أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
تكامل «لوبيج» وقياسه عندما يفشل تقسيم المستقل تنجح المقاومة
 تمهيد
منذ أن كتبت مقال القياس من الطّبيعة إلى التّجريد إلى الفلسفة(1) وأنا أحلم أن أكمّل الفكرة « تمديد مفهوم الطّول وتجريده، وبناء عليه الحجم» بإضاءات أخرى عن تكامل «لوبيج»، وليس المقصود هنا المفهوم الحرفي للطّول أو للحجم، فمثلا مساحة الحرّية ليست مساحة حاصل ضرب الطّول في العرض، وحجم النّشاط الاقتصادي ليس المقصود منه حجم المكعّب أو غيره، حاصل ضرب الطّول في العرض في الارتفاع، ولكن حاصل ضرب أبعاده هو الذي يتحكّم في تغيّره والتي بالتّأكيد تزيد عن ثلاثة بكثير في العلوم الإجتماعيّة. ولأنّ الفكرة مجرّدة جدّا فقد كانت ولادة ذلك المقال عسيرة للغاية. ولتعميم الفائدة، سنحاول الابتعاد عن التّقنيات الرّياضيّة المعقّدة ما أمكن، وسنكتفي بإضاءات حولها تكشف المعنى وتلقي بظلاله هنا وهناك في عالم السّياسة والاجتماع والطّبيعة. 
والفكرة بدأت عندما فشل تكامل «ريمان» في حساب بعض التّكاملات لبعض أبسط الدّوال، مثل الدّالّة المجزّأة المجال التي تنصّ على أنّ الدّالّة التي تساوي 1 إذا كان متغيّرها المستقل عددا نسبيّا (الأعداد التي من الممكن وضعها على هيئة بسط ومقام في أبسط صورة والمقام لا يساوي الصّفر)، أو أنّها تساوي صفرا إذا كان متغيّرها المستقلّ عددا غير نسبي في فترة ما. والفكرة الرّئيسيّة لتكامل «ريمان» هو تجزئة مجال الدّالّة (أي تجزئة المتغيّر المستقل) وحساب المساحات المتناهية الصّغر تحت منحنى الدّالّة، وشرط وجود التّكامل أن يقترب الفرق بين المجاميع العلويّة والسّفليّة لريمان من الصّفر، وفي مثالنا هذا نجد أنّ المساحة تحت المنحني تساوي الفرق بين نهاية الفترة وبدايتها للمجاميع العلويّة بينما تساوي صفرا للمجاميع السّفليّة، وهذا تناقض صريح وفشل ذريع لفكرة تكامل «ريمان» لمثل هذه الدّوال مع نجاحها في مناطق أخرى كثيرة من العلوم الطّبيعيّة كلّها، لكنّها بشّرت بوجود فكرة أعمّ منها. 
الفكرة الجديدة لمعت في عقل الرّياضي الفرنسي «هنري لوبيج» وتتمثّل في الابتعاد عن تقسيم المستقل واللّجوء إلى فكرة تقسيم الدّالّة نفسها (أي تقسيم التّابع) إلى دُوالٍ بسيطة. ولأنّ فلسفة المستقلّ هي الحفاظ على استقلاله وعدم تبعيّته لأيّ كيان، وللإسقاط السّياسي نقول عندما نجحت المقاومة في إثبات استقلالها عن الكيانات السّياسيّة المختلفة داخل فلسطين وخارجها، نجحت بالتّبعيّة في إفشال مشاريع تقسيمها. كما نستطيع أن نقول أنّ الأعداد القياسيّة هي بمثابة جواسيس على النّظام (تخيّل وجود كائنات لانهائيّة العدد ولا ترى حتى بالمجهر الإلكتروني، فقياسها حتّى لو اجتمعت كلّها صفرا وسيأتي إثبات ذلك رياضيّا)، وبالتّالي فأحيانا يجب إمّا فصلها عنه أوالانتفاع منها بإيجابيّة عالية، فهي إن وجدت مثلا في النّظام الدّيناميكي كنسب صغيرة بين تردّداته فهي حينئذ تبشّر/تزمجر بالرّنين وهذا الأخير من الممكن أن يكون بنّاءً للغاية وإمّا أن يكون هدّاما جدّا، وهو عين ما فعلته وتفعله المقاومة قبل عملية 7 أكتوبر وبعدها من إعدامها المتكرّر للجواسيس الذين يعملون داخل القطاع لحساب الكيان المحتل، بل والاستفادة من جواسيسها هي داخل الأراضي المحتلّة. 
صعوبة تعميم تكامل «ريمان» 
برغم سهولة تكامل «ريمان» ووضوحه، إلّا أنّنا نُجابَه بصعوبات جمّة عند محاولة التّعميم لفضاءات ذات أبعاد أعلى من الواحد، فتقسيم جزء من المحور الأفقي والمتمثّل في تقسيم نطاق تعريف المتغيّر المستقلّ تحت منحني الدّالة يبدو يسيرا عند مقارنته بتقسيم منطقة تعريف متغيّرين مستقلّين تحت سطح دالّة فيهما، كما أنّ شروط مثل الاتصال والتّقارب المنتظم شروط قاسية جدّا وفي الحقيقة أيضا هناك دوال كثيرة جدّا لا تتمتّع بهذه الخصائص، كدالّتنا التي أعطينا بها المثال على فشل تكامل «ريمان» في حساب بعض التكاملات. كما أن تكامل ريمان معرف فقط علي الفترات المحدودة ولا يوجد طريقة صريحة لتمديد المفهوم إلى مجموعات أكثر عموميّة. 
وللتّغلب على هذه المشكلة اقترح «لوبيج» تقسيم مدى الدّالة نفسها (مجال تعريف المتغيّر التابع وهو متغيّر واحد فقط حتّى في الفضاءات العليا يظلّ واحدا فقط) بدلا من تقسيم النّطاق (مجال تعريف المتغيّر المستقل والذي ربّما يكون أكثر من واحد للفضاءات العليا).
أصل فكرة القياس
ولتوضيح الفكرة أكثر نقول إنّ أول قياس للطّول تمّ باستخدام رصّ أشياء متماثلة من الطّبيعة جنبا إلى جنب بجوار الشّيء المقيس، ثمّ بحساب عدد هذه الوحدات المعياريّة يكون الطّول. والوحدة تصغر أو تكبر حسب الشّيء المقيس، فكان يتمّ رصّ الذّراع جنب الذّراع لقياس أبعاد الأراضي الزّراعيّة مثلا أو باستخدام القدم أو حتى عقل الأصابع أو ربّما حبّات القمح كوحدات معياريّة للأشياء الصّغيرة جدّا وقتها. ونفس الشّيء تمّ مع حساب المساحات، وذلك بملء المساحة المراد حسابها بوحدات معياريّة مربّعة «مربّع طول ضلعه الوحدة» دون زيادة أو نقصان، وكذلك للأحجام. وكنا نصطدم بالعقبة الكبرى عندما يحاط الشكل المراد قياس طوله/مساحته/حجمه بمنحنيات إنحناؤها ليس صفرا. وكان أول من تصدّى لواحدة من تلك المسائل هو «أرشميدس» عندما قاس مساحة منطقة محصورة بين دالّة القطع المكافئ والمحور السّيني والمستقيم الرّأسي المتعامد على محور «سين» عند س=1 والموازي لمحور «صاد» عن طريق تقريب المساحة المراد حسابها بمضلّعات، وهي نفس الفكرة التي بنى «ريمان» تكامله عليها. ومع أن «ريمان» رجع لأصل فكرة «أرشميدس» فقد طوّرها كثيرا ونمذجها في قوالب رياضيّة ممتعة، ومع ذلك لم تحل كلّ المشاكل المتعلّقة بالموضوع، وكان على الإنسان أن يرجع للوراء أكثر فأكثر ويستقي من النّبع الأول من الأفكار المجرّدة مثل عدّ الأشياء المرصوصة، وحديثا يعبر عنه بعدد عناصر «المجموعة» التي تكفي كغطاء للشّيء المقيس وهذا الغطاء يشترط أن يكون أيضا على قد الشيء المقيس بلا زيادة ولا نقصان.
فكرة حجم الغطاء هي بداية تجريد مفهوم الطّول
يعتبر الجبر هو نقطة الانطلاق لتجريد المفاهيم، والجبر أصلا هو إصلاح الكسر ومنه تجبير العظام أي إصلاحها، وكان يتمّ إصلاح الكسور عن طريق حلّ المعادلات الجبريّة مستخدمين العمليّات الأساسيّة في الجبر (الجمع والطّرح والضّرب والقسمة)، والحقيقة أنّ هذه العمليّات الأربع مردّها وأصلها عمليّة واحدة وهي الجمع: فالضّرب جمع متكرّر لأحد العددين المضروبين بمقدار العدد الآخر والطّرح عمليّة جمع للمعكوس الجمعي وحتّى القسمة جمع متكرّر أيضا لمقلوب المقسوم عليه بمقدار المقسوم. وتتمثّل نقطة الانطلاق لتجريد مفهوم الطّول ومن ثمّ الحجم في التّنازل جزئيّا وتعديل فكرة قياس الطّول المرتكزة في الذّهن أنّها طرح بداية الفترة المتّصلة على خطّ الأعداد الحقيقيّة من نهايتها وهذا وإن كان صحيحا في حال الفترات المتّصلة، فكيف يكون الحال مع المجموعات التي كلّ عنصر فيها يمثّل كيانا منفصلا أو متصلا مع غيره. كانت الفكرة العبقريّة التي طرحها «لوبيج» هي قياس المجموعات (والمجموعة هي تجمّع لبعض الأشياء التي يجمعها صفة ما)، وقياس المجموعات هنا يعني قياس حجوم الأغطية التي تكفي بالكاد لتغطية كلّ عناصر المتغيّر المستقلّ للدّالّة، والحجم هنا ليس يعني الحجم الثّلاثي الأبعاد المتعارف عليه في الرّياضيات فقط، فهو تعميم للمصطلح، فمثلا الحجم في بعد واحد هو الطّول والحجم في بعدين هو المساحة والحجم في ثلاثة أبعاد هو الحجم المألوف لدينا، والحجم في أربعة أبعاد فأكثر هو تعميمات رياضيّة لحاصل الضّرب الكارتيزي لأبعاد المتغيّر المستقل. وإذا كانت العناصر تغطّي بأغطية أكبر منها سمّي القياس قياسا خارجيّا وهو أصغر مجموع لأغطية العناصر، وإذا كانت العناصر تغطّي بأغطية أصغر منها سمّي القياس قياسا داخليّا وهو أكبر مجموع لأغطية العناصر. ولن نتمكن من ذلك إلاّ بجبر المجموعات. 
جبر المجموعات
وإذا كانت عمليّة الجمع هي العمليّة الأساسيّة في جبر الأعداد بالإضافة لوجود الصّفر والمعكوس (والإغلاق إنّما يكون لضمان عدم الخروج من البنية الجبريّة قيد الدّراسة) فإنّ الشّروط الأساسيّة لجبر المجموعات هي الإغلاق بالنّسبة لعمليّة الاتحادات (وهي العمليّة المكافئة للجمع في جبر الأعداد) ووجود المجموعة الخالية (وهي المناظرة لوجود الصّفر في جبر الأعداد) ووجود المجموعة المكمّلة (وهي المناظرة أيضا من بعض الوجوه لوجود المعكوس في جبر الأعداد). وهذه هي الشّروط الأساسيّة لتكوين جبر المجموعات (جبر بولين) وإذا كانت الاتحادات قابلة للعدّ (سمّي جبر «سيجما» وربّما يكون الإسم مشتقّا من رمز التّجميع في الرّياضيات). وإذا تمّ توليد جبر «سيجما» من جميع الفترات نصف المفتوحة من الأعداد الحقيقية سمّي جبر «بوريل» أو أصغر جبر «سيجما». وجدير بالملاحظة أنّ كلّ مجموعة مفتوحة في الأعداد الحقيقيّة هي اتحاد لمجموعات من الفترات المفتوحة، وعليه فإنّ جبر «بوريل» يولد بواسطة المجموعات المفتوحة تلك. وحيث أنّ المجموعة المغلقة هي مكمّلة المجموعة المفتوحة فبالتالي فإنّ جبر «بوريل» يولد أيضا بواسطة المجموعات المغلقة في الأعداد الحقيقيّة. ولذلك كان ولابد من تعريف دالّة تضمن ذلك.
البحث عن دالة للقياس
 للبحث عن دالّة تلعب دور تجميع قياسات الفترات أو المجموعات، يجب البحث عن الخصائص التي تحقّقها، وهي: (1) قياس المجموعة الخالية يساوي صفر، (2) قياس الفترة التي طرفاها منطبقان يساوي صفر، (3) تحقّق خاصّية الإطراد، فقياس أيّة مجموعة جزئيّة أقلّ من المجموعة الأمّ أو مساوٍ لها، و(4) خاصّية التّجميع المنتهي، فكلّ متتابعة منتهية من الفترات المنفصلة تحقّق أنّ طول الاتحاد المنتهي من الفترات المنفصلة يساوي مجموع طول الفترات ويسمّى بالتّجميع المعدود (أو أقلّ منه في حالة اعتبار مجموعة كلّ المجموعات الجزئيّة المولدة من كامل خطّ الأعداد الحقيقيّة وهو ما يسمّى بخاصّية دون التّجميع)، كما ينبغي التّحقق من أنّ قيمة قياس المجموعة لا تعتمد على طريقة تمثيلها كاتحاد منفصل من الفترات المنفصلة. 
هذه الدّالة المنشودة هي دالة مجالها (عائلة من المجموعات الجزئيّة من المجموعة في الفضاء المدروس) ومجالها المقابل هي مجموعة الأعداد الحقيقيّة R  أو مجموعة الأعداد الحقيقيّة الموسعة  *R والتي تنتج بإضافة موجب مالانهاية  إلي يمين الفترة وسالب مالانهاية  إلي يسارها. وإذا كانت الدالة تنقل عائلة من المجموعات من جبر سيجما إلي مجموعة الأعداد الحقيقية الموسعة سميت بدالة  القياس. كما يجب أن نعلم أن قياس أي فترة حقيقية هو طولها وأن قياس أي مجموعة قابلة للعد يساوي صفر، كما أن هناك مجموعات غير قابلة للعد و قياسها يساوي صفر أيضا. وأن نقبل بفكرة وجود مجموعات من خط الأعداد قابلة للقياس ليست من نوع بوريل (وهو جبر سيجما المولد بمجموعة الفترات النصف مفتوحة). كما يجب الاعتراف بعدم وجود دالّة قياس تمدّد الطّول إلى مجموعة القوّة – مجموعة كلّ المجموعات الجزئيّة – على خطّ الأعداد الحقيقيّة كلّه ولا تتأثّر بالانتقال. 
 بعض غرائب القياس 
يمكن تغطية الأعداد النّسبيّة باتحاد معدود من الفترات المفتوحة بحيث يكون مجموع أطوال الفترات عددا موجبًا صغيرًا كما تريد، بما أنّ قياس «لوبيج» لمجموعة الأعداد النّسبيّة أقلّ من أيّ رقم موجب، فهو صفر. لكن كيف يمكننا رؤية ذلك؟، الإثبات بسيط جدا، لنفرض أنّ هناك عددا موجبًا صغيرا جدّا كيفما نشاء. أوّلاً، لنرتّب الأعداد النّسبيّة بأيّ طريقة نريدها (ولنتذكّر أنّها قابلة للعدّ) ثمّ نغطّي كلّ عدد منها بترتيبه النّوني بفترة مفتوحة طولها تساوي نصف مرفوع للقوّة النّونية مضروبا في ذلك العدد الموجب الصّغير جدّا حسب مكانه النّوني في المتسلسلة (وكلّ غطاء فحجمه أكبر من حجم العدد الذي يغطّيه ولاشكّ، بل إنّ أصغر غطاء فحجمه أيضا أكبر من حجم أكبر عدد نسبي معلوم أو غير معلوم). وبالتالي يكون إتحاد تلك الفترات المفتوحة يغطي كل الأعداد النسبية وزيادة (أي من خارجها أيضا)، ومجموع أطوالها كلها هو ذلك العدد الموجب الصغير جدا  وبما أننا نستطيع تصغيره بالقدر الذي نشاء، أي أن مجموع أطوالها كلها يؤول إلي الصفر من ناحية اليمين. تنطبق هذه الحجة على أي مجموعة معدودة من الأعداد الحقيقية، وليس فقط على مجموعة الأعداد النسبية. وبالتالي، فإن كل مجموعة معدودة من الأعداد الحقيقية يكون قياسها صفرًا. ورغم أن كل فئة قابلة للعد فإن قياس لوبيج الخارجي لها يساوي صفر فإنه ليس بالضرورة أن كل فئة غير قابلة للعد يكون قياس لوبيج الخارجي لها لا يساوي الصفر، وأوضح مثال علي ذلك مجموعات كانتور.
مجموعات كانتور
 إذا بدأنا بوحدة الفترات وحذفنا الثّلث الأوسط الممثّل بالفترة المفتوحة  تكوّنت مجموعة جديدة هي اتحاد المجموعتين المتبقيتين بعد عملية الحذف. ثمّ إذا توالينا في حذف الثّلثين الأوسطين من هذه المجموعة الجديدة تكوّنت مجموعة جديدة من أربعة فترات أصغر من سابقتها، وهلمّ جرا إلى مالانهاية. وبالتّالي تنشأ مجموعات «كانتور» من جميع النّقاط التي لم تحذف وقياس كلّ عنصر فيه يقلّ بمقدار الثلث عن الذي قبله. ويمكن إثبات أنّها غير قابلة للعدّ وقياسها صفر من حساب النّهاية الممثّلة لمتتاليتها.
الهوامش
(1) مجلة الإصلاح - السنة 12 - العدد 191 - جوان 2023 م