تمتمات
بقلم |
![]() |
م.رفيق الشاهد |
يسألونك ... قل ... |
حيرة الإنسان من طبعه، وأسئلته متواصلة إلى أن يظفر بالحقيقة أو أن يرث اللّه الأرض ومن عليها. وكان الإنسان يلتجئ إلى الطّبيعة يستكشف خفاياها، فيتّخذ من بعض عناصرها مصادر للمعرفة والقوّة وآلهة يحتمي بها من عناصر أخرى لا يأتيه منها إلاّ الشّرّ.
وجاءت الدّيانات لتُطمئن البشريّة وتحميها من ضراوة الطّبيعة وشدّة شرورها على الإنسان البدائي غير المهيأ لمجابهة ما يصيبه منها من عنف وألم وقتل. ورغم ذلك، نجح منذ القدم، الكثير من الكهّان في توظيف ما اكتسبوا من قوّة جسمانيّة تعاضدها معرفة تراكمت بخلاصة التّجارب في مصارعة الطّبيعة والخروج منها في كلّ مرّة بأقلّ الأضرار. الأقوى طبعا من قاوم الطّبيعة أطول وكسب منها معرفة تميّزه عن الذّكاء الجماعي، فأمكنه تجييش العامّة خدمة له مقابل حمايتهم. ثمّ الأقوى هو من حمل للآخرين أجوبة تزيل خوفهم من المجهول وإن احتمى وراءه أو قد يكون هو نفسه من شكّله، وبيديه صنع ذلك المجهول وشيده.
ثم جاءت الدّيانات السّماويّة بعد أن نضج الفكر والوعي الإنساني بالتّدرّج عبر عديد الأنبياء والرّسل يلقّنون النّاس دينهم الذي يجادلونهم فيه ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾(البقرة: 108). ولمّا بلغت الإنسانيّة مرتبة تؤهّلها لتصوّر الذّات الإلهيّة وتقرّبها من خصائصها، جاء خاتم الأنبياء والمرسلين ليتمّم مكارم الأخلاق لا لقومه خاصّة، بل جاء خطابه للنّاس عامّة «إنّ الدّين عند اللّه الإسلام». وكان الرّسول ﷺ في إجاباته عن أسئلة القوم لا ينطق عن الهوى، بل كان اللّه يسمع ويرى ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾(المجادلة: 1) ولا يكون جواب الرّسول ﷺ إلاّ وحيا يوحى بدليل آياته التي نزلت في القرآن الحكيم على شكل ﴿يسألونك ... قل ...﴾و﴿قل للذين آمنوا ...﴾ و﴿قل للذين كفروا ...﴾ و﴿قل للمؤمنين ...﴾ و﴿يا أيها النّبي، قل ...﴾
واليوم وأمام كثرة الدّيانات والمذاهب والفرق داخلها، وكثرة الأئمّة والدّعاة على تباين مذاهبهم وآراءهم، باتت الحقيقة في مفهومها العلمي والفقهي بعيدة المنال على كلّ طالبيها، وبدأ اليأس يأخذ مكانه في الوعي الجمعي لمجتمعاتنا ويتأكّد عند العديد من الباحثين عن الحقيقة بأنواعها وكأنّهم فقدوا كلّ ثقة في العلماء والمشايخ والأئمة المحترمين. والملاحظ أنّ الميل أصبح في كفّة الذّكاء الاصطناعي الذي نجح في استقطاب أكثر المهتمّين به ليجيبهم عن أسئلتهم المختلفة. فهل سيصبح الذّكاء الاصطناعي يوما ما مصدر المعرفة الأوحد إذا ما نجح في إقناع النّاس وطمأنتهم؟ وإذا ما أصبح حاملا لإيديولوجيا حديثة، ألا يخشى أن يتّخذه بعضهم دينا جديدا يؤمنون به ويسعون في نشره بين النّاس بالقوّة؟
الذّكاء الاصطناعي ذكيّ بما يكفي لجذب المهتمّين بالشّأن العام والشّأن الدّيني والمجتمعي والعلمي وكلّ المجالات ذات الاهتمام المشترك بعد أن تمكّن من توحيد المفاهيم والمصطلحات ونجح ربّما في جمع الآراء وتوحيدها. وهو ذكيّ سريع التّعلّم منفتح على المعرفة المتدفّقة عبر جميع الطّرق السّيارة للمعلومات التي يعالجها بسرعة فائقة. ولكن وراء هذا النّظام الجديد للمعرفة أناس مختصّون يراقبون تطوّر المعرفة لديه وفي أيّ اتجاه ينحو.
اليوم مازال الذّكاء الاصطناعي صغير السّن وفي مرحلة التّعلّم، فلا بدّ من مراقبة المناهج التّعليميّة وتصفية المدخلات من المعلومات وإزالة ما لا يروقهم حتّى يتحكّموا بحدّ أكبر في المخرجات التي تستجيب لمصالح الماسكين به. فالجميع يعلم أنّ الذّكاء يولد على الفطرة والمشرفون عليه يهوّدونه أو ينصّرونه.
والجميع يعرف أيضا أنّ من لم يركب قطار الذّكاء الاصطناعي ويكن من مريديه سيظلّ على هامش النّظام العالمي، لا يلعب إلاّ دور الضّحيّة فيه.
|