رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
صفقة على حدِّ السّيف!
 هي صفقة لا كالصّفقات!! إذ يَندُر في التّاريخ أن تضطرّ قوّة إقليميّة كبرى مدعومة بقوى عالميّة كبرى، للموافقة صاغرة على شروط عدوّها، الذي تراه (ويراه العالم وفق الحسابات المادّية) ضعيفًا منهكًا مدمَّرًا جائعًا محاصَرًا، لا يؤبه له في الحسابات الإقليميّة والدّوليّة. فقد كان يُفترض أن يحتل الجيش الإسرائيلي قطاعَ غزّة في بضعة أيام؛ كيف لا، وقد سبق له احتلال القطاع وهو تحت حكم أقوى دولة عربيّة في يوم أو يومين سنة 1956، ثمّ في سنة 1967.
ولكن في حين طوّر الكيان الإسرائيلي إمكاناته أضعافًا مضاعفة، بينما بقي القطاع محاصرًا مخذولًا 17 عامًا. ورغم أنّ الكيان استخدم كلّ وسائل البطش والدّمار والمجازر، لكن «الفتى» الغزّاوي وقف كالمارد 471 يومًا من المقاومة الأسطوريّة المذهلة التي ترعاها حاضنة شعبيّة مضحّية صابرة محتسبة، استنزفت الجيش الإسرائيلي وأنهكته، وجعلت حكومته ترضخ لصفقة كريمة فرضتها المقاومة.
صفقة قلقة وهدنة هشة
أمّا وقد بلع الاحتلال السكِّين، ووافق على إنفاذ المرحلة الأولى التي تتضمّن إطلاق سراح 1.904 أسرى من سجون الاحتلال، بينهم 296 محكومًا بالمؤبّد، والانسحاب من معظم قطاع غزّة، وعودة النّازحين إلى أماكن سكنهم، وفتح المعابر وإدخال 600 شاحنة يوميًّا، و60 ألف كرافان و200 ألف خيمة، وبدء حملة الإعمار، فيما حماس محتفظة بسلاحها وسيطرتها، وذلك مقابل إطلاق ما لا يزيد عن 33 من أسراه لدى المقاومة، فإنّ حالة الحسرة والمرارة والشّعور بالفشل قد سادت في أوساطه السّياسيّة والعسكريّة والأمنيّة والشّعبيّة.
ولكنّها كانت صفقة «المضطرّ» ليس فقط لأنّ ترامب ضغط باتجاه الموافقة عليها، ولكن لأنّ حالة الاستنزاف والغرق في المستنقع الغزّاوي كان لا أفق لنهايتها، وكان التّدخّل الأميركي مخرجًا يحفظ ماء وجه الاحتلال، ويُنقذه من غرور وعُنجهيّة قيادته التي تعيش حالة إنكار وهروب من الواقع، بما قد يؤدّي إلى مزيد من الانهيارات والانحدار في المشروع الصّهيوني، بحيث أوصت الجهات الأمنيّة والعسكريّة وقوى المعارضة بالصّفقة والوصول لحلّ سياسي، مدعومة بغالبيّة في أوساط المجتمع الاستيطاني الصّهيوني وفق استطلاعات الرّأي. ولذلك، فما زال الاتفاق «هشًا»؛ لأنّ قوى أساسيّة في الحكومة الحاليّة ما تزال غير مستوعبة للدّرس، وترفض النّزول عن الشّجرة، وترى ضرورة استئناف الحرب، فلعلّ وعسى أن تجد فرصة في هزيمة المقاومة، وترى أنّ فرض غزّة لشروطها ليس فقط مؤشّرًا على بدء العد العكسي للمشروع الصّهيوني، وإنّما هو أيضًا مؤشّر على سقوط أيديولوجيتها ونهاية حياتها السّياسيّة.
وتتّضح هشاشة الاتفاق من متابعة نتنياهو تصريحاته المهدّدةَ بسحق حماس ومنعها من السّيطرة على غزّة، حتّى بعد إنفاذ الاتفاق في مرحلته الأولى، وفي تعهّده الشّفوي لسموتريتش، زعيم الصّهيونيّة الدّينيّة ووزير المالية في حكومته، بأن تعود «إسرائيل» للحرب لتدمير حماس، حتّى لا ينسحب الأخير من الحكومة، فيفقد التّحالف الحاكم أغلبيته في الكنيست، وتسقط الحكومة.
ويدلّ انسحاب بن غفير وحزبه (العَظَمة اليهودية) من الحكومة، ووصفه للاتفاق بأنّه كارثي واستسلام لحماس، على حالة القهر والغضب التي تنتاب اليمين الدّيني المتطرف.
ورغم الشّعور العام بالفشل في تحقيق الأهداف، فإنّ غالبية الإسرائيليّين وفق استطلاعات الرّأي هي مع إنفاذ الصّفقة، ونحو 60% يؤيّدون استمرار المفاوضات وتنفيذ المرحلة الثّانية منها، وهناك 61% لا يُصدّقون وعود نتنياهو بإنهاء حكم حماس في قطاع غزّة.
حماس وتحديات ما بعد الطّوفان
انتصرت حماس وقوى المقاومة في صراع الإرادات، وأفشلت كافة أهداف الاحتلال في سحق حماس واستسلامها، وفي احتلال القطاع  وفي تحرير أسراه، وفي تقرير مستقبل قطاع غزّة، وفي تأمين مستوطنات غلاف غزّة. كما أفشلت خطط التهجير وخطط الجنرالات في تفريغ شمال القطاع، وخطط الاستيطان اليهودي في القطاع. وحصلت حماس على صفقة مُشرِّفة لتبادل الأسرى، وعقدت اتفاقًا يؤسس لإنهاء الحرب والانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع.
هذا، بالإضافة إلى إسقاط المقاومة للنّظريّة الأمنيّة الإسرائيليّة، وفكرة الملاذ الآمن لليهود الصّهاينة في فلسطين، وإعادة قضيّة فلسطين لتكون في صدارة القضايا العالميّة، وإسقاط السّرديّة الإسرائيليّة، وصعود السّردية الفلسطينيّة، وتحوُّل الكيان الإسرائيلي إلى كيان منبوذ، وتعطيل برامج التّطبيع، وحالة الإلهام للأمّة وللإنسانيّة بإمكانيّة هزيمة المشروع الصّهيوني.
وما زالت حماس تتمتع بشعبيّة غير مسبوقة لدى الشّعب الفلسطيني في الدّاخل والخارج، وفشلت كافّة جرائم العدو ومجازره في فصل الحاضنة الشّعبية عنها، ونجحت حماس في تجنيد الآلاف من المقاتلين في كتائب القسّام، كما نجحت في الاستمرار بالإمساك بزمام الأمور في قطاع غزّة دونما منافس.في المقابل، ما تزال حماس، تواجه تحدّيات كبيرة في التّعامل مع فترة ما بعد إنفاذ المرحلة الأولى من الاتفاق.
ويبرز أوّل التّحديات في ترتيبات اليوم التّالي لإدارة قطاع غزّة، فثمّة إصرار من سلطة رام اللّه على التفرّد بإدارة القطاع، وبالتّالي تبرز مخاطر الدّخول في مواجهات مع حماس وقوى المقاومة إذا سعت إلى إنفاذ التزاماتها تجاه الاحتلال بمنع المقاومة ونزع أسلحتها، ويترافق ذلك مع رفضها أيّ انتخابات حرّة نزيهة، لأنّها تعلم مسبقًا أنّ النّتائج محسومة لصالح حماس وقوى المقاومة.
ويتوافق هذا مع رغبات إسرائيليّة عارمة، ورغبات أميركيّة غربيّة، ورغبات من دول عربيّة في منع حماس من حكم غزّة، أو المشاركة في حكمها بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك رغم اعتراف الجميع بعجزهم على فرض إرادتهم على حماس طوال الـ 18 عامًا الماضية.
ومع أنّ حماس ليس لديها مشكلة في الوصول إلى توافق وطني على إدارة غزّة، دون ضرورة أن تكون هي في واجهة القيادة، إلاّ أنّ هذه الأطراف تسعى لنزع أسلحة المقاومة ولتهميش حماس سياسيًّا، والتّخلّص من كوادرها ومؤيّديها في البنى المؤسّسيّة الرّسميّة في القطاع، وهو ما يعني أنّها تسعى لتحقيق ما فشل الاحتلال في تحقيقه في كلّ حروبه وطوال سنوات حصاره.
وسيسعى الاحتلال والولايات المتّحدة والحلفاء الإقليميّون، بدعم من سلطة رام اللّه لممارسة الضّغوط والابتزاز على حماس وقوى المقاومة من خلال متابعة الحصار، ومن خلال ملف الإعمار، حيث الحاجة الماسّة لأهل القطاع في إدخال احتياجاتهم الضّروريّة ومستلزمات إعادة الإعمار بعد تدمير أو تضرّر نحو 90% من البيوت والبنى التّحتيّة. 
ويكفي أن نضع في ذهننا أنّ تكاليف إعادة الإعمار تزيد عن 80 مليار دولار أميركي وفق دراسات وتقديرات عالميّة، وأنّ مجرّد إزالة الأنقاض يحتاج أكثر من مليون و300 ألف شاحنة، أي يحتاج نحو عشر سنوات إذا ما استخدمنا 200 شاحنة تقوم كلّ واحدة بتعبئة حمولتها مرّتين يوميًّا!
ومن ناحية أخرى، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي، قد يسعى مدعومًا بالولايات المتحدة؛ في إيجاد البيئة نفسها التي أدّت إلى تفجير معركة طوفان الأقصى، من خلال تفعيل برنامجه في تهويد المسجد الأقصى والقدس والضّفة الغربيّة، مع تصاعد الحديث عن أنّ ترامب الذي لا يأبه لاتفاق أوسلو ولا حلّ الدّولتين، قد يوفّر الغطاء لضمّ مناطق (ج) في الضّفة الغربيّة، وهي تزيد عن 60% من مساحتها. بل إنّ السّلطة الفلسطينيّة نفسها مهدَّدة وفق تصوّر اليمين الدّيني الصّهيوني بالتّفكّك إلى عدة «كانتونات» تدير التّجمّعات السّكانيّة الفلسطينيّة وتضبطها أمنيًّا تحت إشراف إسرائيلي.
كما أنّ محور المقاومة لن يكون في كامل قدراته التي دعم من خلالها قطاع غزّة خلال طوفان الأقصى، خصوصًا بعد تحييد المقاومة في لبنان من متابعة دورها المهمّ والمؤثّر.
وكذلك، فإنّ حماس وقوى المقاومة نفسها قدّمت آلاف الشّهداء وعشرات الآلاف من الجرحى، وفقدت الكثير من قياداتها السّياسيّة والعسكريّة والتّنظيميّة؛ وهي تحتاج وقتًا لإعادة ترتيب صفوفها وملء المواقع القياديّة، ومواساة عائلات شهدائها وجرحاها وتلبية احتياجاتهم، وترميم قدراتها العسكريّة والمادّية في بيئات قاسية تسعى لقطع الطّريق عليها.
كما أنّ حماس وقوى المقاومة تحتاج للقيام بمراجعات موضوعيّة ومعمّقة للتّجربة، للاستفادة من ذلك في انطلاقة جديدة وتطوير العمل وتحديد الاتجاهات المستقبليّة.
خلاصة
هذا يعني أنّنا أمام حالة قلقة وهدنة هشّة، يمكن أن تتدحرج إلى استئناف العدوان على غزّة؛ غير أنّ المزاج العام يدعم مسار وقف الحرب وإنفاذ المراحل التّالية من الاتفاق، وأنّ الغصَّة والمرارة لدى الجانب الإسرائيلي يقابلهما اعتراف ضمني وموضوعي بأنّه لا طائل من متابعة الحرب مع غزّة، وأنّه لا أفق للانتصار على حماس.
وبحسب قناة i24 العبرية فإنّ «غزّة هي حماس والجمهور معها.. ولن يكون هناك سحر “ترامبي” قادر على تغيير الوضع» (17/1/2025).ولذلك، فربّما تميل المرحلة القادمة إلى وضع مزيد من الضّغوط وأدوات الابتزاز والحصار لتخفيض سقف منجزات حماس والمقاومة في المرحلتين: الثّانية والثّالثة، وفي السّعي لنزع سلاحها، ومحاولة تهميشها وابتزازها، وفصلها عن الحاضنة الشّعبيّة.
وكلّ ذلك يستدعي الاستعداد لاحتمالات الحرب والعدوان، وتقوية الصّف الدّاخلي وتعزيزه، والالتصاق أكثر بالحاضنة الشّعبيّة وهمومها، وتقديم مبادرات منفتحة لتحقيق أكبر قدر من الوحدة الوطنيّة، والتَّحلي بالكثير من الصّبر والحكمة والحزم لتوجيه البوصلة الوطنيّة نحو إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، والسّعي لإنهاء الاحتلال وتحرير الأرض والمقدّسات.
الهوامش
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع «الجزيرة نت» ، 22/01/2025.