في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
ملامح أنموذج للحدّ من الفقر
 عرضنا في العدد السّابق(1) نماذج لما من شأنه أن يعين على منع وقوع الفقر، ولكن ما العمل وقد أصبح الفقر واقعا معاشا وبشكل مُتفاقم عكسته مجاعات(2) مُتتالية لعدّة شعوب، في القرن العشرين وبداية هذا القرن؟ (3)
وأمام تفاقم ظاهرة الفقر، لم تخلُ التّجربة البشريّة المُعاصرة على المُستويين الدّولي والمحلّي من مُبادرات للحدّ من حِدّتها، نرى ضرورة الإحاطة بها استئناسا بها، خاصّة ونحن نتلمّس سبيل الحدّ من الفقر، ولكن مع تجاوز المُقاربة المادّيّة المُؤطِّرَة لها والمُكبّلة لها أيضا والّتي منعتها من تحقيق أهدافها، ضرورة تفرضها الحاجة الى بلورة ملامحَ أنموذج مُتوازن للحدّ من الفقر ضمن مُقاربة جديدة تحتاجها البشريّة أكثر من أيّ وقت مضى، كإطار لأنموذج تنمويّ مُتوازن، والّتي سبق أن بيّنا أهمّ ملامحها (4) 
I- أهم المبادرات للحدّ من الفقر واقعا
من مبادرات مكافحة الفقر الّتي أظهرت قدرة على إحداث تغيير دائم وتحسين حياة الأفراد والمجتمعات ولو نسبيّا وتعزيز الإدماج الاجتماعي، وتحسين النّتائج الصّحيّة، وتعزيز النّمو الاقتصادي، نذكر ما يلي:
- برنامج الدّخل الأساسي الشّامل وهو أن يحصل كلّ مواطن، بغض النّظر عن دخله أو وضعه الوظيفي، على تحويل نقدي منتظم وغير مشروط من الحكومة.
-  برامج التّمويل الأصغر التي تنطوي على تقديم القروض الصّغيرة والمدخّرات وغيرها من الخدمات الماليّة للأفراد ذوي الدّخل المنخفض أو رجال الأعمال الذين لا يستطيعون الوصول إلى الأنظمة المصرفيّة التّقليديّة.
- برامج التّعليم وتنمية المهارات الّتي تهدف إلى تزويد الأفراد بالمعرفة والمهارات والموارد اللاّزمة لكسر دائرة الفقر وتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي.
- برامج الرّعاية الصّحية والتّأمين الصّحّي التي تعمل على ضمان حصول المزيد من النّاس على الرّعاية الطّبيّة اللاّزمة.
- برامج إعادة توزيع الأراضي ومشاريع الإصلاح الزّراعي وتهدف إلى معالجة قضيّة عدم المساواة في الأراضي وإلى تحسين الإنتاجيّة الزّراعيّة، وزيادة الأمن الغذائي من خلال توفير الأراضي لمن هم في أمسّ الحاجة إليها. وتنطوي هذه البرامج على إعادة توزيع الأراضي الزّراعيّة من كبار ملاّك الأراضي إلى المزارعين الذين لا يملكون أرضاً أو صغار المزارعين الذين لا يستطيعون الوصول إلى الأراضي المنتجة.
- شبكات الأمان الاجتماعي وبرامج التّحويلات النّقديّة المشروطة، وهي عبارة عن برامج وسياسات مصمّمة لحماية الفئات السّكّانية الضّعيفة من مخاطر الفقر وآثاره ومن الصّدمات الاقتصاديّة، وتلعب شبكات الأمان هذه دوراً حاسماً في توفير مستوى أساسي من الحماية الاجتماعيّة للمحتاجين.
- مبادرات التنمية المستدامة وتغيّر المناخ التي تظهر التّرابط بين القضاء على الفقر والاستدامة البيئيّة، إذ أنّها ترى أنّه من خلال معالجة تغيّر المناخ وتعزيز الممارسات المستدامة، يمكن للبلدان أن تخلق مستقبلا أكثر مرونة وإنصافا للجميع، ومن الأهمّية بمكان أن تشارك الحكومات والشّركات والأفراد بنشاط في هذه المبادرات والعمل من أجل عالم مستدام وخالٍ من الفقر.
- برامج تمكين المرأة والمساواة بين الجنسين وتحتوي على برامج متعدّدة ومتنوّعة منها برامج التّمويل الأصغر وبرامج التّعليم والتّدريب على المهارات والبرامج الزّراعيّة التي تستجيب إلى الفوارق بين الجنسين والإصلاحات القانونيّة والدّعوة إلى سياسات تمكين المرأة في حالات النّزاع وما بعد النّزاع.
II- ملامح أنموذج مُميّز للحدّ من الفقر
تُعتبر مُحصّلة النّماذج الّتي تمّ اعتمادها للحدّ من الفقر محلّيا ودُوليًّا محدودة نظرا لمحدوديّة نظرتها لمشكلة الفقر والمختزلة في المستوى المادّي والمالي، كأنموذج التّمويل الأصغر واصطدامه بندرة الموارد وعرقلته بالسّلوك الرّبوي، أو أنموذج التّحويلات النّقديّة المشروطة وانخفاض سقفها والذي جعلها كذرّ الرّماد في العيون. 
  أمّا أنموذج الاستثمار في التّعليم والرّعاية الصّحّية وشبكات الأمان الاجتماعية فيمكن اعتباره أنموذجا جدّيا الى حدّ ما يُمكن البناء عليه.
وبعد دراسة تلك النّماذج والوقوف عند محدوديّة أثرها عُمُوما على مستويات الفقر محليّا وعالميّا، نرى ضرورة المُساهمة في بلورة ملامح أنموذج للحدّ من الفقر يكون مُميِّزا، مُستأنسين بالإيجابي وذي الأثر المُجدي لدى النّماذج المعتمدة للحدّ من الفقر.
ومن نافلة القول أنّ بلورة أنموذج ينطلق من تحديد للمشكلة ليمرّ برسم الهدف المقرون بمعايير مُنضبطة كمُدخلات وأخرى مكتسبة كمُخرجات مع تحديد متغيّرات وهي كلّ ما يُمكن أن تتغيّر قيمتها، وكذلك تحديد الثّوابت وهي تلك التي تُحافظ على قيمتها، ليصل مسار بلورة الأنموذج الى المرحلة الأخيرة المُتمثّلة في بنائه وذلك من خلال تحديد المشكلة بتمثيلها بعلاقة واحدة أو عدّة علاقات.
 والمشكلة التي ننطلق منها لبلورة الأنموذج هي تفاقم ظاهرة الفقر أمّا الهدف فهو الحدّ منه مقرون بما يلي من معايير، المنضبطة منها والمكتسبة مع ضبط متغيّرات وثوابت قبل أن نضع أنموذجا لتمثيل مستوى الفقر من خلاله مجموعة محدّدات:
* المعايير
- أنّ المعايير المُنضبطة كمُدخلات للأنموذج المميّز الّذي نطرحه فهي وحدة الخالق ووحدة نظرته للإنسان وجعله لسلوكيّات العطاء والتّقوى والتّصديق، سلوكيّات محمودة ومطلوبة حسب آيات القرآن الكريم: ﴿فَأَمَّا مَن أَعطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلحُسنَىٰ ﴾(الليل: 5-6) 
- أمّا المعايير المكتسبة فهي التّيسير لليُسرى: ﴿فَسَنُیَسِّرهُ لِلیُسرَىٰ﴾(الليل: 7) 
هي مُخرجات كلّ من الايمان بالخالق واعتماد نظرته للإنسان وكذلك اتباع تلك السّلوكيّات، تيسيرا من خلال الارتزاق من حيث لا يُحتسب وجعل للأزمات مخرجا: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾(الطلاق: 2-3) 
* المُتغيّرات والثوابت
- المُتغيّرات هي المُقاربات للفقر والنّظرة للإنسان أصله ودوره وسلوكيّاته ومصيره وعلاقته بالطّبيعة وبالإنسان، أمّا الثّوابت فهي الزّمن والسّعي ومستلزماته.
* المُعادلة
وانطلاقا من هذه المعايير المُنضبطة من إيمان ونظرة وسلوكيّات كمُدخلات والأخرى المكتسبة من مستوى عيش ونوعيّة حياة كمُخرجات مع تلك المتغيّرات يُمكن تحديد مشكلة الفقر من خلال تمثيلها بالعلاقات التّالية: «مُستوى الفقر يُحدِّده مضمون المُقاربة والنّظرة للإنسان وكذلك سُلوك هذا الأخير كمُتغيِّرات، وبتغيّرها يتغير مُستوى الفقر»
وفي العدد القادم من مجلة الإصلاح سنحلّل تباعا المحدّدات الثّلاثة لمستوى الفقر وهي أوّلا مضمون المقاربة المعتمدة للفقر ولكيفيّة الحدّ منه من خلال الإلمام بأثر مضمون تلك المقاربة على مستوى الفقر، وثانيا نظرة الإنسان وأثر تلك النّظرة على مستوى فقر الأفراد والمجتمعات، وثالثا سلوك الإنسان ذاته اقتصاديّا وماليّا واجتماعيّا وبيئيّا وفي مختلف مجالات عيشه وحياته وأثر كلّ ذلك على مستوى فقره.
الهوامش
(1) راجع مقال لنا بمجلة الإصلاح الالكترونية عدد 202 من  ص 38 الى ص 44 الرابط  www.alislah.mag
(2) المجاعة هي جوع شديد طويل الأمد يصيب نسبة كبيرة من السكان في بلد أو منطقة ما، تتسبب في الوفاة نتيجة لارتفاع معدلات سوء التغذية الحادة بين الأفراد.
(3)  أبرز المجاعات حول العالم: مجاعة روسيا 1912، مجاعة الشام 1915، مجاعة البنغال 1943، مجاعة المغرب 1944، مجاعة فيتنام 1945، مجاعة الصومال 1992، مجاعة السودان 1998 و2023، مجاعة غزة 2023-2024
(4) راجع مقال لنا على أعمدة مجلة «الإصلاح» عدد 201 من الصفحة 40 الى الصفحة 46 الرابط www.alislah.mag