الإنسان والكون
بقلم |
![]() |
د.نبيل غربال |
مفهوما الليّل والنّهار في القرآن (11) محو آية الليل ج 1 |
مقدمة
سننهي سلسلة هذ المقالات بمبحث يتعلّق بالآية 12 من سورة الاسراء: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾. سنبيّن في هذا المبحث أنّ هذه الآية والآية 29 من سورة النّازعات التي يخبرنا اللّه فيها بأنّه أغطش ليل سماء الأرض-بمعنى الغلاف الغازي-وأخرج ضحاها(1) تتناولان نفس الحدث الطّبيعي وهو ظهور اللّيل والنّهار على الأرض. ولقد توصّلنا في موضوع الإغطاش والإخراج الى أنّ الظّلام الذي نعرفه الآن والذي أطلق عليه العرب اسم «ليل» لم يكن شديدا قبل أن يظهر الضّياء الذي سمّاه العرب «النّهار» أي قبل أن تخرج فوتونات الضّوء المرئي من سجن الكثافة العالية التي كان عليها الغلاف الغازي بحكم تركيبته الكيميائيّة المختلفة بالكامل عن التّركيبة الحاليّة.
تمثل جملة ﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾في الآية موضوع هذا المبحث جوهر اهتمامنا نظرا لما قيل فيها ماضيا وحاضرا، حيث ذهب المفسرون مذاهب شتّى في البحث عن المراد منها وهو مراد مرتبط مباشرة بمعنى ما يطلق عليه القرآن «اللّيل آية» و«آية اللّيل» كما سنبيّن لاحقا. ولفهم ما قدّمه المفسرون من معان محتملة لمحو آية اللّيل وللجملة الواردة فيها وإعطاء رأينا فيه نبدأ بتحديد معنى الجذر (محو).
1 - المحو في اللّسان العربي:
مَحَتِ الرِّيحُ السّحابَ، مَحَتِ الرِّيحُ والأمطار وجهَ الأرض، مَحَوْتُ الكتابَ، مَحَوْتُ الورقَ ومَحَوْتُ اللَّوحَ.
نجد في بيت شعر لامرئ القيس بن حمام الكلبي استعمال لفظ مشتقّ من الجذر (محو) يعود الى حوالي 100 عام قبل الهجرة يقول فيه:
لِآلِ هِندٍ بِجَنبَي نَفنَفٍ دارُ *** لَم يَمحُ جِدَّتَها ريحٌ وَأَمطارُ
حيث أتى المحو بمعنى محا الشّيء أي أذهب أثره(2). فالجِدَّة هي وجه الأرض، ومن الواضح أنّه يصف هذا الوجه وقد حافظ على تضاريسه أو ما فيه من علامات رغم الرّيح والأمطار.
وفي لسان العرب لابن منظور وباقتباس نقدّر أنّه غير مخلّ بالمعنى نجد ما يلي: « مَحا الشّيءَ يَمْحُوه ويَمْحاه مَحْواً ومَحْياً: أَذْهَبَ أَثَره. الأَزهري: المَحْوُ لكلّ شيء يذهب أَثره، تقول: أَنا أَمْحُوه وأَمْحاه،... ومحَا لَوْحَه يَمْحُوه مَحْواً ويَمْحِيه مَحْياً، فهو مَمْحُوٌّ ومَمْحِيٌّ، ...؛ وأَنشد الأَصمعي (216 ه): كما رأَيتَ الوَرَقَ المَمْحِيَّا»(3).
وعند ابن فارس « الميم والحاء والحرف المعتل أصلٌ صحيح يدلُّ على الذَّهاب بالشّيء. ومَحَتِ الرِّيحُ السّحابَ: ذهبَتْ به. وتسمَّى الشّمالُ مَحْوَة، لأنّها تَمحو السَّحاب. ومَحَوْت الكتابَ أَمْحُوه مَحْواً»(4).
نلاحظ أوّلا أنّ المحو يتضمّن معاني الإذهاب والإزالة، وثانيا أنّ في استعماله وجهين حسبما وجدنا في المعاجم كمَحَتِ الرِّيحُ السّحابَ ومحت الرّيح والأمطار وجه الأرض للأول ومَحَوْتُ الكتابَ ومحوتُ الورقَ للثّاني. ففي الأول يصرف فعل المحو الذهن الى معنى إزالة السّحاب وتضاريس سطح الأرض، وفي الثّاني لا يتبادر للذّهن اللّوح نفسه أو الورق نفسه بل ما كان مكتوبا فيهما وكان يُرى بالبصر، أي أنّ ما كان يستبان في الورق أو اللّوح أو الكتاب لم يعد كذلك. يتعلّق المحو إذا بإزالة الأثر البصري للشّيء الممحو أو للذي كان يبصر فيه، ممّا يؤدي الى انتفاء القدرة على استبيانه وبالتّالي العلم به بواسطة العين. هذا عن أصل الجذر (محو) وأهمّ استعمالاته، فكيف فُسّرت الآية 12 من سورة الإسراء التي يخبر فيها اللّه أنّه محى آية اللّيل وجعل آية النّهار مبصرة؟
2 - تفسير الآية 12 من سورة الاسراء
2-1 تفاسير قديمة: عرض وتعليق
2-1-1 آية اللّيل وآية النّهار ومحو آية اللّيل.
في تفسير التّبيان الجامع لعلوم القرآن، قال الطّوسي: «ثمّ أخبر أنّه تعالى جعل ﴿ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ يريد الشمس والقمر في هذا الموضع -عند قوم -وقال الجبائي (303 ه): هما اللّيل والنّهار، وهو الظّاهر، .... ثمّ أخبر أنّه جعل إحدى الآيتين ممحوّة وهي اللّيل أي لا تبصر فيها المرئيّات كما لا يبصر ما يمحى من الكتاب، وهو من البلاغة العظيمة. وقال ابن عباس: محو آية اللّيل السّواد الذي في القمر، وروي عن علي (عليه السّلام) أَنّه اللّطخة التي في القمر»(5).
وقد عبر الزّمخشري عن الاتجاهين في التّفسير حيث رأى في هذه الآية وجهين «أحدهما أن يراد أنّ اللّيل والنّهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية اللّيل وآية النّهار للتّبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أي فمحونا الآية التي هي اللّيل وجعلنا الآية التي هي النّهار مبصرة. والثّاني أن يراد وجعلنا نيري اللّيل والنّهار آيتين، يريد الشّمس والقمر»(6)، وبناء عليه يكون معنى الجملة ﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ هو «جعلنا اللّيل ممحوّ الضّوء مطموسه مظلماً، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللّوح الممحوّ، وجعلنا النّهار مبصراً أي تبصر فيه الأشياء وتستبان»(7) بالنّسبة للوجه الأول أو «فمحونا آية اللّيل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعاً كشعاع الشّمس، فترى به الأشياء رؤية بيّنة، وجعلنا الشّمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كلّ شيء»(8) بالنّسبة للوجه الثّاني.
ويُفَصِّل الرّازي الوجه الثّاني إذ يقول في تفسيره: « أن يكون المراد وجعلنا نيري اللّيل والنّهار آيتين يريد الشّمس والقمر، فمحونا آية اللّيل وهي القمر. وفي تفسير محو القمر قولان: القول الأوّل: المراد منه ما يظهر في القمر من الزّيادة والنّقصان في النّور، فيبدو في أوّل الأمر في صورة الهلال، ثمّ لا يزال يتزايد نوره حتّى يصير بدراً كاملاً، ثمّ يأخذ في الانتقاص قليلاً قليلاً، وذلك هو المحو، إلى أن يعود إلى المحاق. والقول الثّاني: المراد من محو القمر الكلف (أي البقع السّوداء. المؤلف) الذي يظهر في وجهه يروى أن الشّمس والقمر كانا سواء في النّور والضّوء، فأرسل اللّه جبريل عليه الصّلاة والسّلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضّوء»(9).
ونختم مع ابن عاشور الذي يقول: «وإضافة آية إلى اللّيل وإلى النّهار يجوز أن تكون بيانيّة، أي الآية التي هي اللّيل، والآية التي هي النّهار. ويجوز أن تكون آية اللّيل الآية الملازمة له وهي القمر، وآية النّهار الشّمس، فتكون إعادة لفظ آية فيهما تنبيهاً على أنّ المراد بالآية معنى آخر وتكون الإضافة حقيقيّة، ويصير دليلاً آخر على بديع صنع اللّه تعالى وتذكيراً بنعمة تكوين هذين الخلقين العظيمين. ويكون معنى المحو أنّ القمر مطموس لا نور في جرمه ولكنّه يكتسب الإنارة بانعكاس شعاع الشّمس على كُرَتِهِ» (10) .
وعن البلاغة المتعلّقة بمحو آية اللّيل التي ذكرها الطّوسي في تفسيره ووصفها بالعظيمة التمسنا توضيحا لها في قول للدّكتور محمد سليم غزال حيث جاء في قناته على اليوتيوب التّالي (11): «﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ استعارة بديعة لبيان حال اللّيل. فالمحو هو الطّمس وجعل اللّيل هو الممحو أي المطموس مع كون ظلامه هو الذي يمحو الأشياء ويطمسها أبلغ في وصفه بالظّلمة ممّا لو قال وجعلنا اللّيل ماحيا لأنّ محوه هو محو لما فيه وهذا أبلغ في الوصف وأمكن في المعنى مع ما فيه من الايجاز وسلاسة العبارة».
لقد تبين لنا أن التّفاسير المتعلّقة بالآية 12 من سورة الاسراء تذهب أغلبها الى ما قاله الزّمخشري أي أنّ لها معنيين أساسيّين يتحدّدان بطبيعة الآيتين في الجملة ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾، فإمّا أن تكون الآيتان القمر والشّمس أو أن تكونا اللّيل والنّهار أنفسهما. وفي كلّ حالة يكون للمحو معنى مغاير للآخر. وقد أسقط البعض كون الإضافة بيانيّة، وهو الوجه الأول بتعبير الزّمخشري، وذهب الى تقدير وجه واحد مثل القرطبي الذي نقتبس منه التالي: «﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ ولم يقل: فمحونا اللّيل، فلما أضاف الآية إلى اللّيل والنّهار دلّ على أنّ الآيتين المذكورتين لهما لا هما. و«مَحَوْناَ» معناه طمسنا» (12) .
2-1-2 آية النهار مبصرة
« أمّا قوله: ﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ففيه وجهان: الأوّل: أنّ معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأنّ الإضاءة سبب لحصول الإبصار، فأطلق اسم الإبصار على الإضاءة إطلاقاً لاسم المسبّب على السّبب. والثّاني: قال أبو عبيدة يقال: قد أبصر النّهار إذا صار النّاس يبصرون فيه، كقوله: رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء، ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافاً، فكذا قوله:﴿ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾(يونس:67)، أي أهله بصراء»(13).
سنتبنّى المعنى الأول الذي ذكره أبو حيان في تفسيره حيث أنّ «الظّاهر أن ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ مفعول أوّل لجعل بمعنى صير، و﴿آيَتَيْنِ﴾ ثاني المفعولين، ويكونان في أنفسهما آيتين لأنّهما علامتان للنّظر والعبرة، وتكون الإضافة في ﴿آيَةَ اللَّيْلَ وَآيَةَ النَّهَارَ﴾ للتّبيين كإضافة العدد إلى المعدود، أي ﴿فَمَحَوْنَا﴾ الآية التي هي اللّيل، وجعلنا الآية التي هي النّهار مبصرة»(14)رغم ما نقله عن الكرماني قوله «ليس جعل هنا بمعنى صير لأنّ ذلك يقتضي حالة تقدّمت نقل الشّيء عنها إلى حالة أخرى» (15) وسندلل عن ذلك بعد مراجعة رأي زغلول النّجار الذي يمثل رأيا حديثا يقول فيه أنّه توصّل الى المراد المحتمل من الآية الممحوة.
الهوامش
(1) قال تعالى : ﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾، راجع مقالنا بالعدد 204 من مجلة الإصلاح - جويليّة 2024 - ص.ص 50-54
(2) معجم الدوحة التاريخي للغة العربية (محو).
(3) لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م.
(4) مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م.
(5) تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف ومدقق.
(6) تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) مصنف ومدقق
(7) نفس المرجع.
(8) نفس المرجع.
(9) تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف ومدقق مرحلة أولى
(10) تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف ومدقق
(11) لمحات من الإعجاز البياني في القرآن الكريم \ 139 فمحونا آية الليل-آية النهار مبصرة(https://www.youtube.com/watch?v=X1-yxwZJ8vU)
(12) تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف ومدقق
(13) تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف ومدقق مرحلة أولى
(14) تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف ومدقق
(15) ن. م.
|