بالمناسبة

بقلم
لطفي البكوش
حديث في المنهج... كيف نفهم السيرة ؟
 تمهيد
ليس المهمّ تسجيل الحدث التّاريخي وتدوينه، بل الأهم من ذلك هو امتلاك القدرة على توظيفه والاستفادة منه ضمن «لحظة الحاضر» التي تشكّل امتدادا مباشرا لتراكمات «لحظة الماضي».
ولعلّ الأمر يزداد إلحاحا بضرورة التّفاعل الإيجابي مع الحدث التّاريخي حين يكون معبّرا في تجربة نوعيّة فريدة تتجاوز بقدرتها المساحة الزّمنيّة التي تأطّرت ضمنها، وتمدّ بظلالها على مساحات الزّمن الحاضر والزّمن المستقبل. إنّنا نعني بها هنا تجربة الرّسول ﷺ، فهذه التّجربة تستمد شرعيّتها بل قدرة حضورها في كلّ حين نتيجة «نموذجيّتها» الواقعة تاريخيّا. كما أنّها تفرض حضورها الدّائم والمتواصل نتيجة استنادها إلى القرآن الكريم ما «يمثّل لنا مصدر الرّؤية والفكر والسّلوك».
لهذه الإعتبارات جميعا كان لزاما تجاوز قراءة للتّجربة النّبوية وتأسيس قراءة لها.
ملامح عامّة من آليّات قراءتنا للسّيرة النّبويّة
لعلّ أبرز ما يمكن مسكه وتحديده من آليّات في منهج معالجة التّجربة النّبويّة وبالتّحديد للفعل النّبوي يتمثّل في :
1 -  السردية الواقعية: 
ونعني بها أنّ المتناول لأحداث السّيرة كتابة أو حديثا كثيرا ما ينحصر همّه في مستوى تسجيل الحدث ونقله وروايته رواية تتميّز بصرامة في مستوى التّقسيم الزّمني للأحداث، تلغي مع ذلك التّداخل والتّشابك الذي يميّز كلّ واقعة تاريخيّة يكون طرفها الإنسان ويصاحبها.
فالسّردية دفعت بصاحبها إلى أن ينتهج خطّا روائيّا لا يطرح الحادثة في تداخلها من الأسباب والنّتائج ولا يغوص وراء تلك الأحداث ليكتشف الجانب «المسكوت عنه» أو «المخفي منه» ويكشفه، ولكن يلامس سطح هذه الأحداث ويكتفي بذكرها مانعا بذلك إمكانيّة اغتيال تاريخنا أو إقصاء فترات منه. وهكذا رأينا السّيرة - تلك التّجربة الفريدة - تتحوّل إلى شبه شريط واضح السّطور: مولد، فنبوّة، فدعوة، فهجرة، ففتح ....
إنّ طبيعة الواقعة التّاريخيّة أعقد من أن تُضبط ضبطا زمنيّا تراتبيّا صارما، لذلك كان من الضّروري عدم الاقتصار على «هدف التّدوين»، بل أن تصاحب العمليّة التّدوينيّة رؤية تحليليّة استفزازيّة تنفذ إلى أعماق الحدث وتستقرئ جزئيّاته وكلّياته وتمسك بخطوطه الظّاهرة والمتخفّية، وبمداخله ومفاصله ومخارجه.
2 - الانتقائيّة والانتخاب : 
إنّ الوفاء لتاريخنا ولتجربة الرّسول ﷺ تقتضي مواجهة هذه التّجربة في جميع أحداثها ووحداتها بعيدا عن منطقة الإقصاء والتّشويه والانتفاء.
فلا أحد ينفي بقاء بعض المناطق من السّيرة في مستوى «الظّلّ» مسكوت عنها، الاحتمال أن تكون هذه المناطق منغّصة لبيان التّجربة السّويّة وصفائها، فيقفز القارئ للسّيرة أو المتحدّث عنها على هذه المناطق «المتشابهات» ويكتفي بسرد «المحكم منها».
إنّها عقليّة تعبّر عن عجزها وضعفها في الفهم إن لم نقل هي ثقتها المغشوشة بالتّاريخ الاسلامي جميعه. لقد غدا ضرب هذا الحصار على هذه المناطق وتسليط الأضواء عليها ضرورة لا تدفعنا إليها «دعاوي المستشرقين» ولا «شبهات المغرضين» ولكن صدقنا ووفاؤنا لتلك التّجربة.
إنّ الرّؤية الشّموليّة هي وحدها القادرة على تبيين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الحادثة التّاريخيّة، أمّا تجزئة التّاريخ وتمزيق وقائعه بمقتضى الهوى يعدّ هروبا من الإشكال والإحراج وضمانا للسّلامة، وهي التي تعمّق جهلنا.
3 -  السّحريّة والإنبهار : 
لو تسنّى لك أن تستمع لقصّة من القصص التي تتلى في حفلات المولد، لسمعت نماذج من العلوّ الذي يكاد يجعل النّبي شخصيّة وهميّة، إنّه طرح يقوده عقل فذّ جنح صوب الخيال القصصي والتّهويل الأسطوري الذي يمنع عن صاحبه الإحاطة العلميّة المركّزة والمتوازنة للحدث التّاريخي. لقد غدت السّحريّة والقداسة مستند المتحدّث عن الرّسول ﷺ، ممّا أضفى على سيرته وفعله وحركته التّاريخيّة طابعا لا إنسانيّا، لا نقدر على معايشته إلاّ من خلال الوجدان.
إنّ هذا المنهج الانبهاري في معالجة السّيرة والحديث النّبوي فضلا عن كونه متضمّنا لعوامل السّقوط في التّفسير اللاّعلمي بسبب حرصه على إضفاء «البعد الإعجازي الخوارقي» لكلّ حدث كان الرّسول ﷺ طرفه بدء من مولده، فإنّه يعمق مسافة البعد بيننا وبينه ويحوّل الرّسول ﷺ القدوة من النّموذج «يدرس ليعاش» إلى نموذج «يذكر فيؤلّه».
كما أنّ قراءتنا لمسيرة أنشدت إلى منطق دفاعي ما كان له أن يصمد أمام الواقعة التّاريخيّة نفسها. وإنّ اسقاط التّهاويل وتخيّل الإضافات وتضخيم السّيرة بحشد من القصص والخوارق لتقليص المعطى البشري الإنساني في الفعل النّبوي يكشف في تصوّر متوتّر ومنفصم أساسه التّصادم بين الإدارة الإنسانيّة وبين الفعل الإلهي، إنّه تصوّر عجز عن فهم جدل «الغيب والطّبيعة» وجدل «اللّه والإنسان»، فأراد حلّه بإقصاء أحد أطرافه. إنّه التّصوّر التّجزيئي الأحادي الذي يناقض التّصوّر التّوحيدي الكوني.
خاتمة
تلك هي الملامح العامّة لبعض آليّات قراءتنا للتّاريخ النّبوّي. ولأجل أن يظل الرّسول ﷺ قدوتنا، استلزم الأمر تصحيح هذه القراءة وإقامتها على أسس التّحليل العلمي والبرهاني. 
إنّ الضّرورة المنهجيّة الملحّة لرفض منطق الخوارق والقصص والإسرائيليّات لا تعني دعوتنا إلى قطع السّيرة والحديث النّبوي عن أيّة صلة لها بعالم الغيب، لأنّ معنى هذا هو نكران النّبوّة والوحي. كما لا تعني بالضّرورة رفض الاعتقاد بأنّ اللّه طمس على أعين المشركين ليلة الهجرة وصدّهم عن إلقاء القبض على الرّسول ﷺ وهو مختبئ وصاحبه في الغار، أو أنّه أنزل ملائكة من السّماء لتنصر القلّة المؤمنة على الكثرة الكافرة في معركة بدر وغيره.
إنّه بالرّغم من محدوديّة هذا التّدخّل الغيبي المباشر في سيرة الرّسول ﷺ، فإنّه بالإمكان فهمه ضمن الفعل النّبوي والعلم بالاستناد إلى معطيات القرآن والسّنة الثّابتة ومقولات العقل من خلال الأرضيّة التّاريخيّة التي تحرّكت فوقها الأحداث ونمت واكتسبت ملامحها النّهائيّة. وكلّ ما لا ينسجم مع هذا أو مع ذلك كان له أن يلغي من حساب القارئ والباحث الجادّ.
ذلك هو الإطار العام لتحليل الواقعة التّاريخيّة وفهمها بعيدا عن إشكال «الفعل النّبوي أو تأليهه» الذي يمثل إشكالا مغلوطا على مستوى الفعل النّبوي الإسلامي. قال تعالى : ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ ...﴾(الكهف:110) «صدق الله العظيم».