تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
السّياسة وعزلة العلماء
 1 - عزلة شوبنهاور
استوقفتني فقرة مقتبسة عن المفكر الفيلسوف «آرثر شوبنهاور» في كتابه: «فن العيش الحكيم»، واستدرجتني الفكرة للاشتغال عليها قليلا. 
يقول شوبنهاور: «إنّ المرء يقتنع اقتناعاً راسخاً بخيار العزلة بعد تأكّده بالبراهين المتتالية من أنّ الحياة العقليّة والأخلاقيّة للغالبيّة العظمى من النّاس شديدة البؤس والانحدار. وأسوأ ما فيها نواقصهم العقليّة والنّفسيّة التي تتجمّع لتُخرج إلى حيز الوجود ظواهر بشريّة تشمئز منها النّفوس، وتقشعر لها الأبدان، وتجعل أيّ اختلاط بهم أمراً لا يُطاق»
لمّا يغوص المرء من مثل «آرثر شوبنهاور» في مسائل وجوديّة ويبحث في معاني الموجودات وجواهرها ويفتح ما كان موصدا ومحظورا على العقل الإنساني، ولمّا يشغل «شوبنهاور» نفسه بالبحث المعمّق في «الإرادة» التي تهيمن على كلّ الوجود الطّبيعي والإنساني ويدرك ماهيتها، حتّى لامس «آرثر» وعي وجوده، وتقمّص الذّات الإنسانيّة منذ البدء وهو القائل: «كنت دائماً أنا، أي إنّ جميع الذين كانوا يقولون أنا، هؤلاء جميعهم كانوا أنا»، يصعب على فيلسوف الإرادة ومن مثله النّزول من هذه المراتب العليا الى المستويات العقليّة والنّفسيّة المتدنّية كما يقول.
لمّا يلوذ «شوبنهاور» إلى الفنون التي تملأ جماليتها الوجودَ رونقا وسحرا، ويرتقي مع هذه النّماذج من الإرادة الخلاّقة في معاينة المثل العليا، كيف له أن ينحدر من هذا العلوّ الشّاهق دون سقوط ودون أذى؟
لهذا لا غرابة فيما قاله الفيلسوف، ولا غرابة في تصرفه ولا في سلوكه، وهو الذي رأى في المرأة والجنس سببا من أسباب انحلال الإرادة، فجعلاه في ارتباك دائم غير قادر على التّأقلم والتّعايش لا مع أقرب النّاس إليه ولا مع الغالبيّة العظمى لما كان يراه من بؤس وانحدار فيما يصدر عنهم من ظواهر بشريّة. هكذا عاش منفردا في بيئة مرفّهة ومترفة لم تقِهِ شرّ العزلة ولا القلق النّفسي الذي أصابه. 
لا غرابة في سلوك «آرثر» الذي جعل طلاّبه يهجرون مقاعدهم ولا ممّن شابهه من النّخبة شديدي الذّكاء، الذين وإن أفادوا البشريّة فإنّها لم تستنفذ حقّها منهم. أي أنّهم لم يتحمّلوا أنفسهم ولم يحمّلوها رسالة يعملون من أجلها، فكان أثرهم نخبويّا حرمهم من تحقيق الهدف الذي لم يحدّد مسبقا.
هؤلاء العظماء وإن استطاعوا بالتّفلسف والتّأمل وبتزهّد بعضهم أن ينعموا ببعض من الهدوء الكياني الذّاتي، تبقى علاقتهم بالآخر لا تتجسّد إلاّ عبر العلاقات الاجتماعيّة. وهو ما فشل فيه بعضهم ومن بينهم «شوبنهاور»، والسّبب أوّلا أنّهم لم يكونوا معصومين مثل الانبياء والرّسل الذين رغم انشغالهم بالملكوت الالهي كانت الرّسالة التي بعثوا من أجلها هاجِسَهم وحافزا يدفعهم لترويض العامّة وانتشالهم ممّا هم فيه من جهل وانحطاط. فلم يبتعد النّبيّ محمد ﷺ عن النّاس ولم يكن فظّا ولا غليظ القلب، بل اقترب منهم أكثر باللّين والحسنى لهدايتهم والرّقي بهم الى مستويات عقليّة ونفسيّة أرحب. والسّبب الثّاني يعود إلى تأثير الوسط البيئي الذي ترعرع فيه هؤلاء والذي لم يتفطن باكرا إلى حدّة الذّكاء لديهم. فوُجِهت اهتماماتهم إلى ما لا تهوى أنفسهم. 
إن استطاع هؤلاء العظماء أن ينعتقوا بعض الانعتاق من إرادة الحياة الجارفة، قليلا منهم فقط استطاع أن ينعم ببعض من الهدوء الكياني الذّاتي.
2 - دور رجل السّياسة
ينمو المجتمع ويتطوّر، لا بفضل عراقة تاريخه وحضارته الزّائلة، ولا فقط بتراكم المعرفة لديه. كلّ هذا ضروري ولا غنى عنه في تأمين استمراريّة العنصر البشري على هذه الأرض وتوابعها، ولكنّه لا يحفظ عزّة الناس ولا كرامتهم، ولا يصدّ عنهم جشع الطّامعين. المجتمع المتخاذل محكوم عليه بالتّبعيّة والاستغلال، وإن عاش بسلام فلابدّ أن يدفع الثمن غاليا، ذلاّ ومهانة.
يبنى المجتمع بالفكر والسّاعد. وتعدّ السّياسة أرقى درجات البناء الفكري المسيّر للمنظومة المجتمعيّة حتّى أصبح علم السّياسة منذ نهاية القرن التّاسع عشر فرعا أساسيّا من العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. ويتناول علم السّياسة طرق توزيع سلطة صنع القرار ونقلها، وتحديد أدوار الحكم وأنظمتها بما في ذلك الحكومات والمنظّمات الدّوليّة، والسّلوك السّياسي، والسّياسات العامّة التي تضمن الاستقرار والعدالة ومقومات الحياة الكريمة - وكلّه في مجال الاهتمام أو محيطه (محلّي، وطني، إقليمي أو دولي).
ويُعرَف رجل السّياسة (دون اعتبار الجنس) بمدى اهتمامه بالشّأن العام في إطار المنظومة السّياسيّة الرّسميّة، وباعتبار الأنشطة التي يقوم بها على صعيد المجتمع المحلّي الذي يمثّله بصفة مستقلّة، أو عبر تنظيم سياسي يمارس الحكم أو يسانده أو معارض له. وفي كلّ الحالات يطمح السّياسي إلى ممارسة السّلطة، وعادةً ما يقوم بهذا العمل مقابل أجر مباشر داخل السّلطة في إحدى الخطط الوظيفيّة للدّولة أو خارجها، أو بغرض الحصول على سلطة أو مكانة مجتمعيّة أكبر. 
وبما أنّ اهتمامات رجل السّياسة تشمل كلّ مكونات الشّأن العام، تعين عليه الاهتمام بجميع القطاعات الاقتصاديّة الحيويّة والاجتماعيّة والفكر والثّقافة، وكذلك وليس أقل اهتماما بالمسائل الدّينيّة والفقهيّة. وإن شملت مناهج الدّراسة الأكاديميّة للعلوم السّياسيّة كلّ هذه المحاور، إلاّ أنّ ممارسة السّلطة في إحدى القطاعات الحيويّة تتطلّب استشارة علماء وفنيّين مختصّين في الميادين ذات الاهتمام ولا أقلّها العلوم السّياسيّة.
يصنّف المختصون حسب المجالات والقطاعات المهنيّة الحيويّة مثل الاقتصاد، والصّحّة والفلاحة والصّناعة والاتصالات والعمارة، إضافة إلى الآداب واللّغات والثّقافة والفنون والحرف، وكذلك السّياحة والرّياضة، ودون أن نتغافل عن العلوم الصّحيحة والتّكنولوجيا، إلى رتب ودرجات حسب المعارف والكفاءة المتحصل عليها والمهارات الموثوق حذقها. ويعرف رجل السّياسة جيّدا كيف يستفيد من كلّ هؤلاء المختصّين كلّ في موقعه لتحقيق الهدف الذي رسمه.
فالمختصّ مهندسا كان، طبيبا أو مدرّسا، هو الشّخص الذي يُلمُّ بعلمٍ من العلوم، أي عالم بهِ. فالمهندس مثلا هو الذي يبتكر، ويصمّم، ويحلّل، وينشئ، ويبني، ويختبر الآلات والأنظمة والمباني والمواد لتحقيق العمل المطلوب. ويمتلك المهندس فهما ودراية في المعوقات وظروف الواقع والأنظمة والقوانين، مع مراعاةِ كافةِ احتياطاتِ السّلامة ومتطلباتِ الجودةِ والتّكلفة. ويمكن سحب هذا التّعريف على الطّبيب والصّيدلي والمختصّين في الميادين الأخرى، حيث يتلقّى كلّ منهم تكوينا يقوم على الموازنة بين جملةٍ من العلوم الصّرفة والتّطبيقيّة، ويرتكز أساساً على العلوم التّطبيقيّة، خلافا عن العلماء الذين يقومون بالبحوث التي تهتم بالنّظريّات العلميّة البحتة، وعن الفنّانين الذين يهتمّون بالجماليّات للارتقاء بالذّوق العام إلى مراتب المثل العليا. 
لهذا لا اختلاف أنّ السّياسيّين هم الذين يديرون هياكل الدّولة والمنظّمات الدّوليّة. وهؤلاء لابدّ أن يكون لكلّ منهم مستوى أدنى للمعارف في العلوم السّياسيّة توفّرت لديهم من أطروحات وتحاليل وتوصيات سياسيّة يقدّمها علماء السّياسة في إطار بحوثهم العلميّة الأكاديميّة أو مباشرة خدمة لرجل سياسة معيّن، يعملون لفائدته كمستشارين، إضافة إلى ما تتطلّبه الخطّة من قدرة على القيادة ودراية في إدارة الموارد والكفاءات. 
لا ينمو مجتمع ولا يتطوّر إلاّ بتناغم جميع مكوّناته دون استثناء، وبالاستفادة من كلّ الموارد المتوفّرة عبر الانصات الجيّد والاستماع بحسّ مرهف وبشكل منفصل إلى مميّزات التردّدات الأوليّة المتاحة المعبر عنها بالتّوافقيات أو المتناغمات (harmoniques). وتعتبر كلّ هرمونيك مكوّنة أساسيّة للسّنفونيّة المراد إنشائها، وما على الملحّن إلاّ ترويضها وغزلها، ليشكّل نظاما إيقاعيّا لا يتعارض مع المقامات الأساسيّة مثل الدّيمقراطيّة والشّرعيّة الدّوليّة وحقوق الانسان، وإن توشّحت بما يتوافق مع الذّوق العام والإرث الحضاري. 
هكذا تؤلّف أنغام وأجراس تنثر البهجة والطّمأنينة كلّما ترجمها قائد الاوركسترا وعناصر الفرقة بكلّ حرفيّة، وبما توفّر لديهم من آليّات ومعارف، إلى منجز وطني ينعم به الجميع. هكذا يؤثّث كلّ من موقعه أركان تراث يفترض اعتمادها قواعد وأسس بناء واستدامة.