نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
فاعلية الحُبّ تتجلى في الصفح
 الحُبّ المؤطّر بإطار أخلاقي معلِّم يهب الإنسان قدرةً استثنائيّة لمنح مَن يحبّه الحقّ في الاختلاف، والحقّ في الخطأ، والحقّ بالاعتراف بالخطأ، والحقّ بالاعتذار. الحُبّ يمكن أن يكون طاقة توليديّة تزوّد الإنسان بما يغتسل به قلبه ويتطهّر من الكراهيّة، ويتحرّر من دوافع الانتقام والثّأر. عندما يملأ الحُبّ قلب الإنسان، فإنّه يُعيد تشكيل نظرته للعالم، ويعيد بناء علاقاته بالآخرين، ويجعله أكثر دفئًا وعطفًا ورقّة ورحمة، وتصير شخصيّته منبعًا للصّفح. هذا التّغيير ينبع من طبيعة الحُبّ بوصفه عاطفة فعّالة تحفّز على العطاء والغفران، بدلاً من التّشبّث بالأحقاد والإحن والضّغائن. 
معادلة الحُبّ والرّحمة والصّفح ثلاثيّة العناصر، الصّلة بين عناصرها جدليّة تفاعليّة تكامليّة. تبتني هذه المعادلة على أصل هو الحُبّ تنبثق عنه الرّحمة، وفي الوقت نفسه تعود الرّحمة لتحتضن الحُبّ وتعيد توليده وتكريسه، ويتألّف من اتحادهما الصّفح، ليعود الصّفح مجدّدًا وهو العنصر الثّالث في المعادلة ليحتضن التّوليفة المنصهر فيها الحُبّ والرّحمة، ليحتضن هذا المتّحد من العنصرين ويتكامل معه في مركب واحد، فتحدث توليفة واحدة من الحُبّ والرّحمة والصّفح، وهي تجلّيات متنوّعة لحقيقة واحدة، وكأنّها ثلاثة روافد تغذّي نهرًا واحدًا، تمتزج مياهها معًا لتصير مياهًا واحدة، بذلك تتجلّى فاعليّة الحُبّ والرّحمة بإنتاج الصّفح. بهذه المناسبة أودّ أن أشير إلى أنّ الذين تشبّعوا بالمنطق الأرسطي والفلسفة في تراثنا ربّما يسارعون للقول بأنّ هذا يلزم منه الدّور، إلاّ أنّ الدّور لا معنى له هنا على وفق الجدل الهيغلي.
  بعض الفلاسفة تناولوا الحُبّ بوصفه قادرًا على تطهير الذّات من مرارات الكراهيّة، وإطفاء شعلة الانتقام. نظرة هؤلاء الفلاسفة للحُبّ تختلف تبعا لفلسفاتهم، غير أنّ ما يجمعهم هو الاتفاق على أنّ الحُبّ قوّة متسامية تحرّر الإنسان من عنف الأحقاد والضّغائن. الحُبّ يمنح الإنسان ثقة هائلة بذاته، وبقدرته على إخماد ما يؤجّج الغضب في نفسه، وبعث السّلام الدّاخلي الذي يمكّنه من التّغلّب على انفعالاته الحادّة. الحُبّ طاقة إيجابيّة فعّالة، تعمل على تفكيك دوافع الانتقام عبر تحرير الإنسان من العبء النّفسي للغضب، وإطفاء نار الكراهيّة، ومنحه القدرة على التّسامي والاستغناء عن الاقتصاص بالعفو، والابتعاد عن التّشفّي بما يصيب الغير من نكبات. 
الحُبّ لا يجعل الإنسان ضعيفًا، بل يجعله قويًّا بما يكفي، ليتحكّم بما يغرقه من انفعالات متّقدة، قد تزجّه في الفتك بمَن يؤذيه. الحُبّ يجعل الإنسان يتنبّه إلى ما تتركه هذه الانفعالات من آثار مريرة على سلامه الدّاخلي، عندما ترتدّ إليه لاحقًا فتعذّب ضميره. الحُبّ قوّة تطهر قلب الإنسان من سموم الكراهيّة، الحُبّ يكفل تحقيق التّوازن في الشّخصيّة بين العاطفة والعقل والرّوح، ويعمل الحُبّ بفاعليّة على إحداث الانسجام العميق بين الفرد والآخر، وبين الإنسان وعالمه. الحُبّ طاقة تغذّي الأخلاق والمعرفة والتّنوّع الدّيني والإثني والثّقافي. الحُبّ يحرّر الذات من شعورها بوحشة الوجود، وبغربتها في العالم الذي يعيش فيه الإنسان. بالحُبّ يتكشف جمال الوجود في تجليّاته المتنوّعة، وتسود علاقات تبتني على الاحترام المتبادَل مع المختلِف في المعتقَد، بدلًا من نبذه، أو التّسلّط والهيمنة عليه. الحُبّ ينقذ مشاعر الإنسان من دوافع الانتقام، ويجعله قادرًا على الصّفح عن كلِّ من أساء إليه، والبداية من جديد، حتّى لو لم تندمل الجروح التي أحدثها المعتدي في داخله. 
  كثيرٌ من الاعتداءات وانتهاكات القيم والقانون تحدث بدوافع الانتقام والثّأر، وأحيانًا يقود ذلك إلى سلسلة مريعة من عمليّات العدوان تطال أبرياء لم يرتكبوا أيّ عدوان أو جريمة بحقّ أي إنسان،كما يحدث في مسلسل عمليّات الثّأر لدى القبائل أمس واليوم. حرب البسوس القديمة مثلًا تواصلت 40 سنة(1)، وعكست سلسلة مواقف ثأريّة مقيتة. قتلَ فيها جساسُ بن مرة كليبًا بن ربيعة، بسبب ناقة امرأة تُدعى البسوس بنت منقذ التّميميّة،كانت لديها ناقة ترعى في أرض كليب بن ربيعة زعيم قبيلة تغلب، وكليب كان يرى كلّ ما يرعى في أرضه من حيوانات تجاوزًا عليه، فأمر بقتل النّاقة. غضب ابن أخ البسوس جساس بن مرة، الذي رأى في قتل النّاقة إهانة لأهله، فقتل كليبًا ثأرًا لقتل ناقة عمّته. المهلهل بن ربيعة انبرى لأخذ ثأر قتل أخيه كليب، واستمرت الحرب بين القبيلتين 40 سنة، وكانت كما يقال من أطول الحروب بين القبائل العربيّة. المؤسف في بلادنا أنّ حروب الثّأر مازالت تسفك فيها دماء بريئة في مسلسل أعمال قتل انتقاميّة عبثيّة بين القبائل. الانتقام فعل يعمل باتجاهين متعاكسين، فمثلما يفتك بالضّحيّة أولًا، يفتك بالمُنتقِم أيضًا، وإن تأخّر الفتك الثّاني. 
 لغة السّلام والتّراحم والمحبّة والتّعايش السّلمي في فضاء التّنوّع والاختلاف ضرورة لحماية التّنوّع الإثني والدّيني والمذهبي في المجتمع، وتحريره من ترسّبات العنف الكبيرة المختزنة في اللاّشعور الجمعي والفردي. بسبب الحروب المريرة في بلادنا منذ أكثر من خمسين سنة، ‏وتسخير الإعلام المرئي والمسموع والثّقافة والأدب والفنّ والمنابر الدّينيّة للتّعبئة لهذه الحروب، تفشّت شحنة عنف عالية في لغتنا وأصواتنا وحتّى في تعبيرات أجسادنا، ‏بحيث صار التّعبير عن الجمال أحيانا بكلمات غريبة، يقال مثلًا في توصيف ما هو جميل: «رهيب»، «كارثة»، «يقتل»، وأمثال ذلك. تحرير اللّغة وهكذا أصواتها ولغة الأجساد من شحنة العنف يحرّر الفضاء العام من العنف، وذلك يتطلّب إعادة بناء اللّغة وطرائق التّعليم في مقرّرات مدارس التّعليم الأساسي، ابتداء من الرّوضة، وكلّ مقرّرات التّربية والتّعليم، واستبعاد الكلمات العنيفة والصّور التي ترسم مشاهد دامية. وينبغي أن يواكب ذلك المزيد من توكيد مقرّرات التّربية والتّعليم على قيمة الحقّ في الاختلاف، والحقّ في الخطأ، والحقّ بالاعتراف بالخطأ، والحقّ بالاعتذار، وتهذيب أداء وسائل الإعلام السّمعي والبصري، وتطبيقات وسائل التّواصل، والثّقافة، وحتّى المخاطبات الإداريّة والشّعارات المتبنّاة في مكاتبات الحكومة.
 الشّخصيات المتعجّلة في ردود الأفعال العدوانيّة مزعجة جدًا، غير أنّ الإنسان يتعلّم من هذه الشّخصيّات أشياء لا يتعلّمها من الشّخصيّات المهذّبة. الشّخصيّات المهذّبة تشعرك بالأمن والدّفء والحنان والمحبّة. الشّخصيّة العدوانيّة تستفز كلَّ شيء فيك، عندما يُستفَز الإنسان يكون قادرًا على اكتشاف ذاته وإنقاذها، وتتطوّر مهاراته في التّعامل مع أصعب البشر. أخطر ما يقوض الحُبّ ردود الأفعال العدوانيّة المتعجّلة، ‏وظيفة الحُبّ تحرير الإنسان وتطهير قلبه من الانفعال العدواني والانتقام والتّشفّي.
الصفح ممكن، لكن النسيان صعبٌ للغاية، وأحيانًا يتعذّر تمامًا، خاصةً إذا كانت الانتهاكات والجروح التي تركها المعتدي عنيفة. الصّفح غير النّسيان، النّسيان لا إرادي، الصّفح قرار يتّخذه الإنسان.كلُّ جرح عميق وشم للذّاكرة لن يموت أو يُنسى، الصّفح يعني امتلاك القدرة على تجاوز الأثر الذي تحدثه الإساءة، والتّحرّر من دائرة ردّ الفعل التي يلبث الإنسان في الغالب أسيرها وعيًا وسلوكًا. إلاّ أنّ خلاصًا كهذا لا يمحو ذاكرة الإنسان، ولا يقوم على محو الأثر الذي لا يمحى. إنّ ذاكرة كهذه تحمي الإنسان من الشّرّ الأخلاقي، فحين تنعدم تُفقِد الإنسان القدرة على التّمييز، وتُعجِزه عن بناء الوعي اللاّزم للعيش في المجتمع. أن أعرف النّاس شيء، وأن أصفح عنهم شيء آخر. الصّفح ليس سهلًا، وإن كان ضرورة للعيش المشترَك، لأنّه صوت غفران. الصّفح أصعب من الثّأر، لأنّ ما ليس من نوع الفعل أصعب ممّا هو من نوعه. الصّفح فعل أخلاقي يتحرّر من سطوة الغضب وتغلبه على إرادة الإنسان. الثّأر ردّ فعل من نوع الفعل، لكن الثأر بالقدر الذي يفرغ غضب الإنسان يمثل تحديًا لقدرته على التّسامي الأخلاقي والنّجاح في تجاوز الأحقاد والضغائن.
لا يظفر الإنسان بالسّلام الدّاخلي والقدرة على الصّفح ما لم تتحقّق ذاته بالمحبّة والرّحمة، لو تسامى الإنسان يستطيع أن يعفو عن الإنسان الذي يؤذيه ويطعنه من الخلف، بل يمكنه أن يُحسن إليه ويكرمه، إلى الحدّ الذي يخجله في خاتمة المطاف، وربّما يُقبِل على مَن يصفح عنه بمحبّة. الصّفح عن الصّديق الذي مارس الغدر معك أشقّ على النّفس من الصّفح عن العدو. يتفوّق الإنسان بقدرته على التّعامل الأخلاقي النّبيل، وقدرته على العفو والغفران. الإنسان الذي يستطيع أن يغفر ما أمكنه ذلك، يحمي سلامه الدّاخلي، ويحمي الإنسان الذي يؤذيه من ردود أفعاله الانتقاميّة. الغفران تجربة للعيش تطهّر روح مَن يدرّب نفسه على ممارستها، في كلّ مرّة يمارسها يتذوّق ثمرتها المطهّرة للرّوح من الضّغينة والانتقام. ممارسة الغفران ضرورة لحماية أواصر العلاقات الإنسانيّة داخل العائلة والمجتمع، وتنمية روافد المحبّة والتّراحم. حتّى لو تعلّم على الغفران والصّفح، يظلّ يتألم الإنسان ممّن يؤذيه، غير أنّ هذا الأذى يكون مؤقّتًا، لأنّه يستطيع أن يعفو عنه بعد مدّة ليست طويلة، لئلاّ يتصدّع سلامه الدّاخلي، ولئلاّ يمسّ غيره سوء من غضبه.
الهوامش
(1) يرى مؤرخون أن هذه الحرب حدثت قبل ظهور الإسلام، في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، بين سنوات 494م و534م تقريبًا.