تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
مبدأ التعارف
 يمثل التّعارف مبدأ أساسيّاً يحثّ على التّواصل الإيجابي بين النّاس، مرتكزا على القيم التّربويّة الأصيلة والتي تعزّز التّسامح والتّعاون بين أفراد المجتمع. ينبغي أن نتفهم أنّ التّعارف لا يقتصر فقط على التّعرّف السّطحي على الآخرين، بل يتضمّن أيضاً فهماً عميقاً لهم ولثقافاتهم واحترام حقوقهم وقيمهم.
يمثّل قول اللّه تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات: 13) مرجعا أساسيّا للنّظام السّياسي العادل والسّلمي، ذلك أنّه تطبيق للمساواة بين البشر، ينفي العرقيّة والطّبقيّة والطّائفيّة والعنصريّة بكلّ أشكالها ومظاهرها لتبقى التّقوى معيارا خلقيّا وحيدا. كما يأتي من مبدأ التّعارف منطق العمل إذ التّحرّر من العنصريّة يؤدّي بالضّرورة الى التّعاون على الأمر بالمنطق السّليم.
أحد أهم مظاهر التّعارف هو تحقيق مبدأ العدالة وهي مرتكزة على مفهوم أساسي هو المساواة بين النّاس، بغضّ النّظر عن الاختلافات الثّقافيّة أو العرقيّة أو الدّينيّة. فالتّعارف يساعد على إزالة الغموض والتّفاهم الخاطئ، ويسهم في بناء جسور التّواصل بين مختلف أفراد المجتمع.
من خلال التّعارف، يمكن للنّاس أن يتبادلوا الخبرات والمعرفة، ويستفيدوا من تجارب بعضهم البعض في مختلف المجالات. وهذا يؤدّي إلى تعزيز الرّوابط الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة، وبالتّالي يسهم في بناء مجتمع متكافل ومتماسك.
تعزيز قيم التّسامح والاحترام يعتبر أحد الأهداف الرّئيسيّة للتّعارف كمبدأ أساسي يحكم الفعل السّياسي. إذ يحثّ الإسلام على التّعامل بلطف ورحمة مع الآخرين، ويحثّ على تقدير الاختلافات الفرديّة واحترامها. وهذا يسهم في بناء جوّ من الودّ والمحبّة بين أفراد المجتمع، ويقيم قواعد التّعاون والتّضامن.
بشكل عام، يمكن القول إنّ التّعارف في الفعل السّياسي ليس مجرّد أسلوب حياة فقط، بل هو مبدأ يحكم الفعل السّياسي بحيث إن تمّ المساس به يختل التّوازن في الكيان بصفة عامّة. فمبدأ التّعارف إذن، يشجّع على التّواصل الإيجابي وبناء العلاقات الصّحيحة بين النّاس، وهو مبدأ يعزّز التّضامن والسّلام في المجتمع، ويعمل على تحقيق الازدهار للكيان، الأمر الذي يجعلنا نتّجه إلى دراسته في ذاته (الجزء الأول) وفي موضوعه (الجزء الثاني).  
الجزء الأول: مبدأ التعارف في ذاته  
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأول أساس المبدأ (العنصر الأول) والثاني مبرّراته (العنصر الثّاني) 
العنصر الأول: أساس المبدأ 
يتأسَّس مبدأ التّعارف في الإسلام على عدّة أسس رئيسيّة تنبع من القيم والمبادئ الإسلاميّة الأصيلة، التي تهدف إلى بناء مجتمع متكافل ومترابط. من أهمّ هذه الأسس:
الوحدانيّة: يمثّل الإيمان باللّه الأساس الذي يقوم عليه مبدأ التّعارف في الإسلام. يؤمن المسلمون بأنّ اللّه تعالى هو الخالق الحكيم الذي خلق النّاس مختلفين في ألوانهم وأعراقهم ولغاتهم، وهذا الاختلاف يُعتبر بمثابة رحمة وحكمة إلهيّة تدلّ على تنوّع الخلق وعظمة الخالق.
الاعتراف بالكرامة الإنسانية: يعتبر الاعتراف بالكرامة الإنسانيّة أحد الأسس الأساسيّة لمبدأ التّعارف. فكلّ إنسان يُعتبر في الإسلام حاملاً لكرامة عظيمة لا يمكن المساس بها، مهما كان لونه، أو جنسه، أو دينه، أو أي اختلاف آخر. هذا الاعتراف ينطلق من قول اللّه تعالى في القرآن الكريم ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...﴾(الاسراء:70)، ممّا يعكس أنّ الكرامة الإنسانيّة محفوظة لكلّ إنسان بغض النّظر عن أيّ اختلافات. وهو مبدأ وقع التّنصيص عليه (1) 
الاحترام المتبادل: يعتبر الاحترام المتبادل أحد أهمّ القيم التي يقوم عليها مبدأ التعارف. فالاحترام يشمل قبول الاختلاف وتقدير الآخرين بغض النّظر عن اختلاف وجهات النّظر أو الثّقافات أو العادات. يُعلم الإنسان بأهمّية تقدير الآخرين ومعاملتهم باللّطف والمودّة والاحترام، وهذا يعزّز التّواصل الإيجابي والتّفاهم بين النّاس ويسهم في بناء علاقات قويّة ومتينة.
بهذه الأسس الثّلاثة، يتمّ بناء مبدأ التّعارف على أسس قويّة من التّكافل والتّآخي والتّفاهم، ممّا يسهم في بناء مجتمع إسلامي متسامح ومترابط يعمل على تعزيز السّلم والازدهار للجميع.
العنصر الثّاني: مبرّرات المبدأ 
يتمتّع مبدأ التّعارف بمبرّرات قويّة تبرز أهمّيته وضرورته في بناء كيان مترابط ومتسامح وصحّي، ويحتوي في طيّاته القيم الكونيّة الأساسيّة كالصّبر والشّكر اللذين لا يزيدان الكيان إلاّ تماسكا بين أفراده. ومن بين هذه المبرّرات نجد:
الأمر الإلهي: يعتبر أمر التّعارف في الإسلام واجبًا شرعيًّا، إذ يعطي اللّه تعالى أمرًا صريحًا للنّاس في الآية 13 من سورة الحجرات(2) بالتّعارف والتّفاهم، ويؤكّد أنّ الاختلاف في الأعراق والقبائل هو من رحمته وحكمته.
الحكمة الإلهيّة: يعتبر التّعارف وسيلة لفهم الاختلافات التي خلقها اللّه بين النّاس. فاللّه تعالى خلق الكون متنوّعا، فوضع هذا التّنوع كجزء من خطّته الإلهيّة. ومن خلال مبدأ التّعارف، يمكن للأفراد فهم هذه الاختلافات واحترامها، والاستفادة منها في بناء كيان متنوّع ومترابط. 
المصلحة العامّة: يحقّق مبدأ التّعارف المصلحة العامّة للكيان، من خلال تعزيز التّعاون والتّرابط بين مكوّناته وبناء علاقات إيجابيّة بينها. فالتّعارف يساعد على كسر الحواجز الاجتماعيّة والثّقافيّة، ويعزّز التّفاهم والتّسامح بين الأفراد، ممّا يؤدّي إلى بناء كيان أكثر تسامحاً وتعاوناً وازدهارًا.
بهذه المبررات، يُظهر مبدأ التّعارف أنّه ليس مجرّد قاعدة أخلاقيّة، بل هو مبدأ يحكم الفعل السّياسي، يحقّق مصلحة عامّة وخاصّة من خلال تعزيز الوحدة والتّضامن والتّفاهم بين أفراده.
الجزء الثّاني: مبدأ التّعارف في موضوعه  
يمكن تقسيم الجزء الثّاني إلى عنصرين؛ الأول نتائج المبدأ (العنصر الأول) والثاني حدود المبدأ (العنصر الثّاني) 
العنصر الأول: نتائج المبدأ 
يؤدّي تطبيق مبدأ التّعارف في إطار الكيان إلى نتائج إيجابيّة متعدّدة تسهم في بناء أفراد مترابطين ومتماسكين من خلال تركيز البعد المؤسّساتي ما يضمن السّلامة والاستقرار داخل إطار الكيان ويعزّزهما. ومن أبرز هذه النّتائج:
مجتمع متماسك: يساهم التّعارف في بناء مجتمع (2) متماسك يستند إلى القيم الكونيّة، حيث يتعاون أفراده ويتآخون في سبيل تحقيق المصالح العامّة ومواجهة التّحديات بشكل مشترك. يتمتّع هذا المجتمع بروح التّضامن والتّعاون، ممّا يعزّز الشّعور بالانتماء لدى أفراده.
علاقات إيجابيّة: يؤدّي التّعارف إلى بناء علاقات إيجابيّة ومتينة بين أفراد المجتمع، تقوم على المودّة والاحترام المتبادل. تعزّز هذه العلاقات الرّوابط الاجتماعيّة وتسهم في نشر السّلام والمحبّة بين النّاس.
فهم الاختلافات: يساعد التّعارف على فهم الاختلافات بين النّاس ونبذ التّعصب والتّمييز. فمن خلال التّفاعل مع الآخرين، يكتسب الأفراد فهمًا أعمق لتنوّع الثّقافات والخلفيّات والآراء، ممّا يعزّز التّسامح والتّعايش السّلمي في المجتمع.
مجتمع آمن: يساعد التّعارف على بناء مجتمع آمن، حيث يتّسم بالاستقرار والسّلام. فالتّفاهم والتّعاون بين أفراد المجتمع يقلّل من الصّراعات والتّوترات، ويعزّز الشّعور بالأمان والاستقرار النّفسي لدى الأفراد.
نظام سياسي عادل وسليم: يؤمن بالتّداول على السّلطة ويكرّس التّوازن الفعلي بين السّلط عبر توزيع عادل للسّلطات بأبعادها الخمسة (الوجود، العلميّة، السّياسيّة، الاقتصاديّة والذّوقيّة) الأمر الذي يعزّز إسهام المنتفع في الفعل السّياسي عبر المشاركة في صنعه للقرار السّياسي.
باختصار، يُظهر تطبيق مبدأ التّعارف في مجتمع الكيان نتائج إيجابيّة متعدّدة تعزّز التّواصل الإيجابي وبناء العلاقات الصّحيحة، وتساهم في بناء مجتمع مترابط ومزدهر يسوده السّلام والاستقرار.
العنصر الثاني: حدود المبدأ 
عندما يتمّ تطبيق مبدأ التّعارف في المجتمع، يجب أن يكون هناك وعي ببعض الحدود التي ينبغي الالتزام بها. هذه الحدود تساعد في الحفاظ على القيم والمبادئ الإسلاميّة بما هي مبادئ كونيّة وضمان سلامة الكيان واستقراره في بعده المجتمعي. ومن بين هذه الحدود:
الحفاظ على الدّين: إذ يجب أن يكون التّعارف مع أولئك الذين يحترمون الدّين ويحترمون معتقدات غيرهم. فلا يُسمح بالتّعارف مع أولئك الذين يحاولون زعزعة العقيدة أو يسعون إلى إبعاد الفرد عن دينه بطرق مختلفة. فالحفاظ على الدّين يضمن استمراريّة الهويّة والحفاظ على قواميس القيم، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ التّعدّد الدّيني مقصود لتحقيق ما يتجاوز حدود الواقع بآليّة التّسابق في الخيرات.
الحفاظ على الأخلاق: إذ يجب أن يكون التّعارف مع أولئك الذين يلتزمون بالأخلاق الفاضلة ويتّصفون بالنّزاهة والصّدق والعفّة. أمّا أولئك الذين يخالفون الأخلاق الإسلاميّة ويمارسون الأعمال غير القانونيّة أو غير المحترمة، فينبغي مقاومتهم بالمقاومة النّاعمة عبر آليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
الحفاظ على الأمن: فيجب أن يتمّ التّعارف مع أولئك الذين لا يشكّلون خطرًا على الأمن العام والسّلامة الشّخصيّة للأفراد والمجتمع بشكل عام. أمّا أولئك الذين يمارسون أعمال العنف أو يهدّدون الأمن والاستقرار، فينبغي مقاومتهم بالمقاومة العنيفة أي عبر القضاء.
باختصار، يعتبر وضع حدود لتطبيق مبدأ التّعارف ضرورة في المجتمع الإسلامي، حيث تساهم هذه الحدود في الحفاظ على القيم الكونيّة وضمان سلامة الكيان واستقراره. من خلال الالتزام بهذه الحدود، يمكن بناء مجتمع قويّ ومزدهر.
الهوامش
(1) راجع مقالنا السّابق مبدأ الكرامة الوجوديّة، مجلّة الإصلاح العدد 203، جوان 2024
(2) ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾
(3) للأسرة كذلك مجتمع، وهم الافراد المكونين للأسرة