باختصار

بقلم
أ.د.وليد قصاب
مرجعيّتنا الفكريّة.. إلى أين؟
 من يتأمَّل خارطة المشهد الثقافيِّ العربيّ المعاصر لا يشعُر بالتّفاؤل، وتبدو له هذه الخارطةُ مبتلاةً بكثير من التّشوُّهات التي تُشعر أنّ صحَّتها معتلَّة بعلل خطيرة، وهي عللٌ أيسرها أنّها لا تُسعِف - كما هو شأنُ الثّقافة في كلِّ أمّة - على تمثُّل شخصيّة واضحة الملامح لهذه الأمَّة التي تُنتجها، وهُويَّة الحضارة التي تَصدُر عنها.
وهذا بؤسٌ حقيقيٌّ في ثقافة أيَّة أمَّة، وهو مُؤشِّر يدلّ على مرض عُضال قد يُودي بها إذا لم تُشْفَ منه.وسببُ هذا المرض - في رأينا - مجموعةُ جراثيم ((فيروسات)) بعضُها ماديٌّ، وبعضُها معنويٌّ.
أمّا المعنويُّ - وهو أهمُّها وأخطرُها - فيتمثَّل في:
1 - عدم وضوح التّصوُّر الفكري الذي تصدُر عنه الثّقافة العربيّة المعاصرة، فهي كخبط العَشواء، أو حاطب ليل، وكلٌّ فيها يغنِّي على لَيلاه، ممّا يجعل الإبداعَ الثقافيَّ خليطاً متناقضاً ينسف بعضُه بعضاً، وقد يلعن بعضُه بعضاً، وذلك عائدٌ إلى تعدُّد - أو تضارُب - المصادر والمنابع الثّقافية التي يصدُر عنها الأدباء والمفكِّرون.
ولا شكَّ أن هذا التّعددَ كان يمكن أن يكونَ مصدر غنًى وثَراء، لولا ما تحوَّل إليه الأمر من تنافُر وتناقُض وتشكيك في أَيسَر الثّوابت التي يُفْترَض أن تشكِّل هويةَ الأمّة وعقيدتَها وذوقَها.
لقد تحوَّلت الدعوةُ إلى حرّية الرّأي إلى مِعوَل هدم في ثقافة هذه الأمّة، بل في ثوابتها ونُصوصها القطعيَّة التي تشكّل وجهَها الواضح المتميِّز.
إنّ الحَراك الثّقافيَّ أمرٌ مستحبٌّ محمود، بل هو علامةُ صحَّة وعافية عندما ينضبِط على وَفق هويّة معينة تَفيء إليها الأمَّة وتلتمُّ من حولها، عندما يتَّجه هذا الحَراك نحو الوِفاق، ونحو تأسيس ثقافةِ الاختلاف المثمِر البنَّاء، ولكنّه يكون داءً دَوِيّاً عندما يفهمُه قومٌ من بني جِلدتنا على أنّه الانفِلات من كلِّ قيد، والجَريُ على غير هُدى، والتّشكيكُ - على طريقة الفكر الغربيِّ الماديّ - في كلِّ شيء، ممّا يجعل الأمَّة قَشَّةً في مَهَبِّ العاديات..
2 - ومن المعنويِّ ذلك الإلغاءُ والإقصاء اللّذان تمارسهُما كلُّ فرقة من الفِرَق المنتجة للثّقافة عندنا في حقِّ المخالفينَ لها في الرَّأي، حتى غَدا القمعُ والاستِبداد سِمةً واضحةً من سِمات هذه الثّقافة.
وغَدَت شعاراتٌ تتَّهِم بـ «التّزمت» أو «الرّجعيّة» أو «السّلفيّة» أو «الظّلاميّة» أو «التّفسيق» أو «التّبديع» أو «التّكفير» أو ما شاكل ذلك، من الذّائع المشهور الذي تحفِل به كتاباتُ أهل الثّقافة والفكر عندنا، وهذا ما يجعلُ الشكَّ محيطاً بكلِّ ما ينتجه أيُّ طرف من الأطراف، ويُوقع المتلقِّي - ولا سيَّما من عامَّة النّاس - في بحرٍ من الحَيرة والاضطِراب لا يَعرف خلاصاً منه.
3 - ومن المعنـويِّ انعـدامُ العدالـة في توزيـع المنابـِر الثّقافيّـة المختلفـة، واحتكـارُ طائفة لها، أو تحكُّمُهم في مجرياتها، ممّا يجعلُهـا أقدرَ على التّرويج لفكـر معيَّن، أو على الرّفـع والوضـع، وعلى الحَجب والإظهار.
وهذه ظواهرُ لا تَخفى اليوم على أحد، إنّ ثُلَّة من أصحاب اتِّجاه فكريٍّ معيَّن تسيطر على السُّوق الثّقافية الإعلاميّة إن صحَّ التّعبير، وهي تمتلك المنابرَ المؤثِّرة وهي التي تُروِّج لهذا الفكر أو ذاك، وترفَع فلاناً وتضع فلاناً، والنّاس تُؤخَذ ببريق الشُّهرة، ولمعان الألقاب.
4 - وعلى أنّ من أخطر ما يهدِّد المشروع الحضاريَّ العربي المعاصر هو افتقاده الخطابَ الموحَّد وشبه الموحَّد، وذلك لافتقاد المرجعيَّة الفكريّة التي تعمل طائفةٌ من بني جِلدتنا على التّشكيك فيها، وهدم مكوِّناتها، ليلَ نهار، حتّى كدنا نصبـح أممـاً لا أمّـةً واحـدة كمـا وصفنا القـرآن الكريـم بقولـه: ﴿إِنَّ هَذهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(الأنبياء:92)
والأمةُ الواحدة يكون لها خطابٌ واحد ذو مرجعيّة واضحة بيِّنة، ومهما اختلفت زوايا النّظر إلى هذه المرجعيّة، أو تعدَّدت التّأويلاتُ والتّفسيرات فيها، فإنّها لا تفتقِد أبداً الوحدة والثّبات.
إنّ الاختلافَ مشروعٌ ما دام نابعاً من طبيعة هذه المرجعيّة الفكريّة التي ينتمي إليها، ومن تعدُّد أشكال القراءة المحتملة فيها، ومن تبايُن الاجتهادات الفقهيّة والفكريّة والثّقافيّة والنّقديّة النّابعة جميعاً من أُصول الثّوابت واليقينيّات.
ولكن هذا الاختلافَ النّاتج عن قطع العلاقة مع الأصول والمرجعيَّات، أو عن المستورَد من الخارج، أو المستَصدَر من حضارات أُخرى تخالف تصوُّراتنا الفكريّة كلَّ المخالفة، أو المفروض عليها فرضاً من قويٍّ غازٍ، أو المستَجلَب إليها على يد مُنبَهِر مُتلاشٍ في ثقافة الآخرين.. كلُّ هذا وما كان من قَبيله هو اختلافٌ مَذموم، يمزِّق الأمةَ، ويشتِّت شملَها، ويجعلها أمةً بلا لون ولا وجهٍ ولا حاضر ولا مستقبل.
إنّ اختلافَ التّكامُل والائتلاف مشروعٌ مقبول، وهو - كما ذكرنا - مصدرُ الغِنى والثَّراء، وهو ما سمَّوه «اختلاف الرَّحمة»، ولكن اختلافَ التناقُض والتّنافر والتّنابز بالألقاب هو المستَهجَن المذموم الذي ينبغي أن يسعى خطابُنا الفكريُّ المعاصر إلى القضاء عليه بكلِّ الوسائل، ولن يكونَ ذلك إلّا باعتماد المرجعيَّة.