فقه المعاملات
بقلم |
الهادي بريك |
من فقه المعاملات المالية في الإسلام الحلقة 5 : هل من بديل عن الرّبا؟ |
أجنح مرّة أخرى إلى إحصاء بعض الخلاصات المهمّة حتّى لا ينسي الكلام أوّله آخره وحتّى تتبيّن مستويات التّشريع ودرجاتها التي كثيرا ما يخلط فيها أكثر النّاس. إذ يلوّنون الشّريعة ـ بل حتّى ما هو عليه الفقه العامّ للأمّة غابرا وحاضرا وليس محصورا بعدد محدّد من المذاهب أو الآراء والإجتهادات تعصّبا أو جهلا ـ بأهوائهم حتّى لو طابت الطّويات. إذ التّقوى هنا لا تكفي صلاحا ـ بله إصلاحا ـ حتّى تتعضّد بالعلم أو الحكمة. فلا يغني علم شرعيّ صحيح ما لم يقترن بموقف شرعيّ أصحّ.
من تلك الخلاصات : أمران شيّدت عليهما الشّريعة تحريمها لما نهت عنه من معاملات نهيا صحيحا صريحا وهما : «الظّلم البيّن أو القهر الواضح وما يغشى المعاملة من غرر». والمقصود بالغرر الفاحش الذي يكون بقصد وعمد، وليس الغرر الذي لا يتوقّى قياسا على رشاش البول كما قالوا. أمّا الظّلم البيّن فقد حدّدت الشّريعة بعض صوره الصّارخة من مثل الرّبا والإرتشاء والسّرقة وما إليها، وكلّ ما يمكن إدراجه تحت هذا العنوان المحرّم الأعظم طرّا (أكل أموال النّاس بالباطل). فما خفي من ذلك رهّبت فيه بعذاب يوم القيامة، حكما ديانيّا كما يقول الفقهاء. وأمّا الغرر فهو الذي تحته أكثر أنواع ربا الفضل. بل كلّها، أي كلّ ما نهي عنه وسائليا وليس مقاصديا. ومعلوم تجربة بين النّاس في معاملاتهم أنّ بعض الغرر لا يمكن توقّيه إلاّ بتنزيل قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾(البقرة: 237). العدل مضمون بتوقّي صور القهر المعروفة، والفضل لتوقّي آثار الغرر اليسير أن توغر بها الصّدور. ومن أسباب تقييد الغرر قدر الإستطاعة : تأمين التّقابض في السّلع والخدمات والأموال يدا بيدٍ كما قال ﷺ، وكذلك ضبط الموازين والمكاييل لتكون معلومة، وذلك في حديث (السّلم)(1). ونهيه كذلك ﷺ عن بيع المرء ما ليس عنده، والمقصود به ما لا يمكن توفيره للزّبون. ليست العندية عندية مادّية ملموسة، إنّما جاء النّهي حتّى يحذر النّاس غشّ إخوانهم. ومنهيات أخرى في هذا الغرض كثيرة ربّما نخصّص لها فقرات في حلقة قابلة إن شاء اللّه. والحقّ أنّ تشديد الشّريعة في نفي الغرر الكثير ليس مقصده قهر الطّرف الأضعف في المعاملة ماليّا فحسب، بل المقصد الأسنى من ذلك هو : تأمين صفّ واحد للنّاس والمسلمين عفوا من أسباب الكراهيّة والبغضاء التي لا تكون عادة سوى بسبب التّكاثر في الدّنيا. ولا تكون الثّمرة المرّة بعدئذ عدا تنازعات وتصارمات وإحترابات وصفّا مشلولا. ولذلك آل التّشريع في كتابة الدّين إلى عدم الكتابة إذا ﴿... أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا...﴾(البقرة: 283) وذلك بديلا عن أسباب التّأمين، وهي الكتابة والإشهاد والرّهن. ولكنّ هذا قليل في النّاس غابرا وحاضرا إذ ﴿أُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ...﴾(النساء: 128). ولذلك رخّصت الشّريعة ـ كما رأينا في أضراب كثيرة من البيوع ـ في كلّ ما أصله المنع ولكن إحتاج النّاس إليه وفي الآن نفسه ليس محرّما تحريما مقاصديا بانت مضاره (الرّبا والإرتشاء وكلّ صور أكل أموال النّاس بالباطل).
ومن ذا نجد الشّريعة جامعة بين الأمرين معا بسبب طبيعتها الوسطيّة : «تأمين كرامة النّاس»، فلا يقهر بعضهم بعضا. وعدم تعويق معاملاتهم التي يحتاجون إليها بإسم منع ذلك القهر نفسه. كلاهما مطلوب : التّعامل بكلّ صوره (حضور المثمون وغياب الثّمن أو حضور الثّمن وغياب المثمون) لأنّ ذلك في النّاس ضرورة وحاجة. وفي الآن نفسه منع الصّور الظّاهرة للقهر والظّلم إلاّ غررا يسيرا لا تخلو منه معاملة. فلا تتعطّل حركة المال الذي بحركته ينمو الإقتصاد ويتزكّى ولا يقهر القويّ الضّعيف في أثناء ذلك، حتّى البيوع التي ما أنشئت إلاّ لأجل توفير المال فيها خلاف معروف كما رأينا، التّورّق مثلا، بل العيّنة نفسها عند الشّافعيّة. وبيع آخر لم يسعفني الوقت للحديث عنه وهو قديم في تاريخنا إسمه (بيع الوفاء) وهو بيع شيء إلى أجل محدّد ثمّ إستعادته لأجل توفير المال السّائل. وقد أجيز في القديم وسمّي في الجديد رهنا، لأنّه لا يختلف عنه في شيء تقريبا. الغرض من هذا هو حرص طالب العلم كلّ حرص على عدم الخلط بين الأشياء والأمور والفرز بينها كلّ فرز وتعلّم فنّ التّكييف الفقهيّ أو تحقيق المناط، فلا يختلط آكل ربا بمؤكله المضطرّ، ولا نسيئة بفضل ولا قهر بغرر يسير، ولا مقدور عليه بمستعص متأبّ، ولا مختار مريد بمعسر، ولا صورة غابرة كان فيها التّقابض يدا بيد ممكنا بصورة حاضرة يكون فيها التّقابض (وهو وسيلة لتأمين الحقّ وليس مقصدا) إعتباريا فقط (معاملات الأنترنت مثلا)، ولا الجمود على الأنواع الستّة أو الثّمانية المذكورة في الحديث حتّى عندما تنشأ مواد غذائيّة أخرى هي أولى لتأمين الحياة. والتّمييز من باب أولى وأحرى بين معسر يتحرّى الحلال فيعمل على توفير مال سائل بدل التّرابي و(خاصّة تورّقا فرديا وبيع وفاء) وبين جشع يقهر النّاس.
ربّما أسهبت في هذا وأطنبت فيما حرّرت هنا وحرّرت هناك وما ذاك سوى تنبيه إلى أنّ الفقه ـ وليس مجرّد العلم ـ هو المطلوب، وأنّه لا فقه عدا بشروط منها : رعاية المناط أي العلّة، ورعاية المآل أي الصّيرورة، وليس الجمود على مشهد جاثم، ولا فقه كذلك عدا بما قاله سيّد الفقهاء الذي غدت كلمته مشكاة من نور. ما شرّقت ولا غرّبت إلاّ وجدتها أمامي في أسفار أهل الذّكر الماليّ : سفيان الثّوريّ : «إنّما الفقه رخصة من ثقة، أمّا التّشدّد فيحسنه كلّ أحد».
المصارف الإسلاميّة
من عوامل الفقه كذلك معرفة الزّمان والمكان والحال، ومن قبل ذلك معرفة مقاصد الشّريعة التي لم تأت مانعة فحسب محرّمة. بل ـ وهي تفعل ذلك ـ تفتح للنّاس ما لا مناص منه لحياتهم ومعيشتهم حتّى لو كان أصله ممنوعا، وخير مثال على ذلك بيع السّلم. وليس ذلك يعني إباحة المحرّم لذاته مقاصديّا.لا، أبدا ومطلقا. ومن مقاصدها كذلك تيسير التّعامل بين النّاس، وليس يعني ذلك تيسير أسباب القهر بعضهم لبعض. ولذا راعت الشّريعة نفسها ـ وليس الفقه ـ مراحل الإستثناء، وخاصّة عند التّحوّل من مرحلة إلى أخرى، من مرحلة الضّعف إلى القوّة، وكذلك في الإتّجاه المضادّ. وليس يعني ذلك إلغاء حاكميّة التّشريع، ولكن يعني ذلك رعاية التّدرّج في التّنزيل. والحقّ أنّ فقيه الأموال في الشّريعة بصفة خاصّة ـ فيما رأيت ـ هو الأولى بفقه الزّمان المكان والحال والعرف والمراحل الإنتقاليّة وغير ذلك. لأنّ المال هو ضامن القوّة. ولكنّه ضامن الجبلّة السّبعيّة في الإنسان كذلك. ومن ذا جاءت التّعليمات فيه كثيرة وصارمة وجليّة. البديل عن الرّبا ـ وليس هو عدا صورة واحدة من صور أكل أموال النّاس بالباطل ـ هما بديلان : بديل قيميّ أخلاقيّ. وهو الفضل والإحسان والإنفاق وإقراض اللّه قرضا حسنا. هذا معلوم، ولكن ليس هنا مجال الإنبساط فيه لأنّه ترغيب في الأعمّ الأغلب إلاّ قليلا. والبديل الآخر هو : إنشاء المناخ العامّ الذي يضمر فيه الرّبا ومختلف صور أكل أموال النّاس بالباطل شيئا فشيئا. لا شيء عدا المناخ يصنع الحلال والأمم والنّهضات.
التّعليمات وحدها مهما عظمت وخلصت فهي (نظريّة) تفتقر إلى تنزيل، ولا تنزيل يصمد عدا بجماعة وأمّة، ولا أمّة تصمد عدا بمؤسّسات. وقبل ذلك محاضن تزكية وتربية وتعليم وأسواق إقتصادية حقيقية (ولذلك لم يتردّد الفاروق في تنصيب الشّفّاء أمينة على السّوق المركزيّ بعاصمة الخلافة. أي المدينة). من شروط الفقه كذلـك : الوعي، وليس مجرّد العلم فحسب. الوعي بمجموعة قيم منها أنّ الأمّة ما سَهُل افتراسها من المصارف الرّبويّة الجشعة الدّوليّة عدا من بعد تخضيد شوكتها قيميّا وماليّا وانتزاع سيادتها. لا شيء ـ بعد العقائد ـ مثل المال يجعل من أيّ مجموعة بشريّة ـ حتّى لو كانت كافرة ملحدة ـ أمّة تتأبّى عن الإفتراس. ولا وعي طرّا لمن ساقه (فقهه) إلى إجتراح معالجات فرديّة لمشكلات فرديّة ثمّ احتبس أن يجترج للأمّة مثل ذلك. وهذا هو شأن أكثر المفتين، وهو قصور شائن.
ومن ذا جاءت تجربة المصارف الإسلاميّة محاولة على الطّريق الصّحيح لإستعادة العافية الماليّة للأمّة والتّحرّر من أسر المصارف الدّوليّة الرّبويّة التي جعلت من كلّ مسلم فوق الأرض مدينا لها حتّى يموت، بل حتّى يموت خلف خلفه. التّاريخ علّمنا أنّ الإحتلال العسكريّ ثمرة خبيثة لإحتلال ماليّ. الحالة التّونسيّة مثلا مع فرنسا. تلك هي سياسة الغرب : سياسة ماليّة تنهب الخيرات ثمّ تصنّعها ثمّ تفرض لها فينا أسواقا لتبيعها إيّانا مكرهين وبفوائد مغلّظة ولتكون بديلا عمّا سمّاه الإقتصاديّون المعاصرون: المجالات الصنّاعيّة إنتاجا أو تحويلا. وأبقت أسواقنا للمجال الهشّ : القطاع الثّالث، أي الإستهلاك والسّياحة.
طعون ضدّ تلك المصارف
المطعن الوحيد ـ تقريبا ـ الذي يجعل النّاس ينفرون من المصارف الإسلاميّة أو ينفّرون عنها هو أنّ عمولاتها في نهاية المعاملة مقارنة مع المصارف الرّبويّة عالية. هذا صحيح قطعا لا ينفى. أنا أدافع عن التّجربة، وليس عن المصارف ذاتها أو عن أهلها أو عمولاتها المرتفعة. أمّا التّشكيك في شرعيّة معاملاتها فلا أظنّ أنّه كلام يؤبه له، ذلك أنّه ـ حتّى بمنطق المنافسة لمن لا يفقه في تعليمات الشّريعة ماليّا ـ فإنّه لا يقوم مصرف في الأرض يضفي على نفسه الصّفة الإسلاميّة حتّى يكون مسلّحا بهيئة شرعيّة. ذلك أنّ مجال التّنافس بينها هو بمثل التّنافس بين المصارف الرّبويّة. فلا يغامر مصرف بإضفاء الصّفة المحبّبة عند كلّ المسلمين (وهم ثلث العالم تقريبا) إلاّ وهو محميّ بلجنة شرعيّة. كلّ تشكيك هنا هو قرف مقروف ووهم موهوم، بل ربّما صُنّاعه أعداء من حيث لا نشعر. ولكنّ الرّأي عندي مبناه مؤسّسات منها : علينا تشجيع المصارف الإسلاميّة أينما وجدت. ليس لأجلها هي، ولكن لأجل المساهمة في الحرب المستعرة الرّاكضة ضدّ الحلال والمغرية بالحرام. تلك هي معركة الوعاة من هذه الأمّة ممّن فقه أنّ دينه ملحمة تحريريّة عظمى لا ينطفئ لها أوار حتّى يحاصر الخير الشّر، والفضيلة الرّذيلة، والحقّ الباطل، والحرية الإكراه. هي معركة واحدة ولكنّ مساحاتها واسعة : المقاومة في الحقل الماليّ بالمصارف الإسلاميّة ليست أقلّ شأنا من المقاومة في الحقل العسكريّ كما تفعل اليوم قوى المقاومة حول القدس الشّريف. ولا هي أدنى من المقاومة السّياسيّة التي لأجلها تغصّ السّجون العربيّة بالأحرار. العدوّ لا يحاربنا بالدّبابة فحسب بل قبل ذلك بالمال، وفي أثناء ذلك بالقيم التي أسماها كونيّة.
مهما قلت عن مساوئ المصارف الإسلاميّة فهي خطوة في الإتّجاه الصّحيح تحرّرا من جشع البنك الدّوليّ. الملحمة قائمة مذ قال قائلهم لنبيّهم شعيب ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾(هود: 87). وهي متواصلة لا تفتر. وربّما تكون من أسباب إرتفاع عمولات المصارف الإسلاميّة عدم قدرتها على المنافسة في السّوق الماليّة الرّبويّة في كلّ شبر من الأرض، وربّما كذلك لجشع في بعض مسيّيريها، وربّما لنقص في الخبرات ذاتها في متسوى إدارة مشاريع المضاربة وغيرها. وربّما كلّ ذلك وأسباب أخرى. كلّ ذلك ممكن، ولكن لا نعدمها لأجل ذلك. لأنّ المأمول منها جائزتان كبريان : الجائرة الأولى هي أنّه بقدر توسّع نفوذها يتقهقر نفوذ ضرّاتها. ولكنّ هذا بحساب القرون والعقود الطّويلة، وليس بحساب الأجيال والسّنوات. والجائرة الثّانية هي صون العرض من وابل الرّبا والمعاملات المحرّمة قدر الإمكان، سيما أنّ المسلم يؤمن بقيمة البركة بالضّرورة. ورغم ذلك تظلّ حالات خاصّة استثنائيّة لا مناص لها من تعامل مع المصارف الرّبويّة ضرورة وحاجة، وليس إختيارا. هذا مفهوم.
تلازم المعالجات وتوازي المسارات
لم يكن القهر يوما مقصورا على عدوّنا ولا حتّى على الدّولة العربية الموالية لعدوّنا. لا. أيسر شيء هو تعليق الهزائم على مشاجب الآخر، وهو خلاف السنّة القرآنيّة العظمى: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾(سورة آل عمران: 165). التوسّط ينبئك بأنّ إلتقاء الشّرين هو الحالقة : شرّ المؤامرة وشرّ صفّ مصروم. سوف لن أنفكّ معتقدا أنّه ما كان للمصارف الدّوليّة الجشعة نهب ثرواتنا ولا تأبيد حال التخلّف علينا وجعل أيدينا هي السّفلى دوما لو لم يكن فينا شره مثل ذلك الشّره وجشع مثل ذلك الجشع. العمق الشّعبيّ في كلّ بلاد عربية وإسلامية كفيل ـ كمّا ونوعا معا وعلما وقدرة كذلك ـ بصناعة مناخات روحيّة وعمليّة متأبّية عن ذلك الصّلف الدّوليّ. رساميلنا الدّينيّة ومثلها الماليّة ذاتها لو فعّلت في الإتّجاه الصّحيح لصمدت كلّ صمود في وجه كلّ مصارف الأرض الرّبويّة. ولكنّا توجّهنا في الأعمّ الأغلب إلى المعالجات الفرديّة بدل الجماعيّة، فتسنّى للعدوّ إنشاب مخالبه المسمومة فينا بذلك القانون الصّحيح (فرّق تسد). ومازال الأمر بيدنا ممكنا لو توحّدت صفوفنا على ما فينا من نكبات وأزمات. لو توطّدت ثقتنا في أنفسنا فتكافلنا على مشروعات مجتمعيّة صغرى وكبرى (إستثماريّة وخدميّة). ولو أعدنا تفعيل أعظم رأسمال أهداه إلينا الدّين وهو (الأوقاف والأحباس) ذلك المعلم الكفيل بصون أمّة جمعاء قاطبة وتأمينها من الجوع والخوف معا. والحقّ أنّ خصمنا الذي يسجن الأحرار وينفيهم ويكمّم أفواهم هو خصم ذكيّ فقه مناطق قوّتنا و(قنابلنا) التي تحرسنا وتقصم ظهره لو فجّرناها (قيم الدّين ووحدة الصّف) ولا نحتاج لغيرها مطلقا. ولذلك سعى إلى تجميدها وتمييعها وهدمها. فنحن الآن في العراء العاري (أيتاما على موائد اللّئام). ومن ذلك جنحنا إلى المعالجات الفردية. وكان السّؤال الذي لا يغيب عن شفتين حول الرّبا. وكانت الأجوبة قاصرة مبلغ علمها فرض الإستكانة وليس إنشاء التّحرّر. لو نهدى إلى تكافل ـ ولو نسبيّ ـ في المجال الزّراعيّ فحسب فإنّ ذلك يفتح لنا ما فتح اللّه به على غيرنا من روّاد المجال الصّناعيّ والعسكريّ. ما من مادّة خام لصناعة في أيّ قطاع مدنيّ أو عسكريّ إلاّ وهي في باطن أرضنا، ولكن إخترنا الجوع. فلمّا جعنا فرض علينا الخوف.
بكلمة واحدة : مشكلتنا ليست ماليّة ولا اقتصاديّة بالمعنى الشّعبويّ المتداول. مشكلتنا قيميّة فحسب. مشكلتنا لا عنوان لها عدا هذا العنوان : «فقر في قيم التّحرّر وفقر في قيم التّعاون والتّكافل». ما ساد عدوّنا عدا بعد أن فرّقنا. البديل عن الرّبا هو دعم تجربة المصارف الإسلاميّة ورصّ صفّنا تكافلا وتضامنا في العمق الشّعبيّ. وعندها تفلس المصارف الرّبويّة وليس بإمكان دولة عربيّة إرغام النّاس على اقتراف الحرام لو صمّمنا على الحلال. وبمثل ذلك للمصارف الدّولية.
الهوامش
(1) لمّا قدم رسول الله ﷺ المدينة والناس يسلفون في التمر السنتين والثلاث، قال: «من أسلف في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» - البخاري 2096.
|