دفاعا عن العربية
بقلم |
فؤاد بوعلي |
حرب على العروبة أم على الانتماء المشترك؟ |
خرج الفنّان المغربي «نعمان لحلو» بتصريح شاذّ وغريب عن مسيرته الفنّية، وإن كان مسايرا فيه موجة تغيير البوصلة الهوياتيّة التي تتفاعل في المنطقة، حين قال في مقابلة مع أحد المواقع الإلكترونيّة المحلّية بأنّه ضدّ العروبة(1)، وأنّ المغاربة لا علاقة لهم بالمشرق. وهذا القول وإن بدا في ظاهره عفويّا، خاصّة بعد الانتقادات التي طالته في مواقع التّواصل الاجتماعي وطالت نقده للفنّانين المشارقة مثل «محمد عبد الوهاب»، فإنّه عدّ جزءا من مسار طويل لقطع المغرب عن عمقه العربي الإسلامي واعتقاله في حدوده المكانيّة، مع ما يفرضه ذلك من ضرورة بناء أسطورة الذّات المتميّزة والمزايلة، وإسقاط المتخيّل الجماعي على الفضاء والمكان. فمنذ أن رُفِع شعار «تازة قبل غزّة» للدّلالة على الاهتمام بالجماعة القُطريّة دون القضايا القوميّة، والآلة الدّعائيّة والأكاديميّة تشتغل من أجل إثبات الخصوصيّة الثّقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة، وحتّى العقديّة، للجماعة المغربيّة. فالمغرب في هذه السّرديّة جماعة مستقلّة منذ الأزل لها مقوماتها الذّاتيّة التي صنعت وجودها ولا تدين بشيء للمشرق، بل حتّى وسم العربي الذي أطلق سابقا على المنطقة المغربيّة أزيل من أدبيّات المرحلة منذ دستور 2011، وبدأ الحفر في عناصر المزايلة والتّميّز التّاريخيّين، دون أن يمنع هذا المعطى البحث عن انتماءات بديلة في الجنوب أو الشّمال أو حتّى في الشّرق البعيد. فالهويّة الخاصّة أو «تمغربيت» لا تستنطق إلاّ عبر مواجهة النّموذج المشرقي في كلّ مظاهر الحضارة. وقد منحتها التّغيّرات الاستراتيجيّة التي تعتمل في المنطقة أدوات للتّوظيف، وغدا البحث عن التّميّز في اللّباس والمأكل والعمران واللّسان، وخوض المعارك من أجل إثبات ذلك مؤسّساتيّا وحتّى قانونيّا، من أولويّات سياسة الدّولة، إن لم تكن كلّ سياستها، إلى درجة أن يصبح ترسيم انتماء حجر أو لباس معيّن إلى مجال جغرافي إنجازا تاريخيّا وانتصارا سياسيّا مشهودا.
والبادي أنّ بناء سرديّة جديدة ومغايرة للنّموذج «العروبي» ليس خاصّا بالحالة المغربيّة، فقد ظهرت العديد من الحركات والتّوجّهات السّياسيّة والثّقافيّة في العالم العربي تنافح عن التّمثّل القطري للانتماء وتناوئ المشترك الحضاري تحت يافطات متماثلة المقصد وإن تغيّرت العناوين: «تونس أوّلا»، «لبنان أوّلا»، «الكويت أوّلا»، «مصر أوّلا».... وفي أحيان كثيرة تكون الدّولة هي المشرفة علانيّة على ترسيخ هذا الخيار كما حدث في الأردن حين أطلق مفهوم «الأردن أوّلا»، «من أجل تعزيز أسس الدّولة وترسيخ روح الانتماء بين المواطنين، حيث يعمل الجميع كشركاء في بناء وتطوير الأردن». وفي مختلف التّجارب تسطع بين الفينة والأخرى دعوات إلى تغليب مصلحة الوطن على غيرها من المصالح، ومواجهة الخصوم الحقيقيّين أو المفترضين، دون أن يعني ذلك النّهوض بروح المواطنة كقيمة دستوريّة وقانونيّة، حيث تحصر المواطنة في الواجبات دون الحقوق. والغريب أنّ هذا المسار ينتعش - إعلاميّا على الأقل - حين تنفجر الأحداث في المنطقة، كما حدث إبّان أحداث الرّبيع العربي، وتصاعد التّعاطف الوجداني مع الشّعوب العربيّة، كما يحدث في أحداث فلسطين أو اليمن أو غيرها. والذي يؤكّد ذلك هو الارتباط الدّائم لهذه السّرديّة بالتّيار المناهض لأحلام الدّيمقراطيّة التي تصاحب الحركات الاحتجاجيّة عموما، وتبعث الرّباط الوجداني بين أبناء الأمّة العربيّة الإسلاميّة. فإذا كان التّأسيس النّظري، وحتّى الرّسمي أحيانا، للقطريّة السّياسيّة والثّقافيّة قد بدأ منذ عقود، وقد نجد له أصولا في الأدبيّات الاستعماريّة التي أسّست وجودها على فصل المستعمَر عن جذوره، فإنّ أحداث الرّبيع العربي قد أثبتت بأنّ العمق المشترك هو الكفيل بضمان الدّيمقراطيّة والتّنمية لجميع أبناء المنطقة. لذا بدأ الرّهان على اجتثاته وبناء البدائل الانتمائيّة. وهو ما عبر عنه الفنان المصري والعالمي «عمرو واكد» وهو يتحدّث عن الأصوات المماثلة في الحالة المصريّة التي لا تختلف عن باقي الحالات العربيّة، بأنّها «جزء من أجندات صهيونيّة غايتها خلق مجموعات ملعوب في أساسها وولائها تدّعي أنّ مصر لا علاقة لها بالعروبة والإسلام وأنّها فرعونيّة».
إذ من الطّبيعي الإيمان بالانتماء إلى الوطن باعتباره الفضاء الثّقافي لتمثّل الجماعة المتخيّلة في أذهان النّاس، فالوطن ليس مجرّد إقليم وتراب وحدود بل هو فضاء تخيّلي مفهومي، وأساس لبناء العيش المشترك كما ورد في الأدبيّات السّوسيولوجيّة، لكن هذا الفضاء المفهومي والاجتماعي له العديد من عناصر الارتكاز التي لا يمكن القفز عليها أهمّها التّاريخ المشترك والعمق الحضاري الذي لا يمكن إسقاط النّموذج الحديث للدّولة عليه. ولو بحثنا في تراثنا المعاصر لوجدنا مؤسّسي الدّولة الوطنيّة، وهم يضعون النّموذج الوطني، ينَظِّرون للتّميّز المغربي في مقاومة النّموذج الاستعماري القائم على فصل المغرب عن أصوله العربيّة والإسلاميّة. لذا كان حديثهم عن الشّخصيّة المغربيّة جزءا من النّضال لبناء الوطن وليس لهدم ثوابته. فالاعتزاز بالنّبوغ المغربي وقدرة الذّات الوطنيّة على التّميّز لم يكن وسيلة لقطع الأواصر مع العمق الهوياتي العربي والإسلامي، ولا للتّخلي عن مبادئ الانتماء العقديّة المشتركة، ولا لمحاولة صناعة هويّات بديلة. فعندما ثار «عبد اللّه كنون»(2) ضدّ التّهميش الثّقافي للإبداع المغربي، وأثبت نبوغ المغاربة في شتّى فصول القول وتلاوينه، كانت غايته الانتصار لمساهمتهم في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وهو ما استوعبته سلطات الحماية التي منعت تداول كتاب النّبوغ المغربي مستشعرة أهمّيته في بعث روح المقاومة. كما أنّ إقرار «علال الفاسي» بالإنسيّة المغربيّة التي تشكّلت عبر مراحل التّاريخ المختلفة تعود إلى أزمنة غابرة لا ينافي الارتباط بالانتماء الإسلامي باعتبارها أوج التّشكّل للشّخصيّة المغربيّة. ودفاع الجابري عن عقلانيّة المغرب لا يعني الانسلاخ من انتمائه للأمّة بكلّ تفاصيلها ومشاكلها.
إنّ محاولة بناء سرديّة التّميّز القطري والخصوصيّة، والمغالاة في توظيفها عبر مفاهيم مغلوطة هي محاولة للقفز على التّمايزات الحقيقيّة، اجتماعيّا وسياسيّا، لخلق مفاصلات مفهوميّة جديدة: «إنَّها بذلك تُؤسِّسُ لِكيانٍ جديدٍ لا يَكتَرِثُ فِي الغالبِ لِلشَّرْطِ الحياتيِّ كمَا يُمكنُ أنْ يُعَاش حقيقةً ضِمْن بِنياتٍ اِجْتماعيَّةٍ قَائِمةٍ على تبايناتٍ في المالِ والجاهِ والحُظوةِ والسّلطةِ والنّافعِ من الوطنِ وغيرِ النّافعِ»(3) كما قال سعيد بنكراد. قد يبدو المفهوم في أحسن التّفسيرات والتّأويلات محاولة لتحصين الجماعة الوطنيّة ضدّ تآكل الدّول القطريّة بعد أحداث المنطقة، حيث أصبح النّقاش المحوري للفاعلين ليس نقاش تنمية ودمقرطة وإنّما نقاش وجود الدّولة في حدّ ذاتها، لكن القراءة الحقيقيّة للخصوصيّة هي التي تستحضرها في علاقتها بالكلّ الحضاري وليس باعتقالها داخل المكان والحدود واستثمارها في تنمية الوطن والاستجابة لتطلّعات المواطنين. والأحداث المتتالية سياسيّا واجتماعيّا، وحتّى رياضيّا، تثبت أنّ الوحدة الهوياتيّة والوجدانيّة قائمة بالرّغم من محاولات الحصار والآراء العرضيّة لبعض الأصوات من هنا وهناك. إنّه القدر المشترك.
الهوامش
(1) للاطلاع على الحوار : https://www.youtube.com/watch?v=Logy1uGH2oQ
(2) عبد الله بن عبد الصمد كنون الحسني الشهير عبدالله كنون (ولد 30 شعبان 1326 هـ/1908 م وتوفي 9 جويلية 1989م) كان فقيها، وكاتبا، ومؤرخا، وشاعرا، وأكاديميا وصحافيا مغربيا، وأمينًا عامًا سابقًا لرابطة علماء المغرب وأحد الرواد الكبار في إرساء قواعد النهضة الأدبية والثقافية والعلمية في المغرب، منذ منتصف العشرينيّات إلى أن توفاه الأجل.
(3) سعيد بنكراد، تَـمَغْربيتْ، 5 ماي 2024، موقع مدار 21... https://madar21.com/239869.html
|