مواقف وآراء

بقلم
يسري بوعوينة
شباب تونس بين الحرقان و الحرق

 شهدت بلادنا منذ مدّة حدثين مأساويين،الأول غرق قارب كان يقل مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين و الثاني مقتل أربع محتجّين أمام السفارة الأمريكية.  من الوهلة الأولى لا يبدو أن هناك رابطا بين الحادثين سوى الموت الذي يتربص بشبابنا بحرا و برا ولكن إذا ألقينا نظرة مليّة سنجـــــد أن النقطة المشتركــــة بينهما إلى جانب الموت هي الشباب.

لعلّنا نسجّل في البداية المفارقة الجوهرية التي نجد فيها أنفسنـا. ففي الحادثة الأولى لدينا شباب غامر بحياته ليصل للضفة الشماليّة غير مكترث بالأهوال و المخاطر فكان أن قضى نحبه في أعماق البحار. أما في الحادثة الثانية، فنحن أمام شباب لم يعُد يخشى الهراوات البوليسية و لا السجون و لا يبدو مكترثـــــا بالمعاهـــدات والمواثيق الدبلوماسية و لا حتى بهيبة الدولة التي يعيش في كنفها. فراح يهاجم سفارة الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية بثّ فيلم مسيء للرّسول فكان أن قتل أربعة من المحتجيـــــن وجرح أكثـــر من سبعين آخرين.
بين شباب لم يعد يرى غير الهجـــــرة إلى الغــــــرب  سبيلا للنجاح وشباب يتوق إلى محاربة نفس هذا الغرب ويعتبره ألدّ أعداءه، نجد أنفسنا أمام النتيجة ذاتها وهي الموت لزهرات شبابنا وسواء أكان غرقا أو رميا بالرّصاص أو الاختناق فإنه لأمر مؤسف و مخجل أن يتواصل هذا النزيف و مؤسف و مخجل أكثر أننا لم نسارع إلى حدّ الآن إلى رصد المشكلة و محاولة الفهم لعلنا نجد حلولا تجنّب عائلاتنا و مجتمعنا مثل هذه المآسي.
لأكون صادقا مع نفسي، أنا شخصيا فكرت في الهجرة بل إنني عشت أشهرا طويلة بجسد في الوطن و روح ترفرف خارجه و كما يقول يوسف زيدان :"إن الملايين ممن ينـــــوون الهجرة يكونون قد هاجروا نفسيا لحظة تقديم الطلب و هجروا الوطن على المستوى الشعوري و يظل حالهم على هذا حتى ولو ظلوا سنوات ينتظرون الإشارة بالرحيل. فتكون النتيجة أننا نعيش في بلد فيه الملاييـــــن من المهاجرين  بالنية أو الذين رحلوا من هنا بأرواحهم ولا تزال أبدانهم تتحرك هنا وسط الجموع كأنها أبدان موتى".. أنا لم أفكر في الهجرة السرية وهذا صحيح ، ليس خوفا من ترسانة القوانين التي وضعها المشرّع التونسي و لكن لأمر بسيط وهو أني لا أجيد السباحة كما أنني أكره السفر ليلا ولولا ذلك لامتطيت أول قارب رافعا الشعار الخالد "روما و لا إنتوما" .
لقد أشارت دراسة حكومية نشرت سنـــــــة 2009 أن 30 بالمائة من تلاميذ المدارس يحلمون بالهجرة إلى الغرب و هناك قرابـــــة 15 ألف طالب يدرسون الآن في فرنسا وحدها 95 بالمائة منهـــــم لن يعودوا لتونس و يدرس 12 بالمائة منهم في أرقى الجامعات الفرنسية. حسب تقديري الشخصي فنحن هنا أمام مشكلتين عويصتين، أولهما حلم الهجرة الذي يسيطر على العقول الناشئة فالجميع يحلم بالهجرة لأوروبا التي تفيض مالا ولبنا وعسلا وخمرا والمشكلة الثانية هي هجرة العقول التي ننفق على تكوينها أموالا طائلة من الميزانية العامة. إن أي طرح لموضوع الهجـــــرة يجب أن يأخذ في حسبانه الهجرة السريّة التي تشمل التسلل عبر الحدود خلسة و تخص فئة العاطلين والمهمّشين والفقراء والهجرة السريّة "الفخمة" التي يمتطي فيها نوابغ تونس الطائرات أمام مرأى ومسمع الجميع بتعلـــّة مواصلة الدراسة في الخارج لكن أغلبهـــــم لا يعود إلى أرض الوطن و يخيّر الاستقرار و العمل في بلاد المهجر فيحصد الغرب  هناك ثمار ما نزرعه نحن هنا. 
إلى حدّ الآن لم أر أي محاولة جدية لمعالجة هذه المشكلة سوى بعض الدراسات الأكاديمية التي تناثرت هنا و هناك. أما المجتمع المدني، فغائب تماما عن الساحة أما الحكومة فهي تكتفي بالجانب الأمني و الجزائي من خلال تعصير طرق و وسائل مراقبة الحدود وتشديد العقوبات وهي لوحدها أساليب غير كافية لردع شباب مستعد لدفع حياته ثمنا للوصول للفردوس الغربي وفي مقابلهم شباب مستعد لبذل أرواحهم في معركتهم ضد ما يرونه هم "الجحيم الغربي".
الفيلم المسيء للرسول كان الفرصة التي تنتظرها التيارات السلفية المتشددة للقيام بشحن أنصارها ضد الغرب عامة و الولايات المتحدة الأمريكية خاصة فكان أن دعوا لمظاهرات مليونية حاشدة أمام سفارة الولايات المتحدة الأمريكية نصرة للرسول الأعظم وتحولت المسيرة الاحتجاجية إلى مواجهات مع رجال الشرطــــــة أسفرت عن مقتل أربع من المحتجين و إصابة أكثر من سبعين آخرين. الشباب التونسي الذي مات في طريقه إلى أوروبا هو نفسه الشباب التونسي الذي يأتي اليوم غاضبا لحرق السفارة الأمريكية وهذه مفارقة عجيبة تكشف لنا جوهر الصراع الذي يعيشه شبابنا الحالم بالهجرة والرخاء والثراء و في نفس الوقت الجهاد ضد الغرب الذي يعتبرونه أكبر عدو للإسلام ومنبعا يفيض حقدا وإستغلالا وعنصرية.
شخصيا أرى أن ردة الفعل تجاه هذا الفيلم كانت مسيئة لصورة الإسلام أكثر من الفيلم في حد ذاته وهو أصلا فيلم هواة و رديء شكلا و مضمونا و ليس سوى تجسيدا لما يوجد في بعض كتب المستشرقين من اتهامات و افتراءات على شخص محمد صلى الله عليه و سلم  ولا أدري هل سيثور السلفيّون ضد هذه الكتب أيضــــا أم أنها ستنجو بجلدها لأن الكتاب فقد مكانته وبريقه. ففي عصر الصورة، خسرت الحروف أمام الكاميـــــرا ثم إن أغلب السلفييــــن لا يطالعون أصلا فما بالك بالتنقيب في كتب المستشرقين؟
لا أدري لماذا يتظاهر الناس أمام سفارات الولايــــات المتحـــــدة التي لا تمتلك وزارة ثقافة لتحدّد التوجهات الكبرى للسياسة الثقافية الأمريكية التي يحكمها " دعه يبدع دعه يمرّ" و بالتالي فمن التجني أن توجّه السهام نحو هذا البلد بأسره و كان يمكن الإكتفاء بالقيام بدعوى قضائية ضد منتج و مخرج الفيلم و تنتهي القصــــة إلا أن كل هذه الضجة التي أثيرت حوله جعلت العالم كله يستدير باحثا عن هذا الفيلم و مخرجه الفاشل الذي تحوّل إلى نجم تماما مثل سلمان رشدي الكاتب الفاشل الذي لم ينل شهرته سوى بكتاب "آيات شيطانية" الذي جعل إسمه يذكر في عالم السياسة أكثر من عالم الأدب. لقد استغربت كثيرا من ردة فعل بعض الشبـــاب التونسي الذي يمرّ في شوارع العاصمة وغيرها فيسمع بتجاهل عبارات سب الجلالة المنتشرة بشكل رهيب ولا يحرك ساكنا ولكنه من أجل فيلم لم يشاهده أصلا (وهو لا يستحق المشاهدة حقيقة) ينتفض فيحرق ويكسّر ويضرب ويعتدي ويشتم وكأن قدر المسلمين أن تكون احتجاجاتهم دائما صاخبة وتنتهي بالقتل والحرق والتدمير، فيظهروا أمام العالم كوحوش ضارية و ليس كأناس متحضرين.
إن ما حدث أمام مقر السفارة الأمريكية، يكشف عن العداء الكبير للولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي بأســـــره وعن رغبـــة في التقوقع و الانعزال وعن الانعدام التام للوعي بمعنى حرية التعبير و التظاهر السلمي و عن استعداد للموت في سبيل الانتصار لما يراه البعض "حقا" وإن بدا لأكثر النـــــــــاس غير ذلـــــــك وهذا هو التعصب الأعمى الذي يدفع إلى التقاتل أحيانا من أجل سفاسف الأمور.
كان يمكن الاقتصار على رسالة احتجاج تقدم للسفير الأمريكـــــــي أو القيام بحملة دعوية و توزيع القرآن و فيلم "الرسالة" التاريخي ( الذي لسخرية الأقدار قتل مخرجه العقاد على أيدي تنظيم القاعدة) أو غير ذلك من الأنشطة، ولكن السلفيين اختاروا الطريق الوعر والدرب الأصعب... الطريق التي لم يسلكوها حينما ثارت ثائرة العالم الإسلامي على الصحيفة الدانمركية التي نشرت رسوما كاريكاتورية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم سنة 2005، فيومها خاف السلفيون من النظام الديكتاتــــــــوري أكثــــر من خوفهم من الله على ما يبدو.
إن فتح ملف الشباب في تونس بصورة جدية و حكيمة قضية عاجلة لا يجب أن تتحول إلى مجال لتراشق الاتهامات بين الحكومــــــــــة و المعارضة. إن شباب تونس هم مستقبل تونس و نحن نراه الآن يضيع بين الموت غرقا وفقرا  أو الموت قتلا وحرقا وجهلا.