتحقيق حياة كريمة ومليئة بالسّعادة والوئام لجميع أفراد المجتمع. ومن خلال التّفاعل الإيجابي والتّضامن، يمكن للتّآخي أن يحدث تأثيرات إيجابيّة على مختلف جوانب حياتنا ويساهم في بناء عالم أفضل وأكثر استقرارًا وتسامحًا.
العنصر الثّاني: حدود المبدأ
تعكس الضّوابط والقيم التي يجب أن يلتزم بها الأفراد والمجتمعات أثناء تطبيق هذا المبدأ، حيث لا ينبغي أن يؤدّي التّآخي إلى تجاوز الحدود الأخلاقيّة أو التّغاضي عن القوانين والقيم المجتمعيّة الأساسيّة. ومن هذا المنطلق، يتعيّن على الأفراد الالتزام بعدّة حدود أساسيّة:
أولاً، الالتزام بالقوانين والأخلاق، حيث لا يعني التّآخي تبرير الجرائم أو السّلوكيّات غير الأخلاقيّة بحجّة التّسامح والتّعايش. فالقانون يشكّل الأساس الذي يحدّد الحدود اللاّزمة للتّفاعل الاجتماعي، ويجب على الجميع احترامه والالتزام به، دون استثناء. وهو المؤطّر لهذا المبدأ ففي صورة وجود إخلال فإنّ القانون يعمل على التّوازن بين الموجود والمنشود.
ثانياً، احترام الاختلافات بين النّاس في الدّين والثّقافة والرّأي، حيث يعتبر التّآخي مفهوماً يقوم على قبول التّنوع والتّعدديّة واحترامهما. فالاختلافات هي جزء أساسي من الحياة الاجتماعيّة، ويجب أن يتعامل الأفراد معها بروح من الاحترام والتّسامح، دون أن يؤثّر ذلك على وحدتهم وتماسكهم كمجتمع.
وأخيراً، يجب الحفاظ على الهويّة الفرديّة والجماعيّة، حيث لا يعني التّآخي ذوبان الهويّات في بوتقة واحدة. فكلّ فرد ومجتمع لديهما هوياتهم الخاصّة وقيمهم الفردية، ويتعيّن على الجميع الاحتفاظ بهذه الهويّات والمساهمة في تعزيزها وتطويرها، دون أن يتعارض ذلك مع مفهوم التآخي والتعايش السّلمي.
بهذه الطّريقة، تتّضح حدود مفهوم التّآخي وتوضّح الضّوابط التي يجب أن يلتزم بها الأفراد والمجتمعات أثناء تطبيقه، من أجل ضمان الاحترام المتبادل والتّعايش السلمي في المجتمع. |