بحوث
بقلم |
د.علي رابحي |
الأصول المنهجيّة المؤسّسة للمشاريع الإصلاحيّة الإسلاميّة حفريّات في المقاربة الرّوحيّة التّربويّة |
من شدّة وطأة الصّدمة الحضاريّة القويّة، التي أوقدتها شرارة الانبهار بتقدّم الغرب، استيقظ الفكر الإسلامي من سباته العميق، فكان البدء، وكان أول الفعل حديثا عن سبيل خروج الأمّة من وضعيّة الانتظار واللّحاق بركب المدنيّة الحديثة، فتعالت الأصوات، ونصبت المنابر، وتشكّلت التّيارات، فتأسَّس الفكر الإصلاحيّ على سؤال مركزي هو: «لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟» [الذي استعاره الأمير شكيب أرسلان عنوانا لواحد من كتبه]؛ وهو سؤال النّهضة الذي انطلقت منه كافّة المدارس والمذاهب الإصلاحيّة على تعدّدها وتنوّعها واختلاف اختياراتها وتوجّهاتها.
يرى الشّيخ الطّاهر بن عاشور أنّ: «أزمة المسلمين تكمن في تفريطهم في أخلاقهم الدّينيّة، لأنّ الأزمة روحيّة بالأساس»(1). وهذا التشخيص يتقاطع مع مقدمات أغلب مشاريع رواد الإصلاح والتجديد ودعاة النهضة من حيث بواعث الإصلاح، حيث تكاد تجمع الرؤى والتصورات على أنّ واقع تأخر المسلمين، والفوات الحضاري التاريخي الذي تعاني منه المجتمعات العربيّة-الإسلاميّة مرده الأصلي غياب المقومات الإسلامية الأصيلة، واستبداد المؤسسات العتيقة.
بعد التّعبير عن الوعي بالتخلُّف وضرورة الانفتاح على الآخر، كان نقد العلل الفاعلة والمؤسِّسة لواقع الانحطاط وتفكيكها، ثمّ كان رفض الجمود والتّقليد، وفُتح باب الاجتهاد، وقراءة التّراث قراءة جديدة تستجيب لحاجات العصر الحديث، مع الحفاظ على الهويّة الإسلاميّة وإثبات وجودها الحضاري، والدّعوة إلى الاستفادة من كلّ نافع ومفيد.
يذهب العلاّمة علاّل الفاسي إلى أنّ: «الإصلاح لا يكون مجزيا إن اقتصر على إحياء التّراث دون الالتفات إلى الواقع الجديد ودون أن يحدّد صيغة للاقتباس والمزاوجة»(2)، وهو بذلك يسير على نهج الإمام محمد عبده، الذي يقول: «لو رزق اللّه المسلمين حاكما يعرف دينه ويأخذهم بأحكامه لرأيتهم قد نهضوا والقرآن في إحدى اليديْن، وما قرَّره الأوّلون وما اكتشف الآخرون في اليد الأخرى، ذلك لآخرتهم وهذا لدنياهم يُزاحمون الأوربيّين فيزحمونهم»(3).
لذلك تنطلق هذه الورقة من مقاربة تعتبر الرّكيزة الرّوحيّة التّربويّة لازمة من لوازم المشاريع الإصلاحيّة التّجديديّة، وذلك عبر استجلاء الأسس الرّوحيّة التّربوية في مشاريع الإصلاح والتّجديد ونهضة المسلمين، وبيان دورها وقيمتها في عمليّة التّصحيح والتّجاوز لمواجهة تحدّيات العصر، والخروج من طور الانحطاط والتّخلّف إلى معترك المدنيّة الحديثة، واستئناف الشّهود الحضاري وصناعة التّاريخ.
1 - فصل المقال في الصّلاح والإصلاح.
1-1. ملاحظ عن الصّلاح والإصلاح من الهدى المنهاجي في القرآن.
أطراف الإصلاح متعدّدة، تبدأ بالفرد الصّالح المصلح، لتلامس الجماعة الصّالحة المصلحة، فما الصّلاح؟ وما الإصلاح؟ ومن هو الصّالح؟ ومن هو المصلح؟ وما الصّلة بينهما؟
من صفات المسلم «الصّالح» أنّه صحيح العلاقة بينه وبين الله، وبينه وبين ذاته، وبينه وبين المجتمع وأفراده. وهذه الصّفات نجد أكثرها في قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 177).
أما المسلم «المصلح»، فهو الذي يسعى إلى إصلاح صلته بربه، وبذاته، وبالناس، وإصلاح صلة النّاس بربهم وصلة الأفراد بأنفسهم، وإصلاح المجتمع بعضه ببعض.
يقول الله تعالى:
*﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ...﴾ (الأنعام: 48)،
*﴿...فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأعراف: 35)،
*﴿...مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (الأنعام: 54)،
*﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ...﴾ (النساء: 146)،
*﴿...فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ..﴾ (الشورى: 40)،
*﴿... أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ...﴾ (البقرة: 224)،
*﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ (الأعراف 170)،
*﴿...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..﴾ (الرعد: 11).
فكلّ مسلم «مصلح» إلاّ وبداخله رصيد من «الصّلاح». والتّلازم بين الصّلاح والإصلاح، مفاده أنّ المصلح صالح في ذاته مصلح لغيره، والصّلاح وسيلة وغاية للإصلاح.
إنّ رسالة الإصلاح، مهمّة الأنبياء ووظيفة الرّسل، تحت شعار واحد جاء في القرآن على لسان شعيب عليه السّلام: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾، (هود: 88).
وقد ادعى فِرْعَوْنُ الإصلاح حين قال: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾(غافر:26).
كما ادعاه المنافقون بالباطل حيث أخبر القرآن عنهم، بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ (البقرة:11).
لكنّ اللّه العليم الحكيم يجعل الصّلاح في القرآن مقابلا للفساد، والمصلح مقابلا للمفسد، فردا كان أو جماعة، بقوله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ (البقرة:220).
يطلق وصف المفسد ويراد به كلّ من عمل عملاً فيه فساد وإفساد للنّاس في شؤون معاشهم أو معادهم. وقد ورد في القرآن على لسان الأنبياء والرّسل في كثير من المواقف، منها:
* قول صالح وشعيب وموسى لقومهم: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾،( الأعراف: 74) (هود: 85) (البقرة : 60)،
* وقول شعيب لقومه: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 85)،
* وقال صالح لقومه: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾(الشعراء: 151-152)،
* وكذلك موسى: ﴿...وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: 142)،
* وقال قوم قارون ناصحين له:﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77).
ومن استقراء سير الأنبياء والرّسل في أكثر من موضع من الوحي الخالد نستبين بأنّ بوادر الإصلاح تبدأ بالدّعوة إلى الصّلاح، ومنها دعوات إبراهيم عليه السّلام:
*﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (الصافات: 100)،
* ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾( الشعراء: 83)،
* ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ (الأنبياء: 72).
1-2. وقفات مع الصلاح والإصلاح على خطى الرّسول المعلّم.
المتأمّل في السّيرة النّبويّة يدرك تنوّع المواقف والنّصوص الحديثيّة واستخدام مادّة الصّلح والإصلاح فيها. على سبيل الاستئناس، نذكر منها ما يلي:
قال رسول اللّه ﷺ: «إذا أراد اللّه بعبد خيرا استعمله، فقيل: كيف يستعمله يا رسول اللّه؟ قال: يوفّقه لعمل صالح قبل الموت»(4). وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما، قال رسول اللّه ﷺ: «إنّ الهدي الصّالح، والسّمت الصّالح، والاقتصاد، جزء من خمس وعشرين جزءا من النّبوّة»(5).
وعن أبي هريرة أنّ الرّسول ﷺ قال: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء»(6). وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، قال، قال رسول اللّه ﷺ: «ماذا للغرباء؟ فقيل من الغرباء يا رسول اللّه؟ قال: أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممّن يطيعهم» (7). وقال رسول الله ﷺ: «يذهب الصّالحون الأوّل فالأوّل، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التّمر، لا يباليهم اللّه بالة»(8).
وعن النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللّه ﷺ يقول: «إنّ الحلال بيّن، وإنّ الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من النّاس، فمن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام كالرّاعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا وإنّ حمى اللّه محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب»(9). وعن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: «قال اللّه تعالى: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(10).
2 - نظرات في الأسس الرّوحيّة المؤسّسة
لمشاريع الإصلاح والتّجديد ونهضة المسلمين.
هناك جملة من القيم، تكتسي أولويّة بحكم الواقع المجتمعي، تتظافر مجتمعة وتكون منظومة قيميّة قابلة للتّنفيذ، تؤطّر الأسس الرّوحيّة المؤسّسة لمشاريع الإصلاح والتّجديد ونهضة المسلمين، ويمكن تحديد معالمها الكلّية في المحاور الآتية:
- إعطاء أهمّية أكبر للتّربية على القيم الإنسانيّة،
- إيلاء القيم الإسلاميّة الأهمّية التي تستحقّها، وتنزيلها في واقع النّاس المعيش،
- تحرّي قيم الإسلام في الوسطيّة والاعتدال، بالاستناد إلى يسر التّشريع الإسلامي،
- ترسيخ قيم الإسلام في التّسامح والتّعايش مع مختلف الحضارات والثّقافات الإنسانيّة.
وهذه القيم استمدّت شرعيّة النّفاذ من مشروعيّتها الدّينيّة من الكتاب والسّنة. واستدعت تنمية ومزيد اهتمام بالقيم الآتية:
- قيمة العبادة: وهي قيمة دينيّة، مفادها توثيق العلاقة باللّه تعالى لتأمين سلامة المسير وسداده في الحياتين العاجلة نحو الآجلة.
- قيمة المعاملة: وهي قيمة دنيويّة، تبتغي العدل والإنصاف وتنظيم العلاقة بين الإنسان والإنسان الموافق والمخالف، وبين الإنسان والمجال المحيط به بكلّ مكوناته البيئيّة والعمرانيّة.
- مع التّأكيد على ضرورة التّمسّك بالقيمة الدّينيّة والقيمة الدّنيويّة بلا تفاضل ليتحقّق التّديّن المتوازن.
- قيمة التكافل: وهي قيمة إنسانيّة، تتطلّب الاحترام الطّوعي للقوانين الضّابطة للسّلوك الاجتماعي، واستحضار أنّ العمل التّطوّعي سنّة من سنن الشّارع في نطاق أداء الواجب الكفائي.
- قيمة الانتماء للجماعة: وهي الانصهار في الجماعة والانضباط لها والعمل من أجل رقيّها، والدّفاع عن مصالحها، ومنها الأسرة والوطن والأمّة.
2-1. دور التّصحيح العقدي في عمليّة الاصلاح والتّجاوز لمواجهة تحديات العصر.
الإحياء الرّوحي أسمى السّبل لانبعاث الأمّة من جديد، ولن يتأتّى ذلك إلاّ بالتّصحيح العقدي، واسترجاع العقيدة دورها الأصيل، وتفعيله في ترشيد عمليّة الإصلاح والتّجاوز لمواجهة تحدّيات العصر، وإنجاز العمل الصّالح المؤسّس للصّحوة الحقيقيّة والنّهضة الإسلاميّة المنشودة. لذلك نجد أنّ القرآن الكريم يؤكّد على أهمّية البناء الرّوحي للمصلحين بشكل خاصّ، ويربط بين صلاح التّديّن وإصلاح المجتمع، يقول اللّه سبحانه وتعالى:
* ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(التوبة:112).
* ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح:29).
* ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ*وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ*وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ*وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (هود:112-115).
ويقول عبد المجيد النجار: «كان تحمّل المسلمين لعقيدتهم في عهودهم الأولى تحمّلا إيمانيّا استوفى من شروط الدّفع للتّظهير الحضاري في الواقع ما كانت به محقّقة لتلك الحضارة الإسلاميّة المشهودة، ولكن بعد فترة من الزّمن أصاب الأمّة الإسلاميّة في تحمّلها لعقيدتها ضروب من الخلل كانت عاملاً حاسماً في انحسارها الحضاري سواء تمثّل ذلك الخلل فيما آل إليه الأمر من قصور في مفهوم العقيدة، أو انحراف في تصوّرها، أو سطحيّة في كيفيّة تحمّلها بالتّصديق بحيث لم تعد فاعلة في الفكر، ولا في العمل»(11). وهو بذلك يوافق علماء الأمّة الذين لا يحصرون مفهوم العقيدة الإسلاميّة في التّصديق القلبي بها، ويعتبرون ذلك جزءا من الإيمان بها فحسب، والشّطر الثّاني من ذلك المفهوم هو ما يحدثه الإيمان بالعقيدة من أثر شامل في حياة الإنسان الفكريّة والعمليّة، وتلك هي القيمة الفارقة بين العقيدة الإسلاميّة وسائر العقائد الأخرى. وقد رتّب عبد المجيد النجار العقيدة على أربعة درجات، هي:
* ترشيد فهم العقيدة، وذلك بتصوّرها على حقيقتها كما ورد بها الوحي.
* التّصديق بحقيقة العقيدة سواء في نسبتها إلى مصدرها، أو قيمتها الذّاتية في تأسيس الخير والصلاح.
* اعتبار العقيدة موجّهة للتّدبّر وضامنة لاستقامة الفكر.
* اعتماد العقيدة دافعة للإرادة للانطلاق في العمل والإنجاز.
ويرى بأنّ كلّ واحدة من هذه الدّرجات في تحمّل الأمّة لعقيدتها اليوم خلل يستوجب الإصلاح لتعود العقيدة عامل نهضة حضاريّة كما كان عند إنشاء التّحضّر الإسلامي في دورته الأولى.
2-2. دور الأسس الرّوحيّة للخروج من طور الانحطاط والتّخلّف إلى معترك المدنيّة الحديثة
انبعاث الأمّة وارتقاءها الاجتماعي بمرجعيّة الإسلام قرآنا وسنّة من منابعه الصّافية، يظلّ أعزّ ما يطلب. وكلّ محاولة للخروج من طور الانحطاط والتّخلّف إلى معترك المدنيّة الحديثة، تحتّم بالضّرورة استدعاء كلّ الأطراف الفاعلة في المجال العام. ولعلّ الجانب الرّوحي كفاعل اجتماعي، أهمّ دعامة لتحقيق التّنمية المستديمة. فأيّ مقاربة في طلب الإصلاح الشّامل إذا غيّبت التّرقي الرّوحي، وخلت من البعد الإيماني، لا توافق الصّلاح ولا تحقّق الإصلاح.
لملامسة هذه الحقيقة، لا بدّ من وقفة عند التّزكية الرّوحيّة باعتبارها عمادا تجاوز لحظة الانبهار والصّدمة الحضاريّة، وأيضا الإصلاح العقدي باعتباره رافدا من روافد إرساء الإصلاح الشّامل.
إنّ المواءمة بين التّربية الرّوحيّة والتّنمية البشريّة، وربط التّرقية الرّوحيّة والتّكوين العلمي بالعمل الصّالح، وتثبيت الإيمان والمعرفة بالتّنزيل الجادّ، منافذ كفيلة برفع الغبش الذي ران بالمجتمعات المسلمة، وضمانة لتحصين الفرد والمجتمع من الرّباعي الذي ينخر الأمّة، المتمثّل في الخوف والجهل والفقر والفرقة، ومن نزوعات الجمود والانغلاق والتّطرّف والانفتاح غير الرّاشد. وهي ممهّدات لإعادة تأهيل المسلم للدّخول من جديد إلى صناعة التّاريخ، واسترجاع خيريّة الأمّة وشهوديتها على النّاس.
الإصلاح العقدي أعظم خدمة يمكن تقديمها للمسلم، لأنّ في صلاح عقيدة المسلمين إصلاح للحياة العامّة، وفسادها فساد للمجتمع.
إنّ عمليّة الإصلاح العقدي تهدف إعادةَ بناء الشّخصيّة الإسلاميّة، بمعزل عن الدّين المغشوش وإسلام السّوق. وهي تتطلّب:
* تجاوز الخلط بين الوحي وبين الاجتهادات كمصدر،
* إعادة النّظر في التّباين الصّارخ في تعامل المسلم مع العبادات في مقابل المعاملات.
يقول محمد أسد: «نحن لا نحتاج إلى فرض إصلاح على الإسلام، كما يظنّ بعض المسلمين، لأنّ الإسلام كامل بنفسه من قبل، أمّا الذي نحتاج إليه فعلاً فإنّما هو إصلاح موقفنا من الدّين، بمعالجة كسلنا وغرورنا وقصر نظرنا، وبكلمة واحدة معالجة مساوِئنا نحن لا المساوئ المزعومة في الإسلام، ولكي نصل إلى إحياء إسلامي، فإنّنا لا نحتاج إلى إن نبحث عن مبادئ جديدة في السّلوك نأتي بها من الخارج، إنّنا نحتاج فقط إلى أن نرجع إلى تلك المبادئ المهجورة فنطبّقها من جديد»(12).
ويرى أنّ تحمّل العقيدة يكون على درجات(13):
أوّلها، الفهم، وذلك بتصوّر العقيدة على حقيقتها كما جاء بها الوحي.
وثانيها، التّصديق بحقيقتها، سواء في نسبتها إلى مصدرها، أو قيمتها الذّاتية في تأسيس الخير والصّلاح.
وثالثها، صيرورتها موجّها للفكر في كلّ ما يتوجّه إليه بالبحث.
ورابعها، صيرورتها الدّافعة للإرادة كي تنطلق في العمل والإنجاز.
الهوامش
(1) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، صفحة:73
(2) علال الفاسي، النقد الذاتي، ص:37
(3) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: ج3/صفحة251-252
(4) أخرجه الترمذي والبغوي في شرح السنة.
(5) رواه أبو داوود وأحمد بسند حسن وصححه الألباني.
(6) رواه مسلم، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وفيه زيادة: «ومن الغرباء؟ قال: الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس». وللترمذي من حديث كثير بن عبد الله: «طوبى للغرباء الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي».
(7) رواه احمد والطبراني.
(8) رواه البخاري.
(9) رواه البخاري ومسلم.
(10) رواه البخاري ومسلم.
(11) عبد المجيد النجار»دور الإصلاح العقدي في الاستنهاض الحضـاري»، بحث مقدّم إلى مؤتمر» الإصلاح: مسارات ومآلات ما بعد الحراك العربي، وجدة-المغرب 16 ـ 17 ديسمبر 2016
(12) محمد أسد، «على مفترق الطرق»
(13) عبد المجيد النجار، «دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية»، مجلة إسلامية المعرفة في عددها الأول
|