نحو أفق جديد
بقلم |
أ.د.عبدالجبار الرفاعي |
التعليم في عصر الهوية الرقمية |
أميّة الأساتذة الثّقافيّة والرّقميّة
التّربيةُ والتّعليم وبناءُ القيم وترسيخها هي حجرُ الزّاوية في كلّ عمليّة تنمية خلّاقة، النّجاحُ فيها علامةُ كلِّ نجاح، والإخفاقُ فيها علامةُ كلِّ إخفاق. تتشكّلُ معادلةُ التّربيةِ والتّعليم من ثلاثة عناصر، هي: المعلّم، التّلميذ، المقرّر الدّراسي. لا تنجز هذه المعادلةُ وعودَها ولا يمكن قطف ثمارها من دون إعادة بناء متوازية لكلّ عناصرها، وإنّ أيَّ اختلال في أحد عناصر هذا المثلّث يفضي إلى اختلال كلّ المعادلة. التّربيةُ والتّعليم وبناءُ القيم هي مأزق التّنمية في أوطاننا، ذلك هو السّببُ العميق لكلِّ فشل وإخفاق في أيّة عمليّة للتّنمية الشّاملة.
عمليةُ بناءِ الإنسان هي البدايةُ الحقيقيّةُ لكلِّ عمليّةِ بناءٍ خلّاقة، وما تنشده أيّةُ تنميةٍ شاملة. رأسُ المالِ البشري المتعلّم هو ما يتكفّلُ بناءَ دولة مواطنة دستوريّة حديثة. رأسُ المالِ البشري أثمنُ من كلِّ رأسمال، فمهما امتلكنا من بترولٍ وغيره من مصادر الثّروة المادّية لن نتفوّقَ على مَن يمتلكُ رأسَ المالِ البشري المكوَّن من الخبراء وذوي المهارات المتنوّعة. الإنسانُ المتعلّم أثمن من كلِّ شيءٍ، لا شيءَ يفوقُ الإنسانَ المتعلّم بقيمته في عالَمنا الذي نعيشُ فيه. الاستثمارُ في الإنسان أثمن من كلِّ استثمار، تخلُّفُ البلدان ينشأُ من الفشل في بناء الإنسان، وإدمانِ الكسل. اليابانُ مثلًا تفتقرُ للموارد الطّبيعيّة، لكنّها بارعةٌ في بناء الإنسان، تقدّمت اليابانُ بسبب تفوّق إنسانها بتكوينه التّربوي والقيمي والتّعليمي، وتراكم خبراته المهنيّة، ومثابرتِه على العمل، وارتفاعِ معدّل إِنْتاجيَّته كمًّا وكيفًا. سنغفورة أيضًا تفتقر للثّروات المادّية، لكنّها تفوّقت على غيرها من البلدان، وقفزت لمعدّلات باهرة في التّنمية، بسبب أنّها وضعت تكوين رأس المال البشري أولويّةً في برامجها للتّنمية، واعتمدت في ذلك على مكاسب العلوم والمعارف الحديثة، وما أنجزه العقلُ والخبرة البشريّة من مكاسبَ مهمّة في التّربية والتّعليم.
تتفشّى الأميَّةُ الثّقافيةُ والرّقميّة بين أعضاء هيئات التّدريس في الجامعات العربيّة بشكل مخيف، فقلّما ترى مَن يلاحق ما هو جديدٌ في تخصّصه الأكاديمي، وأقلّ منه مَن يهتم بمواكبة الإنتاج الفكري بالعربيّة فضلًا عن غيرِها من اللّغات، أو يتعرّف على الأعمال الجادّة في مختلف مجالات العلوم والمعارف والفنون والآداب، وقليل جدًا مَن يبرع في استعمال التّقنيات الرّقميّة في البحث العلمي وتطوير مهارات التّلامذة من جيل الآباء.
منصَّاتُ التّواصل الرّقميّة وتطبيقاتُها المتعدّدةُ والمتنوّعةُ تجاوزت دورَ الكتاب التّقليدي في التّربية والتّعليم والتّكوين المعرفي، وتغلّبت على مركزيّته في البناء المعرفي والفكري والثّقافي. غير أنّ كثيرًا من التّدريسيّين من الجيل القديم لا يحضر على منصّات التّواصل الرّقميّة، ولا يعرف شيئًا عن معظم تطبيقاتها، وإن حضرَ لا يتخطّى حضوره الإسهامَ في العلاقات العامّة والمناسبات الاجتماعيّة، ونادرًا ما نعثر على مشاركات نوعيّة لتدريسيّين تعكس ثقافتَهم وتكوينَهم الأكاديمي.
يجهل أغلبُ التّدريسيّين من جيلي الابتكاراتِ المدهشة للذّكاء الاصطناعي، وما يعدُ به من مكاسب عظمى، تتغيّرُ بتأثيرها أنماطُ العمل والإنتاج والتّسويق، وتختفي مهنٌ مختلفة وتحلّ محلّها مهنٌ بديلة، ويحدث تحوّل نوعي في وسائل تلقّي العلوم والمعارف والفنون والآداب، وتتبدّل طرائقُ التّدريس ووسائلُ التّعليم وأساليبُه، ويطال التّغييرُ مختلف مجالات الحياة، فـ «عندما نتحدّث عن حضور الذّكاء الاصطناعي في حياتنا اليوميّة، فنحن عمليًّا نتحدّث عن كلِّ شيء. يشمل ذلك ظهور كومبيوتر قادر على قراءة وثائق مكتوبة بخطّ اليد، وروبوت يُجري بنفسه عمليّات جراحيّة معقدّة وبصورة مستقلة عن التّدخّل البشري، وصُنع قاعدة بيانات مكثّفة تتضمّن الصّفات والسّلوكيّات والسّجايا الشخصيّة لكلّ فرد منا، استنادًا إلى كلّ ما نقرأه أو نكتبه على الإنترنت... ومع التّعمّق في تحسين أداء الذّكاء الاصطناعي، ينكشف أمام أعيننا أنّه لن يكتفي بمجرّد الحلول بدلًا من البشر، بل يستطيع التّفكيرَ بطرق يعجز الإنسان عنها. ثمّة خوارزميّات متطوّرة تستطيع التّعامل مع كميّات هائلة من المعلومات، وتتوصّل إلى استنتاج الأنماط الموجودة فيها، ما يجعلها (= الخوارزميّات) على أهبة الاستعداد لتغيير المجتمع»(1).
الذّكاءُ الاصطناعي معنى جديد لرأسِ المالِ يختلفُ عن المعنى الكلاسيكي له، إنّه أثمنُ ثروةٍ يمتلكها الإنسانُ في عالَمنا اليوم، مَنْ يمتلكها يمتلك حاضرَ العالَم، ويتمكّن من التّحكّم بمصائره ومصائر مَن لا يمتلك هذا الذّكاء، ومَنْ يفتقدها يفتقد القدرةَ على الحضور في العالَم، مثلما يفتقد القدرةَ على التّحكّم بمصائره. مهما كانت قيمةُ الثّرواتِ المادّية فإنّها لا تساوي القيمةَ الحقيقيّةَ للذّكاءِ الاصطناعي، وما يمكن أن ينتجَه من سلعٍ وخدماتٍ ومعطياتٍ معرفيّةٍ ومادّيةٍ متنوّعةٍ في مجالاتِ الحياة المختلفة. بلغت القيمة السّوقيّة في 18/6/2024، لشركة «إنفيديا» المصنّعة للرّقائق 3.33 تريليون و 333 مليون دولار، بسبب الطّلب المتزايد لتكنولوجيا الذّكاء الاصطناعي على الرّقائق. وبلغت القيمة السّوقيّة لشركة «مايكروسوفت» 3 تريليونات و332 مليون دولار، وشركة «أبل» 3 تريليونات و269 مليون دولار، وشركة «غوغل» 2 تريليون و186 مليون دولار(2). وحسب تقديرات خبراء الاقتصاد يُقدَّر أن يصل الإنفاق العالمي على الذّكاء الاصطناعي بحلول عام 2030 إلى 1.8 تريليون دولار، في حين سيبلغ النّاتج الاقتصادي للذّكاء الاصطناعي 15 تريليون دولار.
تتجلّى أميّةُ أساتذة الجامعات بأجلى تمظهراتها بالجهلِ بالذّكاء الاصطناعي، وما ينجزه اليوم ويعد به غدًا، والجهلَ بتوظيفِ منصّات التّواصل وتطبيقاتها المتنوعة، والعجز عن الإفادةِ من ذلك في التّكوين المعرفي والثّقافي، وعدم استثماره في التّنمية العلميّة والثّقافيّة والرّقميّة، والغفلة عن أنّ مصادرَ المعرفة وطرائقَ تلقِّيها لم تعد كما كانت أمس، ولا أساليب التّعليم هي ذاتها في عصر الهويّة الرّقميّة. منصّاتُ التّواصل وتطبيقاتها المتنوّعة كسّرت احتكارَ الكتاب الورقي، وكلَّ الطّرق التّقليديّة للتّكوين المعرفي والثّقافي، وتغلّبت على وسائل تداولها ونشرها المتعارفة، بل أضحت موازيةً لعمليّة التّكوين الأكاديمي في الجامعات المتوارثة منذ ما يزيد على تسعة قرون، وأراها ستتفوّق عليها بعد مدّة ليست بعيدة.
ابتكر الذّكاءُ الاصطناعي ومنصّاتُ التّواصل وتطبيقاتُها المتنوّعة طرائقَ تدريس بديلةً تعبّر عن عصر الهويّة الرّقميّة، فصارت من خلالها أدقُّ المباحث وأشدُّها تعقيدًا واضحةً تُفهَم بيسر وسهولة، بأساليب بصريّة وسمعيّة ليست رتيبة أو مملّة. أزاحت الأساليبُ الجديدةُ طرائقَ تدريس ميكانيكيّة توارثتها عدّةُ أجيال، وأقعدت معلّمين متمرّسين فيها عن مهنتهم، لأنّها لم تعد مستساغةً للجيل الجديد.
مَن يحرص على التكوين المعرفي والثقافي واللغوي المستمر في أيّ مجال يرغب، يمكنه الظفرُ بمعلمين محترفين متطوعين في مختلف العلوم والمعارف واللغات، ولمختلف المستويات. فمثلًا لا يحتاج مَن يريد تعلّمَ لغة أخرى إلى حضور منتظم في المعاهد المعروفة لتعليم اللغات، لأن بإمكانه العودةَ إلى مواقع متخصّصة في اليوتيوب وغيره، تقدّم له تعليمًا ممتازًا مجانيًّا، وهو في بيته، ومن دون أن يتحمّل عناءَ الذهاب إلى مكان آخر، ودون أن ينفق شيئًا من ماله، ويبدّد وقتَه.
بلغ حجمُ الكمّيّة المتدفّقة من البيانات، في مختلف العلوم والمعارف والفنون والآداب، حدًّا يفوق قدرةَ الإنسان على مواكبته فضلًا عن استيعابه، لذلك لا يستطيع المتخصِّصون أو الهواة الاطلاعَ إلاّ على مساحةٍ محدودةٍ جدًّا منه. إذ «ستتجاوز كمّية البيانات الرّقميّة المنتجة خلال السّنوات الثّماني المقبلة 40 زيتا بايت، وهو ما يعادل 5200 جيجابايت من البيانات لكلّ رجل وامرأة وطفل على وجه الأرض. ولوضع الأمور في نصابها 40 زيتا بايت هو 40 تريليون جيجابايت. وتشير التّقديرات إلى أنّ هذه الكمّية تبلغ 57 ضعفَ عدد كلّ حبات الرّمال على جميع الشّواطئ على وجه الأرض. ومن المتوقّع أن تتضاعف جميع البيانات كلّ عامين حتّى عام 2020م»(3).
تستثمر اليوم ChatGPT وأمثالُها من تطبيقات الذّكاءُ الاصطناعي البياناتِ Data بوصفها منجمًا ثمينًا يجيب عن أسئلة الإنسان ويثري معارفه في مجالات العلوم المتنوّعة، والسّياسات، والاقتصاد وإدارة الأموال واستثمارها، والحقوق والحرّيات، والقيم، والأديان، والثّقافات والفنون والآداب، وكلِّ شيء. صارت البياناتُ مصدرًا أساسيًّا للذّكاء الاصطناعي، ولمختلف العلوم والمعارف، ولكلِّ شيء في حياة الإنسان ومعاشه. مَن يمتلك كمّيةً مذهلة من هذه البيانات ويراكمها كلَّ يوم يتفوّق غدًا على مَن يفتقر إليها. «على مدى عدّة عقود، كان تطوّر كلّ من الذّكاء الاصطناعي التّوليدي والتّعلّم الآلي مدفوعاً بالتّطوير المستمر للخوارزميّات المصمّمة لأداء مهام محدّدة. على مدار العقد الماضي، ازداد مستوى تعقيد هذه الخوارزميّات بصورة كبيرة. وفي أكثر مراحل تطوّرها أضحى بمقدورها أن تكتسب قدرة التّأدية الوظيفيّة من دون استمرار المدخلات البشريّة. وهذه القدرة على النّمو في غياب المدخلات البشريّة هي جوهر الذّكاء الاصطناعي، الذي هو أساس كلّ من الذكاء الاصطناعي التّوليدي والتّعلّم الآلي... الذّكاء الاصطناعي التّوليدي عبارة عن تقنية ناشئة تستخدم الذّكاء الاصطناعي، والخوارزميّات، ونماذج اللّغة الكبيرة لإنتاج عدّة أنواع من المحتوى، من النّصوص إلى الصّور إلى الفيديو. يستفيد التّعلّم الآلي من التّعلّم العميق وتقنيات الشّبكة العصبيّة، لإنشاء المحتوى الذي يستند إلى الأنماط التي يلاحظها في مجموعة واسعة من المحتويات الأخرى... مع الذّكاء الاصطناعي التّوليدي يمكنك القيام بمهام مثل تحليل الأعمال الكاملة لكتاب مشهورين، مثل: تشارلز ديكنز، أو جي كيه رولينغ، أو إرنست همنغواي؛ لإنتاج رواية أصليّة تسعى لمحاكاة نمط هؤلاء المؤلّفين وأنماط الكتابة لديهم»(4).
النّمطُ الجديدُ للحياة في عصر الهويّة الرّقميّة أضحى فيه الإنسانُ في صيرورة أبديّة، لا تكفّ عن التّحوّل، ولا تتوانى عن العبور، ولا تتوقّف في محطّة إلاّ لتلتقط أنفاسَها فتواصل الرّحيل. لم يعد الإنسانُ كما عرفته أكثرُ الفلسفات القديمة؛ كائنًا عاقلًا يلبث حيث هو، لا يكون جزءًا من شيء أو يكون جزءًا لشيء، بل صار الإنسانُ اليوم كأنّه جزءٌ من كلّ، هو محصّلةٌ لما حوله، أي إنّه في «حالة المابين»، كأنّ الإنسانَ مسافرٌ أبدي، لا ينفكّ عن التّرحال، لا يمكث بمحلٍّ إلّا ليغادره إلى محلٍّ غيره، تبعًا لنمطِ صيرورة الوجود السيّار المتحرّك لكلِّ ما هو حوله، فكلّ ما حوله يسير به، ويسير معه. إنسانُ اليوم كائنٌ سندبادي، يتلقّي مختلفَ الثّقافات في الآنِ نفسِه، من دون أن يغادرَ موطنَه. إنّه يعيش جغرافيا جديدة، تضاريسُها هلاميّةٌ، حدودُها واهيةٌ، أمكنتُها متداخلةٌ، ثقافتُها ملوّنةٌ، هويتُها تركيبيّةٌ. نمطُ حياته هو الأشدُّ غرابة منذ فجر التّاريخ(5).
التّعليم في عصر الهويّة الرّقميّة
أميّة الأساتذة الثّقافيّة والرّقميّة ليست خاصّةً بكثيرٍ من التّدريسيّين في الجامعات العربيّة، بل إنّها تغطّي أكثرَ الجامعات التي أعرفها في المحيط الإقليمي خارج فضاء التّعليم العالي العربي، كما تشير بعضُ البيانات والتّقييمات في جامعات شرقيّة وغربيّة إلى أنّها تعاني الأزمةَ نفسَها. ويعود ذلك إلى فقدان الرّؤية الاستراتيجيّة لبناء التّربية والتّعليم والثّقافة والإعلام في عصر الهويّة الرّقميّة والذّكاء الاصطناعي، والافتقار للإرادة الحازمة لتنفيذها، حتى إن كانت موجودةً في بعض البلدان فإنّها غيرُ صبورةٍ وهشة، وعدم الحماس للانخراط في العصر الرّقمي لدى القيادات، والافتقار للخبراء المؤهّلين تأهيلًا جادًّا لإنجازها، وضعف البنية التّحتية المادّية والتّكنولوجيّة والمعرفيّة اللاّزمة لولادتها وتنميتها.
هويّة جيل الألفيّة الجديدة رقميّة، هذه الهويّة وُلدت في فضاء وسائل الاتصال والذّكاء الاصطناعي، تواصل الهويّةُ الرّقميّة ولاداتِها باستمرار في فضاء الذّكاء الاصطناعي المتدفّق كشلاّلٍ هادر. الهويّة الرّقميّة لا تشبه أيّةَ هويّة من الهويّات الدّينيّة والعقائديّة والأيديولوجيّة والإثنيّة الموروثة، الهويّة الرّقميّة سيالة في صيرورة متعجّلة سريعة التّحوّل، لا تستقرّ على حال أبدًا، ولا تلبث في حالةٍ واحدة لسنوات، أو حتّى سنة واحدة. هذا يعني أنّ الجيل الجديد يتفاعل بنحو مختلِف مع الهويّات الرّقميّة وينتمي إليها بطريقته، لا كما كان يجري في الانتماء لهويّات العصر ما قبل الرّقمي، ما يحدث تناشزًا حادًا تزداد وتيرته وتتّسع فجوته بسرعة، بين نظامِ التّربية والتّعليم التّقليدي، والهويّةِ الرّقميّة المتغيّرة والمتواصلةِ الولادات وإعادةِ التّشكّل. في عصر الهويّة الرّقميّة يتفاقم اغترابُ الأستاذ عن التّلميذ، واغترابُ التّلميذ عن الأستاذ، ويُحدث ذلك تناشزًا يتضخّم كلَّ يوم بينهما، وينتهي إلى المزيد من الأمّية المعرفيّة والثّقافيّة والرّقميّة، التي تنعكس في الآتي:
1. إنّ زمانَ التّلميذ يختلف عن زمانِ الأستاذ، وأعنى الزّمانَ بمعناه التّربوي والتّعليمي والرّقمي، وليس الزّمان بمعناه الفيزيائي.كلُّ زمانٍ مشتقٌّ من نمطِ وجودٍ يختلف عن زمانٍ مشتقٍّ من نمطِ وجودٍ آخر. نمطُ وجودِ التّلميذ في العالَم هو واقع العالَم اليوم، ونمطُ وجودِ كثيرٍ من الأساتذة في العالَم هو ماضي العالَم. أغلبُ الأساتذةِ يعيشون اغترابًا عن حاضرهم، فينحازون بثقّةٍ مفرطة للماضي، وكأنّ كلَّ شيء في ذلك الماضي صوابٌ أبدي. القليلُ من الأساتذة من جيل الآباء استطاعَ حضورَ واقع العالَم، ومواكبةَ الذّكاء الاصطناعي والعيش في الواقع، ووعى نمط وجوده في عصر الهويّة الرّقميّة المتغيّرة، واستثمار ما تقدّمه له منصاتُ الاتصال وتطبيقاتُها المتنوّعة والذّكاء الاصطناعي من جديد العلوم والمعارف والثّقافات يوميًّا.
2. كلُّ نمطِ وجودٍ يفرض نظامَه التربوي والتعليمي المشتقَّ منه والمتناغمَ مع إيقاع صيرورته، وذلك النظامُ يفكّر بمنطقِ عقلانيةِ نمطِ ذلك الوجود، ويتعاطى تقاليده الثقافية، ويعتمد نظامَ قيمه، ويتحدّث لغتَه المتفرّدة. نمطُ الوجود في عصر الهوية الرقمية يفرض عقلانيتَه ورؤيتَه للعالم وقيمه وثقافته، لا يستطيع الإنسانُ التغلبَ عليه مهما عاند الانخراطَ في هذا العصر، أو الاحتماءَ من آثاره، والتّحكّمَ الكامل بحضوره الهائل. ذلك ما يدعو الإنسانَ في بلادنا لمواكبته، في سياق رؤية تتّسع لاستيعاب مكاسبه، وبناء أخلاقيّات تقي الإنسانَ من ارتداداته المربكة والعاصفة.
3. النّظامُ التّعليمي الذي يعبّر عن المتطلّبات التّعليميّة للتّلميذ في عصر الهويّة الرّقميّة، غيرُ النّظام التّعليمي التّقليدي الذي يعرفه الأستاذُ ويتعلّمه التّلميذ،كلٌّ منهما يفكّر بمنطق عقلانيّة العالَم الذي ينتمي إليه، ويتعاطى تقاليده الثّقافيّة، ويعتمد نظامَ قيمه، ويتحدّث لغتَه الخاصّة. اللّغةُ ليست أداةً محايدة، اللّغةُ تنتمي إلى منطقِ عقلانيّة العصر وثقافته، وذلك يعني أنّ الأستاذَ يفتقر لمعرفة لغة تلميذ عصر الهويّة الرّقميّة، والتّلميذ يفتقر لمعرفة لغة الأستاذ، فيكون الحوارُ بينهما بمثابة حوار الطّرشان.
4. العمليّةُ التّعليميّة عمليّةٌ ديناميكيّة وليست ميكانيكيّة، التّلميذُ فيها يُعلِّم الأستاذَ، مثلما يُعلِّم الأستاذُ التّلميذَ،كلٌّ منهما مُلهِم للآخر، ومكوِّنٌ لعقله، ومولِّدٌ لوعيه، ومحفزٌ لذهنه بطرح الأسئلة وابتكار الأجوبة.
5. عندما تكون العمليّةُ التّعليميّة ميكانيكيّةً تكفُّ عن أن تكون تعليميّة، وتفشل في أن تظلّ مُلهِمةً للتّلميذ والأستاذ، وتضمحل فاعليّةُ الأثر والتّأثير المتبادَل فيها، وغالبًا ما يصاب ذهنُ كلٍّ من المعلم والتّلميذ بالوهن، ويشعران بالملل والإحباط، الذي ربّما ينتهي لدى البعض لشعور بالقرف وحتّى الغثيان.
6. تكرارُ الأستاذ المملُّ لكلامٍ لا يفقه أسرارَ اللّغة التي ينجذب إليها التّلميذُ، ولا يدرك طبيعةَ انفعالاته ومشاعره، لا يمكن أن يمنح التّلميذَ علمًا ومعرفة ووعيًا بعصر الهويّة الرّقميّة الذي يعيش فيه، ولن يؤثّر في تكوين أسئلته ومتخيّله وأحلامه وهمومه المعرفيّة، ولا صلةَ له ببناءِ منظومةِ قيمه، وتقاليده الثّقافيّة. وينتهي ذلك إلى أن يتعاطى كلٌّ من التّلميذ والأستاذ مع العمليّة التّعلميّة بوصفها فرضًا، كلٌّ منهما ملزَمٌ بتأديته على شاكلته، الأستاذُ تلزمه ضروراتٌ معيشيّة، والتّلميذُ تلزمه ضروراتٌ يفرضها تقليدٌ مكرَّسٌ لتعليمه، بغضّ النّظر عن ثمراته ومآلاته.
7. الجيلُ الجديدُ يتلقّى المعرفةَ والثّقافةَ والقيمَ من وسائلِ الاتصال وتطبيقاتِها الكثيرة، وما تقدّمه مجانًا من موضوعاتٍ متجدّدة فاتنة جذابة، متنوّعةٍ بتنوّع مراحل العمر، ومتناغمةٍ مع مختلف مستويات الإدراك والفهم والاستيعاب. تتنوع الموادُ التي تنتجها وتسوقها وسائلُ الاتصال لكلِّ مرحلةٍ عمريّة حسب مستوى إدراكها وتذوّقها. سميراميس بنت ابنتي د. تُقى، عندما كانت بعمر سنتين، تمضي ساعاتٍ طويلةً كلَّ يوم تشاهد أفلامّا مخصّصةً لمرحلتها العمريّة، يبثها اليوتيوب، ولفرط تذوّقها لها وتفاعلها معها، تصرخ فزعةً لحظةَ يمنعها أحدٌ طالبًا منها الكفَّ عن إدمان ذلك.
8. لا يهتم النّظامُ التّعليمي بالاختلاف بين استعدادت الأطفال ومواهبهم، وما يفرضه موقعهم الطّبقي من تفاوت في تكوينهم المبكّر. تكوين الأطفال يختلف تبعًا للإمكانات المتاحة لهم، كما كشفت عن ذلك دراسة في أمريكا عن الأثر الذي يحدثه تلقّي الأطفال للغة في مرحلة مبكّرة من حياتهم في بناء وعيهم ورؤيتهم للعالَم، وكيف يتناسب وعيهم مع ما يتلقّونه من اللّغة، فتبيّن وجود تفاوت فاحش في تلقّي اللّغة تبعًا للتّفاوت الطّبقي، إذ أنّ أبناء العوائل الغنيّة إذا بلغوا 4 سنوات من عمرهم يكونون قد استمعوا إلى 43 مليون كلمة، لكنّ أبناء العوائل الفقيرة إذا بلغوا 4 سنوات من عمرهم لم يستمعوا إلّا إلى 13 مليون كلمة. والمعروف أنّ نضج الذّهن ونموه يتناسب وامتلاك اللّغة وحضورها وتفاعل الذّهن معها في الصّغر، فكلّما كانت الحصيلة اللّغويّة أثرى نضج الذّهن أسرع واتسعت آفاق الوعي أكثر.
9. مأزقُ أعضاء هيئة التّدريس أنّهم يعيشون في عصر الهويّة الرّقميّة وهو لا يشبه عصرَهم أمس، عصرٌ يمضي بسرعةٍ فائقةٍ إلى الأمام، لذلك ينسى هذا العصرُ مَن لم يتكيَّف معه، بل سرعان ما يمسي حضوره عبئًا عليه فيحذفه. أكثرُ الأساتذة عجزوا عن التّكيّف مع هذا العصر، لأنّهم يفتقرون للوعي العميق به، فيعجزون عن الاستجابةِ لمتطلباته ووسائله ورموزه ولغته. وأغلبُهم لا يمتلك إرادةَ التّمرّد على ماضٍ شديدِ الحضورِ في وجدانهم، والسّطوةِ على مشاعرهم. الماضي مكوّنٌ عميقٌ للاوعي الأساتذة من جيل الآباء، مازال عالقًا فيهم ومازالوا عالقين فيه.
10. إيقاعَ التّحولات أسرعُ من استجابة النّظام التّعليمي لاحتياجات الأبناء، ذلك أنّ وتيرةَ التّبدّل في كيفيّة عمل الذّهن أسرعُ من القدرة على مواكبتِه والانتقالِ بما يستجيب له ويتناغم معه في أنظمة التّربية والتّعليم، من هنا ستتّسع الفجوةُ بالتّدريج بين هذه الأنظمة وطبيعةِ احتياجات الجيل الجديد، التي قد يعجز عن تلبيتها حتّى النّظامُ التّعليمي في البلدان المتقدّمة.كما تتطلّب كلُّ الأجهزة التي تعمل على وفق أنظمة الذّكاء الاصطناعي تحديثًا مستمرًّا يرتقي بكفاءة أدائها،كذلك هو النّظام التّعليمي في عصر الهويّة الرّقميّة ، فما لم يتم تحديثُه تنتهي صلاحيّتُه ويخرج من التّداول.
11. لا غرابةَ ألاّ يحرص أعضاءُ هيئة التّدريس على التّكوين الأكاديمي والثّقافي والرّقمي في عصر لا يشبههم، وأكثرُهم فشلوا في التّكيّف معه. ذلك أنّ طرائقَ ووسائلَ وأداواتِ التّكوين المعرفي والثّقافي في عصر الهويّة الرّقميّة تختلف عن تلك التي عرفوها وتمرّسوا بها وأدمنوا عليها أمس حتّى صارت مكوّنًا لهويتهم المعرفيّة، لذلك نجد أكثرَهم يفتقدون أيَّ حافزٍ لامتلاك ما هو جديد.
12. يُصاب الأستاذُ بالملل عندما تنضب منابعُ الإلهام لديه، ويفتقر للطّاقة المُلهِمة للاستجابة الفاعلة من التّلميذ، فيفتقد الحوافزَ العميقةَ للتّعليم المستمر، وتنمية التّكوين الأكاديمي، والحرص على الحضور في الفضاء الرّقمي ومواكبة وتيرة تطوّره الفائقة. وربّما يُصاب الأستاذ بالقرف وهو يكرّر كلامًا لا ينتج علمًا لدى المتلقّي ولا يكوّن معرفةً، ولا يؤثّر في بناء وعي التّلميذ، ولا يوسّع متخيّله وأحلامه العلميّة.
الهوامش
(1) المطيري، غادة، «الذكاء الاصطناعي»، اندبندت عربية 11 يونيو 2019.
(2) 19 جريدة الشرق الأوسط، 19 - 6 – 2024.
(3) أحمد، أبو بكر سلطان، البيانات الضخمة: خصائصها وفرصها وقوتها، الفيصل العلمية، الصادرة بتاريخ 28-11-2017.
(4) جريدة الشرق الأوسط، 9 يوليو 2024.
(5) الرفاعي، د. عبدالجبار، «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير، الطبعة الثانية، 2019، ص 65.
|