في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى نهاية التاريخ في المنظور القرآني (الحلقة الثالثة)
 ماذا تقول الفيزياء الحديثة بخصوص نهاية التّاريخ؟! 
تقول إحدى معطياتها أنّ الكون يتوسّع حتّى يبلغ حجماً معيّناً يبدأ بعدها بالانكماش وهذا ما يسمّى « بالكون المغلق»، وإمّا أن يستمرّ بالتّوسّع بشكل متسارع، وهذا ما يسمّى «بالكون المحدّب» بتحدّب سالب. ولكن بعد أن تمّت الارصادات في الخلفيّة المايكرويّة وجدوا أنّ الكون مسطّح. وللعلم أنّه عندما يكون الكون بشكل «محدب أو إسطواني»، فهو في الأصل مسطّح السّطح ! ويمكن أن نسطّحه ونبسطه، لكنّ المحدّب الكروي لا يمتلك سطحاً مبسّطاً، وهذا يعلمه كلّ من درس الرّياضيّات، فلو كان الكون بشكل إسطواني مسطّح السّطح – يمكن قرآنيّاً – أن يتمّ طيّ سطح الكون كطيّ السّجل وينكمش إلى أن تكون شكل الإسطوانة الكونيّة كخيطٍ رفيع ومن ثمّ ينهار. وهذا سيتم – حسب النّظريّة – التي تبيّن أنّ الكون يكون محدّباً، لكن بشكل إسطواني، وهو في تذبذب، أي توسّع مستمر إلى أن ينتهي إلى حد، بحيث يبدأ بعدها بالانكماش والطّي كطيّ السّجل. وهذه النّظريّة تتماشى مع ما بينّه القرآن الكريم. ومهما يكن من أمر فإنّ القرآن الكريم ثابتٌ والعلم متغيّر(1).
« ويمثّل الثّقب الأسود طريقاً سريعاً إلى الأبديّة، حيث يثير الإلغاء والتّفرّد إلى نهاية رحلة الطّريق الواحد ، إلى (اللاّ زمكان) و(اللاّ – متى)، فذاك اللّا – مكان حيث يتوقّف الكون المادّي» (2).
« إن النّطاق الواسع لبنى الكون وحركته لافتةً للنّظر، حيث عملت مراكمة الجاذبيّة في الكون على كبح جماح توسّعه، لتجعله يتباطأ مع الزّمن. فقد كان التّوسّع أكثر سرعةً في المرحلة البدائيّة منه اليوم، فالكون إذن نتاج تنافس بين التّفجّر النّشط للانفجار الكبير وبين قوّة الجاذبيّة في محاولتها سحب القطع معاً ثانيةً. وبدأ علماء الفلك في السّنوات الأخيرة في إدراك مدى دقّة التّوازن في تلك المنافسة. فلو كان الانفجار الكبير أضعف من ناحية، لتراجع الكون على نفسه في انفجارٍ كبير، أمّا لو كان أقوى من ناحيةٍ أخرى، لتفرّقت المواد الكونيّة بسرعة، ولما سمحت بتكون المجرّات. أياً كان الوضع، فإنّ هيكليّة الكون الملاحظ تبدو معتمدةً بحساسيّة مفرطة على تعادل دقيق بين التّفجر النّشط وقوّة الجذب» (3).
«وفيما الرّكود آخذ في التّناقص، تنتفخ الشّمس لتتحوّل إلى نجم من نوع يدعوه علماء الفلك بـ (العملاق الأحمر)، فيما يكافح قلب الشّمس يائساً للحفاظ على إنتاج الطّاقة، لكن الانكماش يصيبه أكثر فأكثر، حتّى يتدخّل تأثير عامل الكمّ لتثبيته، وقد تصبح الشّمس في هذه المرحلة أكثر انتفاخاً، بحيث تجتاح الكواكب الدّاخليّة تماماً، أمّا الأرض فينزع منها غلافها الجوّي، وتذوب صخورها، بل تتبخّر، وتبدأ الشّمس بعد ذلك في مهمّتها الجديدة والغريبة في آنٍ معاً : حيث يأخذ الهيليوم الأقل كفاءةً في الاحتراق، بواسطة عناصر أثقل وأثقل، وذلك عوضاً عن الاحتراق النّووي لوقود الهيدروجين الغزير الحالي. وأخيراً حين يستهلك كافة الوقود ، تتواضع الشّمس لتتكوّن من عناصر ثقيلة مثل الحديد، ولن يؤدّي أي اندماج نووي بعدها إلى إطلاق الطّاقة، فالحديد هو الشّكل النّووي الأكثر استقراراً. وتسعى النّظم جميعها تبعاً للقانون الثّاني للدّايناميكا الحراريّة ، إلى حالاتها الأكثر استقراراً ، حيث ترتفع أثناء هذه المرحلة درجة حرارة مركز الشّمس الدّاخلي على نحو مطرد لتصل إلى بلايين الدّرجات. 
والآن ومع استنفاذ كافّة الوقود تبدأ الشّمس المنكوبة بالتّقلّص، بفعل ثقلها، لتسحق المواد خلالها بعنف شديد، بدرجة ترتفع معها الكثافة إلى بليون جرام لكلّ سنتمتر، وينخفض حجم الشّمس الأخذة في الانكماش، لينتهي بها الأمر إلى حجم الأرض، وتبقى خامدةً ، تضمحل خلالها وتبرد ببطء لتنتهي مهمّتها وتصبح نجماً قزماً أسود. ويتكرّر نفس النّمط من الاضطراب والتّضخّم والموت جوعاً للوقود، ومن ثمّ الانهيار في جميع أنحاء المجرّة ، وتحترق النّجوم الواحدة تلو الأخرى، كلّ على طريقتها، بواسطة الدّورة النّووية، حتّى لا يعدو باستطاعتها التّماسك في مواجهة قوّة الجاذبيّة التي لا ترحم» (4).
« وسوف تموت بعض النّجوم في مشهدٍ أخاذ، وأكثر روعة، فتنفجر بتفجير نفسها إلى قطعٍ صغيرةً وينهار قلبها، على نحو كارثي، لتنطلق طاقة ضخمة. أمّا بقايا تلك النّجوم الانتحاريّة الأخفّ، فلن يعدو حطاماً منتشراً، يحيط بمادة مسحوقة تماماً، يعادل ضغطها كتلة شمسيّة بحجم كروي، يتجاوز بضعة أميال. إنّ جاذبيّة هذا الجسم هائلةً للغاية بدرجة أنّ وزن ملعقة صغيرة من مادتها، يفوق وزن كافّة قارات الأرض. إنّ قبضتها رهيبةً، لدرجة تفوق قدرة الذّرّات على الصّمود ، بما يدفعها إلى التّغضّن داخلياً، لتشكّل بحراً من النّيترونات الخالصة. وهذه النّجوم النيترونيّة مألوفةً لدى علماء الفلك الذين يجدونها وسط حطام الانفجار. ولن تستطيع النّجوم الثّقيلة الميّتة الثّبات أمام قوّة الجاذبيّة السّاحقة، حتّى وإن تحوّلت إلى كرة من النّيوترون، فسوف تستمر في الانكماش بمعدل متصاعد حتّى تنتهي أيّامها كثقوب سوداء» (5).
« لقد رسم عالم الفلك أدوارد هاريسون تدهور الكون على النّحو التّالي : تبدأ النّجوم في التّلاشي مثل شموع تذوب لتخمد الواحدة تلو الأخرى، وتموت تدريجيّاً في عمق الفضاء، المدن السّماويّة العظيمة والمجرّات المشوشة بذكريات العصور، لتخترق ومضات من الضّوء بين حينٍ وآخر ليل سقوط الكون وتؤجل طفرات من النّشاط حكم الكون القاضي بتحوّلها إلى مقبرة للمجرّات »(6).
« سبرت الأبحاث الخاصّة بنظم الفيزياء أغوار طرق غريبة، لمعرفة وضع الاضطراب في حده الأعلى ، لتجد أنّ نظام مجرتنا سوف يبدأ لا محالة في التّداعي، مثل انطفاء النّجوم، وفي نهاية المطاف سينتشر مخزون الطّاقة الحبيس في النّجوم على شكل شعاع فوضوي حول الكون، فيما تخفت المجرّة وتبرد، ولن تكون المجرّات الأخرى بمعزل عن مصير مشابه»(7).
« أمّا النجوم الميّتة نفسها، فلا يزال في حوزتها مزيد من النّشاط، لكن نطاق الزّمن آخذ في الازدياد بقدر كبير، وبينما تصطدم بقايا الاحتراق ببعضها البعض، من حينٍ لآخر، تتّجه الثّقوب السّوداء بدورها إلى إجلاء كلّ نجم، أو كلّ ما تقابله من مواد، فيما تضمحل مدارات النّجوم ببطء بسبب انبعاث شعاع الجاذبيّة، وهو موجات في الفضاء تستنزف الطّاقة المداريّة لكافة الأجسام الضّخمة، وسوف تميل النّجميّة إلى الانحراف والاقتراب أكثر فأكثر من مركز المجرّة لتضحّي بنفسها في النّهاية داخل ثقب مستوحش نهم لا يشبع. لكنّ النّجوم الأخرى النّاجية وكذلك الغازات التي تفادت الموت داخل الثّقوب السّوداء، فقد أرجئ الحكم بإعدامها جميعاً لبعض الوقت. وفي حال صحّت النّظريّة الموحّدة الكبرى، فالمواد النّوويّة في هذه السّفاسف الكونيّة غير المستقرّة سوف تتبخّر بعيداً حيث ينحطّ النّيترون والبروتون إلى بوزيترون واليكترون ليبدأوا في إفناء بعضهم بعضاً، فضلاً عن أيّ الكترونات أخرى، وهكذا تتحلّل كافّة المواد الصّلبة ...» (8).
« وتشير الدّراسات إلى مصير موحش للكون الذي نعرفه مفعماً بالرّوعة والنّشاط ... ويبدو أنّ ثمّة شكّ في توجّه جميع البنى الحاليّة في النّهاية لخطر الموت، مخلفةً صقيعا وظلمة ممتدّة إلى فضاء شبه خالٍ، ذي كثافة منخفضة أكثر بكثير من أيّ وقتٍ مضى، تسكنه قلّة فحسب من النّيترونات والفوتونات المعزولة وأشياء أخرى قليلة. وهذا سيناريو يجده الكثيرون من العلماء مشوباً بكآبة، ليس هناك ما بعدها» (9).
« وحين ينكشف الكون إلى نسبة لا تتعدّى المئة من حجمه الحالي، سترتفع درجة الحرارة تحت تأثير الضّغط إلى نقطة غليان الماء ، وسوف تصبح الأرض غير قابلة للسّكن، ولن يتمكّن المراقب عندها من تبيّن المجرّات كلٌ على حدة ، لأنّها تكون قد بدأت في الاندماج معاً، فيما ينعدم الفضاء بينها تماماً، وكلّما ازدادت وتيرة الانكماش ترتفع درجة الحرارة إلى درجة تبدأ معها السّماء نفسها في التّوهّج مثل الموقد، فيما تأخذ النّجوم، وهي جزء لا يتجزّأ من الفضاء الأبيض السّاخن في الغليان، ومن ثمّ تنفجر » (10).
« إنّ الكون الآن على بعد جزء من الثّانية من الموت، فالانكماش الكبير شأن الانفجار الكبير، وإن على نحوٍ معاكس، سوف يحطّم جسيمات الذّرّة إلى كواركات، لتنشأ عبر كافة النّظم شظايا مشتقّات الذّرّة للحظة عابرة ، لكن الكون ينكمش في طرفة عين إلى أقل من فضاء ذرّة واحدة، وعليه ينفسخ الزّمكان نفسه » (11).
« ويعتقد فيزيائيّون كثيرون أنّ الانكماش الكبير يطرح نهاية الكون، تماماً كما يعتقدون أنّ الكون: كلّ الفضاء والزّمن والمادّة، قد خرج إلى حيّز الوجود عبر الانفجار الكبير، وبالتّالي سوف يمضي خارجه عبر انكماشٍ كبير. وهذه إبادة كاملة ، لن تدع أو تذر شيئاً، حيث لا أماكن، أو دقائق أو أشياء أخرى، بل ( تفرّد ) ، فيما يستسلم الوجود إلى قوّة الجاذبيّة المدمّرة بلا حدود، وعندها، لا شيء، إنّ الجاذبيّة كانت مولدة الوجود وهي أيضاً سوف تضعه في القبر» (12).
هذه نهاية الكون كما يراها الفيزيائيّون وعلماء الفلك، فكيف يعرّفها كتاب الله (9)؟ هذا ما سنراه في الحلقة الرابعة من هذه السلسلة
الهوامش
(1) هافال عارف برواري : إشارات كونية من القرآن، ص 88 ، 95-96.
(2) بول دافيز : الله والفيزياء الحديثة، ص 147.
(3) المرجع نفسه، ص 211.
(4) بول دافيز : المرجع السابق، ص 237.
(5) المرجع السابق، ص 237-238.
(6) المرجع السابق ، ص 238.
(7) المرجع السابق ، ص 238.
(8) المرجع السابق ، ص 238-239.
(9) بول دافيز : المرجع السابق ، ص 241.
(10) المرجع السابق ، ص 241-242.
(11) المرجع السابق ، ص 242.
(12) المرجع السابق ، ص 242.