التربية والتعليم
بقلم |
د.أشواق طالبي المصفار |
المدرسة بين القدوة و القيادة (2-2) |
3. الأخصائي الاجتماعي شرط السلامة التّربوية
تُسند الخدمة الاجتماعيّة داخل المجال المدرسي إلى الأخصائي الاجتماعي الّذي يعمل على تطوير مختلف مهارات المتعلّم ومرافقته في رحلة بناء شخصيّته خاصّة في السّياق التّعلّمي، والنّفسي، والعاطفي. وهذا الأخصائي الاجتماعي يساهم في تعزيز بيئة تعليميّة صحيّة ومناسبة للجميع داخل المدرسة لكونه يعتبر بمثابة الخبير في الصّحّة النّفسيّة والاجتماعيّة، وهو الخبير في تطوير البرامج الهادفة، والقائد في التّنمية الاجتماعيّة، والمنسّق للعلاقات بين التّلاميذ أنفسهم، بين التّلميذ والمعلم وبين المدرسة والعائلة، وهو الّذي يسهر على المساعدة في حلّ المشكلات الّتي قد تؤثّر في التّحصيل المدرسي للمتعلّم، ويمدّ المتعلّمين بالدّعم العاطفي اللاّزم من أجل التّعامل الصّحّي مع المشكلات الشّخصيّة. فهل يؤثّر افتقار المدرسة لهذا العنصر البشري التّربوي في المناخ السّليم داخل المدرسة؟
إنّ المتأمّل اليوم في الواقع المدرسي التّونسي، يلاحظ التّأثير السّلبي في البيئة المدرسيّة لغياب الأخصائي الاجتماعي، حيث يتجلّى ضعف الوعي بدوره داخل المدرسة بشكل كبير، حيث أنّ هذا الأخير يلعب دوراً حيوياً في دعم المتعلّمين وتعزيز رفاهيتهم العامّة. ويمكن حصر مظاهر هذا الغياب في النّقاط التّالية:
* نقص التّوجيه الشّخصي: يساعد الأخصائي الاجتماعي التّلميذ على التّعامل مع التّحديات الشّخصيّة والعائليّة الّتي قد تؤثّر في تحصيله الدّراسي، ففي غياب هذا الأخصائي يفتقر المتعلّم إلى الدّعم اللاّزم لتطوير مهارات التّحكم في النّفس والقدرة على حلّ المشكلات.
* تفاقم النّزاعات: في غياب الأخصائي الاجتماعي النّاصح والموجّه يعمّ التّوتّر بين التّلميذ والتّلميذ، وحتّى بين التّلميذ والمدرّس، ما يؤدّي في بعض الأحيان إلى ظهور حالات من العنف داخل الفضاء المدرسي.
* عدم الوعي بالقضايا الاجتماعيّة: يساعد الأخصائي الاجتماعي على نشر الوعي بالقضايا الاجتماعيّة المهمّة مثل التّنمّر والعنف المدرسي والتّعاطي مع الضّغوط النّفسيّة، وفي حالة الغياب، تظلّ هذه القضايا غير معالجة بشكل فعّال في المدرسة.
* نقص التّواصل مع الأسرة: يضطلع الأخصائي الاجتماعي بدور مهمّ في تواصل المدرسة مع أولياء الأمور وتقديم الدّعم والمشورة لهم، وفي غيابه، قد تفتقر المدرسة إلى القنوات الفعّالة للتّواصل مع الأسرة.
لكلّ هذا، لابدّ أن تعي مختلف الأطراف التّربويّة من سلطة إشراف وسلطة تنفيذ ضرورة وجود أخصائي اجتماعي داخل المدرسة لما يضطلع به من دور كبير في تفادي مظاهر العنف، فهو الوسيط في حلّ النّزاعات والتّصادمات من خلال إدارة حلقات توجيه وإسداء النّصيحة والمشورة، وتعزيز الاتصال بين المدرسة والأسرة وبين المدرسة والمجتمع المحلّي، كما يمكنه تعزيز الوعي الجماعي في صفوف التّلاميذ والمشرفين، بخطر مشكلة العنف داخل المدرسة وتأثيراتها السّلبيّة العميقة في الصّحة الجسديّة والنّفسيّة، فالعنف يسبّب عاهات جسديّة وعقليّة، وسلوكيّة، ويزيد من مشاعر الخوف والقلق والحالات الهستيريّة مثل اضطرابات ما بعد الصّدمة والتّوتر النّفسي المزمن إلى جانب توتّر العلاقات الاجتماعيّة والعائليّة. يعمل الأخصائي الاجتماعي على تدريب مهارات لحلّ المشكلات من أجل التّعامل مع التّصادمات بشكل بناء، والبحث عن حلول سليمة بعد أن غدت العقوبات الزّجريّة غير مجدية وغير رادعة.
ومن أبرز الفوائد المُنجرّة عن حضور الأخصائي الاجتماعي، في الفضاء المدرسي، أنّه يسهر على المساهمة في تطوير برامج أنشطة تربويّة، تثقيفيّة، اجتماعيّة، وقائيّة للحدّ من حالات العنف وتوجيه المتعلّمين إلى إفراغ الطّاقات السّلبيّة وتحويلها إلى طاقات إيجابيّة، وهذه الأنشطة توفّر منصّات للتّعبير عن النّفس وتطوير المهارات الشّخصيّة مثل المهارات التّواصليّة واتخاذ القرار، وتحمّل المسؤوليّة، وإدارة الوقت وتنظيمه بالإضافة إلى تنمية المهارات القياديّة كالانخراط في الكشّافة مثلا، وتعزيز الشّعور بالانتماء والمساهمة الإيجابية.
إنّ وجود الأخصائي الاجتماعي داخل المدرسة يساعد على خلق بيئة تعلّمية آمنة تساعد على تطوير النّمو الشّخصي والاجتماعي والإبداعي لدى المتعلّم، ما يساهم في تطوير استراتيجيّات للتّعامل مع التّحديات الاجتماعيّة والنّفسيّة، ممّا يُخفّف من وطأة مظاهر العنف.
4. المعلّم القائد الكاريزمي
يضطلع المربّي فيما يقوم به ثني عمله التّربوي بوظيفة القائد في فضاء الصّف والقسم(10)، فهو مسؤول عن تجسيد مقولة النّظام بدءا من شدّ الطّلاب إلى الدّرس حضوريًّا، ومراقبة سلوكهم داخل الفصل، وإرشادهم وتوجيهم، وإرساء الأمن بينهم وإشعارهم بالثّقة بالنّفس. ومن الوظائف التّربوية أيضًا، الظّهور بمظهر المعالج لحالات الاضطراب النّفسي والمعرفي والسّلوكي، ولعلّ من أهمّ المهام التّربوية، نقل خبرات الانتظام وخلق الاتجاهات الإيجابيّة المساعدة على النّجاح داخل الفضاء المدرسي وخارجه لأنّ التّربية أوسع بكثير من حدود الدّرس(11).
إنّ تحلّي المعلّم بالكاريزما وصفات القيادة عامل مهمّ في بناء بيئة تعليميّة إيجابيّة ومحفّزة، فالمعلّم الّذي يتمتّع بالكاريزما يستطيع أن يلهم المتعلّم، وينمّي فيه الدّافعيّة للتّعلّم. وهو يخلق جوّا من الثّقة والتّعاون ويساعد على تطوير مهارات المتعلّم، ويمكن أن يكون نموذجا إيجابيّا يقتدى به. فما هي أهمّ صفاته؟
1.4. صفات المعلّم الكاريزمي الخارجيّة
- المظهر الخارجي: يوحي المظهر الخارجي والأنيق للمعلّم الكاريزمي بالثّقة والاحترام، ما يخلق انطباعا إيجابيّا في ذهن المتعلّمين ممّا يزيد من استعدادهم للاستماع والإقبال على التّعلّم.
- الإلهام والتّحفيز: قد يلهم المظهر الأنيق والنّظيف للمعلّم تلاميذه ويحفّزهم على المحاكاة للظّهور بالمظهر الجميل.
- التّميّز والقدوة: يمثّل المعلم بمظهره الأنيق القدوة الحسنة للمتعلّمين فيما يتعلّق بالعناية بالمظهر الخارجي الشّخصي والاهتمام بالتّفاصيل الأمر الّذي يخلق عندهم حبّ التّميّز.
- الاسم: من شأن اسم المعلّم الكاريزمي إن كان جذّابا أو مميّزا أن يخلق جوّا مريحا مثيرا وملهما للتّعلّم، فقد أثبتت الدّراسات في مجال علم النّفس التّربوي كالّذي توصل إليه «بوستيك» من أنّ الاسم له تأثير في نجاح الفرد معلّمًا كان أو متعلّمًا، فالاسم المميّز يخلق روابط إيجابيّة بين المدرّس والتّلاميذ ويزيد في اهتمامهم بتعلّم المادّة التّعليميّة ويساهم في زيادة الاندماج.
2.4. صفات المعلّم الكاريزمي الأخلاقيّة
- النّزاهة والصّدق: المعلّم الصّادق والنّزيه في تعامله مع المتعلّمين يكسب ثقتهم بسرعة، ممّا يجعلهم يشعرون بأنّهم في بيئة آمنة محفّزة على التّعلم.
- العدالة والمساواة: يسهم المعلّم القائد الّذي يظهر عدالة ومساواة في معاملته مع المتعلّمين في تسهيل الاندماج وتحقيق التّعلم الفعّال. يعتبر «بيار بورديو» السّياق المؤسّساتي، بما في ذلك القوانين والقواعد والتّقاليد داخل المدرسة، عاملاً مهمّاً في تشكيل العلاقات الاجتماعيّة وتوزيع السّلطة والموارد. ويمكن لهذه الهياكل المؤسّسيّة أن تسهم في إنتاج بيئة مدرسيّة تفتقر إلى العدالة والمساواة، ممّا يزيد من احتمالات حدوث العنف والتّمييز(12).
- التّعاطف والاهتمام: عندما يبدي المعلّم اهتماما وتعاطفا مع المتعلّمين ويدعّمهم في مواجهة التّحديات والصّعوبات فإنّه يُشجّعهم على الإقبال على الدّرس واستيعابه.
- الصّبر والتّسامح: المعلّم الملهم هو الّذي يظهر صفات الصّبر والتّسامح في التّفاعل مع المتعلّم وتفهّم حاجياته وميوله الفرديّة ما يزيد من دافعيّة التّعلّم لديْه.
- الاحترام والتّودّد: إنّ المتعلّم القائد هو من يظهر احتراما وتودّدا تجاه المتعلّمين، ويشعرهم بأنّهم جزء لا يتجزأ من عمليّة التّعلم.
3.4. صفات المعلّم الكاريزمي المهاراتيّة
- الثّقة بالنفس: يُظهر المعلم الكاريزمي ثقة كبيرة بالنّفس وبقدرته على تحقيق تأثير إيجابي في المتعلّم؛
- التّواصل الفعّال: يمتاز المعلم الكاريزمي بقدرة على تفهّم احتياجات المتعلّم والإصغاء إلى مشاغلهم وتشريكهم في بناء المعارف والخبرات؛
- الشّغف والحماس: ينقل المعلّم الكاريزمي حماسه وشغفه لمهنته وللمادّة المدَرّسة إلى المتعلّمين ما يجعلهم يشعرون بالإلهام والتّحفيز لمزيد التّعلم؛
- التّفاؤل والإيجابيّة: ينشر المعلّم الكاريزمي جوّا من التّفاؤل والإيجابيّة داخل الفصل الدّراسي مشجّعا على النّمو والتّطوّر وتحقيق الأهداف؛
- الاهتمام بالمتعلّم كفرد: يُبدي المعلّم الكاريزمي اهتماما بالمتعلّم لذاته قبل نتائجه، ويعمل على بناء علاقة إيجابيّة وملهمة معه؛
- القدرة على الإدارة الفعّالة للصّف: يُدير المعلّم الكاريزمي الدّرس ببراعة عن طريق خلق بيئة تحفيزيّة مريحة للتّعلّم؛
- القدرة على التّكيف والابتكار: يتمتّع المعلّم الكاريزمي بالقدرة على التّكيف مع حاجيات المتعلّم، واستخدام طرق تدريس مبتكرة وملائمة لتلبية تلك الحاجات؛
يضطلع المعلّم الملهم بدور بارز في تشكيل تجربة التّعلّم، وبصفاته الكاريزماتيّة المتعدّدة يلهم تلاميذه ويكون القائد المحفّز على تحقيق الإمكانات. أمّا غياب شخصيّة المعلّم القائد الكاريزمي عن الوسط المدرسي فهو يؤثّر سلبا في المناخ التّعليمي-التّعلّمي، وعندئذ يشعر المتعلّم بالفراغ والقلق، ويفشل في بناء علاقات إيجابية مع الأقران أو مع مختلف الأطراف التّربويّة، وهذا الغياب يؤدّي أيضا إلى زيادة حالات العنف في المدارس.
إنّ خرّيجي المراحل التّعليميّة، اليوم، يشتكون من ضعف فادح في مستوى البيداغوجيا وفي مستوى المهارات الحياتيّة الأمر الذي يحول دون قدرتهم على خلق بيئة تربويّة تفاعليّة ملهمة، فالمعلّم الّذي يشكو من نقص الإلهام والقدوة لا يمكنه أن يزرع السّلوكيّات الإيجابيّة لدى المتعلّم، ويكون غير قادر على خلق التّواصل الفعّال وبناء علاقات طيبة مع التّلاميذ ما يُنفّرهم من التّعلم ويخلق لديْهم شعورًا بالإحباط والملل ما يؤدّي إلى الإقدام على سلوكات سلبيّة، ولاسيّما عند غياب الدّعم والتّوجيه، فإنّ المتعلّم قد يلجأ إلى سلوكات عنيفة كوسيلة للتّعبير عن استيائه وتفريغ شحنة الضّغوطات. وعندئذ تنعدم القدرة على فرض الانضباط، والسّيطرة على مسار الدّرس الأمر الذي يزيد من احتمالات السّلوك العدواني والسّقوط في ارتكاب العنف داخل المدرسة.
والحاصل ممّا سبق، يمكن القول بأنّ غياب شخصيّة المعلّم الكاريزماتيّة قد يساهم في تفاقم مشكلة العنف داخل المدارس حيث يحتاج المتعلّم إلى دعم متواصل وإرشاد وتوجيه من قبل مربّين ملهمين وقادرين على بناء علاقات إيجابيّة معهم. ولكلّ هذا يتوجب على سلطة الإشراف التّربويّة أن تولّي اهتماما كبيرا بتكوين الإطارات التّربويّة وتدريب المعلّمين من أجل تنمية المهارات الحياتيّة والقيادات الكاريزماتيّة التّي تلهم وتدعّم المتعلّم في رحلته المعرفيّة والتّربويّة.
خاتمة
لقد حاول هذا البحث تشخيص أهمّ الشّروط اللاّزمة لنجاح العمليّة التّربويّة بدءًا بالإشارة إلى مستلزمات الفضاء التّربوي وشروط المُربّي وما يتطلّبه التّعليم من أسوة حسنة وصولاً إلى ضرورة توفير المرافق المختصّ الّذي يأخذ بيد المُربّى من أجل توفير السّلامة النّفسيّة والسّلوكية. ويمكن أن نشير إلى أنّ العنف داخل المدرسة ليس مجرّد ظاهرة فرديّة، وإنّما يتمّ إنتاجه وتكراره بواسطة الهياكل الاجتماعيّة والمؤسّسيّة الّتي تشكّل بيئة المدرسة وتُكوّن الهويّات الاجتماعيّة للمتعلّم، علمًا بأنّ الحلّ يكمن في إرساء مدرسة دامجة تغرس القيم الإنسانيّة عبر الممارسة كما يراها «جون ديوي»، أي التّعلّم بالعمل أو التّعلّم العملي، التّعلّم من خلال التّجربة وليس التّعلّم عن طريق ملء الدّماغ. فهو يربط بين التّعلّم والحياة اليوميّة والتّفاعل مع البيئة، فالتّعلّم بالخبرة يساهم في بناء المعرفة وتطوير المهارات. والتّعلّم ليس مقتصرا على ما يجري داخل الفصل الدّراسي، بل يحدث في كلّ موقف وتجربة يمرّ بها الفرد، فالتّربية هي الحياة والتّعليم من المهد إلى اللّحد.
إنّ رفض المدرسة اليوم أن تكون مكانا للحياة إنّما هو بمثابة انتحار أخلاقي للمجتمع خاصّة وأنّ علماء النّفس والاجتماع يتّفقون على أنّ التّعلّم يستند إلى مبدأين:
1 - إنّ ما نتعلّمه يجب أن نمارسه.
2 - و أنّنا لا نتعلّم كلّ شيء نمارسه، فنحن نتعلّم فقط الشّيء الّذي ننجح في أدائه.
وعلى المدرسة اليوم أن تعي أهمّية العمل التّطبيقي ودوره في الاختراعات والابتكارات وتنمية المهارات الإبداعيّة وأنّه لا يوجد فصل بين النّظر والعمل وبين الخبرة والمعرفة. إنَّ من أهمّ الاعتبارات الّتي يجب أنْ تضعها التّربية نصب عينيها، اليوم، أنّ ما أحرزه التّلميذ من تقدّم في عمليّة التّعلّم لا يكون بما حفظه من معارف، وإنّما بمدى قدرته على العمل والنّشاط وأداء السّلوك الحسن القائم على التّبصر والذّكاء، كما على المدرسة أن توفّق بين الجانب النّفسي والجانب الاجتماعي، ذلك أنّ غرائز المتعلّم وقدراته تمثّل نقطة البداية الّتي تعتمدها عمليّة التّربية، وإذا ما أهملت تؤدّي إلى وضع عراقيل أمام النّمو الطّبيعي للفرد وتلقي به في أحضان الاتّجاهات السّلبيّة.
والجدير بالملاحظة، أنّ المناهج التّربوية اليوم ترهق طبيعة الطّفل، وتجعل من الصّعب عليه أنْ يُحقّق نموه الخلقي الصّالح عندما تهجم عليه بمواد كالقراءة أو الكتابة أو الجغرافيا؛ ما يكون بعيد الصّلة عن واقع الحياة الاجتماعية(13)، فليس لتدريس مادّة التّاريخ مثلا قيمة تربويّة إلاّ بمقدار ما يعرض من أوجه الحياة الاجتماعيّة ونُموّها، وعندما يدرّس على أنّه مُجرّد أحداث الماضي، فإنّه يُلقى في أغوارها ويُصبح ميّتًا بغير حركة، أمّا حين يدرّس على أنّه سجلّ لحياة الإنسان الاجتماعيّة وتقدُّمه فإنّه يصبح زاخرا بالمعاني، ولا يمكن أنْ ندرّس التّاريخ إلاّ إذا اتصل الطّفل اتصالا مباشرا بالحياة الاجتماعيّة، وعليه نجعل الطّفل قادرا على أداء أنواع النّشاط الّتي حقّقت للحضارة ما هي عليه، فلا يوجد أي تتابع في الدّراسة في المنهج المدرسي المثالي، وإذا كانت التّربية هي الحياة، فلكلّ حياة منذ البداية جانب علمي وجانب فنّي وثقافي، وجانب خاصّ بطرائق الاتّصال بين الأفراد، فلا يمكن أن يكون صحيحا أنَ الدّراسة الملائمة لفصل مدرسي هي مجرّد القراءة والكتابة، وفي فصل أرقى هي الأدب أو العلوم، ليس التّقدم في تتابع الدّراسات، ولكن في نمو الاتّجاهات والاهتمامات نحو الخبرة، فالتّربية إنّما تكون عن طريق الخبرة المستمرة.
والواضح، أنّ المدرسة اليوم تواجه تحدّيات مختلفة وعليها أن تسعى جاهدة إلى غرس العادات الحسنة في العمل والفكر الّتي تعتمد على الحقّ والخير والجمال حتّى تسير بالمتعلّم سيرا سلوكيّا سليما وسويّا، فالتّربية إنّما تكون بالفكر والسّاعد كما يؤكّد ابن خلدون، وهي الطّريقة الأساسيّة للتّقدم والإصلاح الاجتماعي، لا تكون بالتّعاليم والمثُل والنّصائح فحسب، بل بتأثير بعض صور الحياة الاجتماعيّة، وأنَّ الكائن الاجتماعي عن طريق المدرسة بوصفها مؤسّسة اجتماعيّة وتربويّة قد يحقّق نتائج أخلاقيّة ومعرفيّة ويحقّق التّوفيق بين المثل الفرديّة والاجتماعيّة، وبالتّربية يستطيع المجتمع أنْ يصوغ أغراضه الخاصّة، وأنْ ينظّم وسائله وموارده، ومن مهمّة كلّ شخص مهتم بالشّأن التّربوي أنْ يوجّه النّظر إلى المدرسة بوصفها أساسيّة وخطرة في نفس الوقت، فبصلاح أنظمتها يصلح الفرد والمجتمع. وعلى السّاهرين على العمل التّربوي أن ينتبهوا إلى ضرورة منح المربّي الحاجات الكافية لأداء مهمّته بنجاح، وإنَّ التّربية على هذا النّحو عنوان على أكمل وأصدق اتحاد بين المعلّم والفنّ يمكن أنْ نتصوّره في الخبرة الإنسانيّة، وأرفع الفنون هو ذلك الفنّ الّذي يشكّل قوى الإنسان ويلائم بينها وبين الخدمة الاجتماعيّة.
إنّ مهمة المعلّم ليست مجرّد تدريب الأفراد، بل تكوين الحياة الاجتماعيّة الصّحيحة؛ لذلك يجب أنْ يعرف كلّ معلّم كرامة مهنته وشرفها، إنّه معلّم ومصلح اجتماعي في آن واحد، إنّه القدوة والقائد، والهادي إلى الطّريق السّوي. ويبقى المعلّم ذاك الفنّان الّذي لولا مهاراته لما اكتملت اللّوحة، وهو من يُدرّس بقلبه قبل عقله.
الهوامش
(10) ينظر الصيفي عاطف، المعلم واستراتيجيات التعلم الحديث، دار أسامة للنشر، عمان، ط1، 2009، ص 21.(11) ينظر أسعد فرح، المعلم الناجح في التّربية والتّدريس، م ن، ص 133.(12) ينظر بورديو بيار وباسرون جان كلود، إعادة الإنتاج في سبيل نظرية عامّة لنسق التّعليم، م ن، ص 271 وما بعدها.(13) الحاوري: محمد عبد الله وقاسم محمد علي سرحان، مقدمة في علم المناهج التربوية، دار الكتاب، صنعاء، ط1، 2016، ص57 وما بعدها. |