تمتمات
بقلم |
رفيق الشاهد |
سأكون سعيدًا جدًا عندما تغرب الشمس |
“I’ll Be So Glad When the Sun Goes Down”
«سأكون سعيدًا جدًا عندما تغرب الشّمس»، هذا مطلع أغنية من «البلووز» مشهورة يغنّيها السّود في أمريكا.
أرأيتم؟ مدى معاناة الشّعوب المضطهدة؟ لمّا يستبشر النّاس العاديّون بطلوع الشّمس، ينتظر آخرون ساعة الخلاص في غروبها!.
أغنية جميلة جدّا جمعت بين مشاعر اليأس والأمل. ورغم أنّها أغنية قديمة تعبّر عن معاناة العبيد السّود والمساجين في أمريكا، مازال ألقها ساطعا ووقعها مؤثّرا طالما تحت أشعة الشّمس تستباح الكرامة البشريّة حتّى الاستحياء، ولا أمل إلاّ في التّستّر بظلام اللّيل من هذا العري المخجل.
أرأيتم؟ كم يخدم الفنّ الشّعبي قضايا الشّعوب؟ وهل رأيتم شيئا بقي من الفنّ غير ما يبقي في الوادي من حجر؟ فعلا لم يبق من تراث الشّعوب المضطهدة إلاّ ما وُثِّق من مآسيها، فكان عنصرا فاعلا في التّغيير وشاهدا من شواهد التّاريخ على حجم الظّلم ووحشيّة الإنسان تجاه أخيه الإنسان.
في ربوع تونس لم يبق من الفنون ما يستحق تصنيف «تراثا شعبيّا» إلاّ «الزندالي» المعروف بترنيمات المحنة والفتوّة، ولا تصدر نغمته إلاّ من آلة المزود، بعد أن نفض عنه الفاضل الجزيري الغبار في عرض «النوبة» في سنوات التّسعينات، ممّا جعل هذا النّمط من الفنّ مستساغا في المجتمع التّونسي ومقبولا من كلّ فئاته، بعد أن ظلّ لعقود مهمّشاً لا تعترف به وزارة الثّقافة ولا النّخب التي تصنّفه دونيّاً. وربّما كان لديهم ما يبرّر ذلك.
هذا «الزّندالي» الذي يمثّل أغاني السّجون للتّعبير عمّا يختلج بصدور السّجناء المعروفين بالبانديّة والزّوفريّة -بالمفهوم المتعارف عليه والسّائد- من شوق للأمّ والأهل أو الحبيبة، وقد ترمز كلّها إلى تونس الوطن الأم، ما فتئ يؤثّث الأفراح ولا يغيب عن حفلات الأعراس والمناسبات التّرفيهيّة والمهرجانات الصيفيّة، ترافقه في ذلك رقصة «الرّبوخ» وما تلمّح إليه من معاني العشق والوله الشّديد بالحبيبة بعيدة المنال من هذه الفئة التي تعيش على هامش المجتمع، هل حمل «الزّندالي» حقيقة معاناة الشّعب حتىّ يستحق الارتقاء إلى رتبة الفنّ الشّعبي لتونس؟ هل يمثّل «الزّندالي» ورقصة «الفزّاني» التي ترافقه هذه المرّة للتّعبير عن معاناة العامل أو «الزّوفري» المشتقّة من الكلمة الفرنسيّة ««Ouvrier» المتداولة عهد الاستعمار، شكلا من أشكال إحياء الذّاكرة الوطنيّة أو نبذة من مسيرة مقاومة شعب لحكّامه، أو صورة من صور المجازر والتّخريب التي في كلّ مرّة يُسلّطها على أهله الغزاةُ الطّامعون في هذه البلد الطّيب؟
يبدو أنّ الأدب التّونسي، وإن وثّق معاناة شعبه، لم يوفّق في جعله تراثه، وكأنّ الشّعب عاش في رفاهيّة أو أنّ الشّعراء أبوا إلاّ التّغنّي بالشّهامة والشّجاعة التي ميّزت العديد من الشّخصيّات التّاريخيّة وبعض الفلاّقة ومقاومي الاستعمار. بل التفت عدد من الأدباء إلى توثيق ما فعله الحاكم وتمجيده، فغرف التّراث من سيلهم.
ألم يحن الوقت لدمقرطة الفنون بما يسمح للكلاسيكيّة منها والشّعبيّة بأنواعها أن تتنافس دون تصادم، فيصبح الفنّ الشّعبي إلى جانب الفنون الأخرى فسيفساء ثريّة تستكشفها الأجيال القادمة علامة من علامات الحقيقة ضالّة كلّ مثقف.
إن لم يكن للتّوانسة ولشعوب دول عربيّة أخرى معاناة ولا بؤس ولا شقاء لتأثيث فنّ شعبي يستجيب لتطلّعاتهم ويشرّف تراثهم، فلا بأس من اقتباس بعض ما يحصل في فلسطين وفي غزّة بصفة استثنائيّة.
|