تأملات

بقلم
عبد الله البوعلاوي
نحو قراءة تدبّرية لفقه السّنن الكونيّة من خلال القرآن الكريم (3) الغفلة عن فقه السّنن الكونيّة
 خلق اللّه تعالى الكون بطريقة تتناسب مع وجود الإنسان واحتياجاته، وخلقه بعناية فائقة وبتوجيه دقيق ليكون ملائمًا لحياة الإنسان وليتمكّن من الاستفادة منه والعيش فيه، بما يسمح له أن يحقّق نهوضا حضاريّا، ذلك أنّ وجود الإنسان في الكون ليس عشوائيًّا بل يتماشى مع إرادة إلهيّة مقدرة، وأنّ اللّه قد خلق الكون بحكمة ورحمة ليخدم البشريّة ويساعدها على الوصول إلى هدفها النّهائي، المتمثّل في تحقيق الاستخلاف في الأرض والتّمكين فيها بالعدل الإلهي. ولم يعتن القرآن الكريم بربط الإنسان بالخالق أو ما يتعلّق ببعض الأحكام الشّرعيّة الزّجريّة فقط، بل اهتم بكافة جوانب حياته الرّوحيّة والمادّية والعقليّة والسّلوكيّة والأخلاقيّة، كما قدّم له توجيهات تشمل قيم دينيّة تنمّي الجانب الرّوحي فيه، وتوجّهه إلى القيام بجوانب مادّية تؤطّر له علاقاته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة.
لقد تكرّس لدى الكثير من أبناء الأمّة الإسلاميّة تصوّر سلبيّ في كون  القرآن الكريم، كتابا مقدّسا «تقرؤه على أنّه تراتيل دينيّة فقدت صلتها بالكون، وكانت النّتيجة أنّ الذين درسوا الكون خدموا به الكفر، واستطاعوا أن يسخّروه لأنفسهم ومبادئهم، وإلحادهم وتثليثهم، أمّا نحن ومع أنّ كتابنا كتاب الفكر»(1) .. صرفنا عنه وحصرنا آياته في الجانب التّعبّدي الضّيق، ولم ندرك أبعاده في الأنفس والآفاق، وبذلك توقفنا عن العطاء ولم نستوعب مختلف العلوم التي يدعو إليها القرآن الكريم، وبذلك فقدنا الدّور المنوط بنا في الشّهادة على النّاس.
لا يمكن في نظري تحقيق الشّهادة على النّاس في غفلة عن السّنن الكونيّة التي تتيح فرصة النّهوض إلى مستوى متطلّبات الإنسان المعاصر، ولا يمكن أن تنحصر العلاقة بالقرآن الكريم الذي ينصّ في أكثر من ثلثه إلى النّظر في الكون ومختلف قوانينه في التّبرّك به وتحصيل الثّواب، وإن كان تحصيل حاصل من تلاوته. فإقرار اللّه تعالى للآيات الكونيّة صرخة قويّة مدوّية تكسّر أقفال التّقليد والرّؤية الجنينيّة في التّعامل مع القرآن الكريم بعقليّة الرّهبنة والدّعوة إلى الزّهد السّلبي والانقطاع عن الدّنيا. 
والانقطاع عن الدّنيا دعوة إلى تعطيل مقاصد الدّين وتحجيم رؤيته في المجال الرّوحي، والغفلة عن تدبّر السّنن الكونيّة تعني عدم الانتباه إلى القوانين التي تسود الكون والتي يمكن استنتاجها من خلال ملاحظة الظّواهر الطّبيعيّة والأحداث الكونيّة. فالكون يعمل وفق قوانين وأنظمة محدّدة، وتدبّر هذه السّنن يفتح أبواب الفهم والحكمة للإنسان. وإذا كان الإنسان يعيش بلا وعي أو اهتمام بتلك السّنن، فإنّه قد يفقد الفرصة للاستفادة من دروس الطّبيعة والكون، وبالتّالي قد يكون غافلاً عن معاني عميقة يمكن أن توجّهه في حياته وتساعده. 
يوجه اللّه تعالى الإنسان ويلفت نظره إلى الكون من حيث أنّه جزء منه، ومن حيث أخذ العبرة من تفاعل أحداثه، ليتجاوز تكرار ما أصاب سالف الأمم، يقول اللّه تعالى:﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾(الروم: 9)،  يقول الطّبري : يقول تعالى ذكره: أولم يسر هؤلاء المكذّبون باللّه، الغافلون عن الآخرة من قريش في البلاد التي يسلكونها تجرا، فينظروا إلى آثار اللّه فيمن كان قبلهم من الأمم المكذّبة، كيف كان عاقبة أمرها في تكذيبها رسلها، فقد كانوا أشدّ منهم قوّة، (وَأَثَارُوا الأرْضَ) يقول: واستخرجوا الأرض، وحرثوها وعمروها أكثر ممّا عمر هؤلاء، فأهلكهم اللّه بكفرهم وتكذيبهم رسلهم، فلم يقدروا على الامتناع، مع شدّة قواهم ممّا نـزل بهم من عقاب اللّه، ولا نفعتهم عمارتهم ما عمروا من الأرض، إذ (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَينَاتِ) من الآيات، فكذّبوهم، فأحلّ اللّه بهم بأسه، (فَمَا كَانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ) بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله، وجحودهم آياته، (وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بمعصيتهم ربّهم»(2). فالأمم السّابقة كانت قد خالفت أمر اللّه تعالى وتعدّت حدوده وتمادت في فعل الذّنوب رغم البيّنات التي جاءت بها رسلهم، واللّه تعالى أنذرهم ولم يظلمهم بما أخذهم من النّكال والهلاك، لأنّ اللّه عدل لا يظلم أحدًا، ولكن كانوا هم أنفسهم يظلمون بعدم الإيمان بالحقّ واتباع الباطل وهوى أنفسهم.
عندما يصاب الإنسان بِدَاء الغفلة عن سنن اللّه الشّرعيّة والسّنن المبثوثة في الكون، ولا يتأمّل في ملكوته وعظمة خلقه، بسبب جهله لها أو فقدانه لأدوات التّعامل معها، يفقد بوصلة التّواصل بينه وبين خالقه أوّلا، إذ يُعتبر الكون مدخلا من مداخل التّدبّر في عظمة اللّه تعالى وقدرته في الخلق، ثمّ يفوِّت عن نفسه أو مجتمعه ثانيا فرصة الاستفادة من دورة السّنن نتيجة عدم اتخاذه الاحتياطات الموجب اتخاذها في الوقت المناسب، ثمّ يصبح عالة ومفسدة على نفسه لأنّه لا ينتفع بجهده ومحيطه. 
قد تؤدي الغفلة عن سنن الكون وقوانينه إلى عدم الانتباه للعبر والدّروس المتوقّعة، فيتصرّف تبعا لما تمليه عليه نفسه بغير علم، فيقع في تضادّ مع تلك السّنن، فيحصد نتائج غير مرضيّة تعود عليه بالخسران، لهذا يحثّ القرآن الكريم على النّظر في الآيات الكونيّة ويدعو إلى التّأمّل فيها وتحقيق التّواصل معها بشكل منتظم وباستمرار عن طريق البحث والمعرفة والاعتبار بالحكمة ليحقّق الانتفاع منها.
إنّ الغفلة عن السّنن الكونيّة من الذّنوب التي يقترفها الإنسان، فيجد أثرها في نفسه وفي مجتمعه، والعجز عن اكتشاف هذه السّنن وفقه الواقع يؤدّي إلى سوء فهم الرّابط بين التّوكّل والأخذ بالأسباب. والجمع بين التّوكّل والأخذ بالأسباب من عقيدة المسلم، فإن هو توكّل على اللّه تعالى دون أخذه بالأسباب فقد وقع في المعصية، وإن أخذ بالأسباب واعتمد عليها دون التّوكّل على اللّه فقد وقع في الشّرك، لذلك فهو مطالب بالجمع بين قيمة التّوكّل والأخذ بالأسباب ليبلغ أهدافه. ولو أمعن النّظر في سيرة رسول اللّه ﷺ لوجد أنّ  هذه السّنن طبّقت عليه وهو خير الخلق ﷺ والمسدَّد من قبل اللّه تعالى، فقد كان ﷺ يستشير أهل الرّأي في القضايا المجتمعيّة، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة من الأسباب إلّا وأخذ بها، كما أنّه لم يترك مكانا للحظوظ العمياء، كما حال البعض ممّن يتّخذون شعارا لهم«دعها حتّى تقع».
لقد كانت سيرة رسول اللّه ﷺ، طلية ثلاث وعشرين سنة مليئة منذ أن صدع بالوحي بالأحداث والوقائع والتّحدّيات، وكان التّخطيط جزءا من حياته ﷺ ورسالته داخل مكّة وخارجها، من حيث اختياره لكتبة الوحي، وتكليفه لأشخاص سفراء إلى الملوك والبلدان والأقوام والأشخاص، واتخاذه السّند في الدّعوة كخديجة رضي اللّه عنها وعمّه أبي طالب، واختياره الأوقات المناسبة للدّعوة والأماكن والأشخاص إلى غير ذلك ممّا يعلق بسيرته كاملة في علاقته بربّه وعلاقته مع قومه وعلاقته مع منكري دعوته وحالات التّفاوض والمصالحة والمعارك والغزوات، وفي علاقته أيضا مع الوجود الكوني في حثّ أصحابه على العمل، كل ذلك لم يكن على سبيل الصّدفة، بل تخطيط محكم من أجل بناء منهجيّة اجتهاديّة عند أصحابه خاصّة والمسلمين عامّة ليأخذوا بفقه السّنن الكونيّة وألاّ يغفلوا عنها، لأنّها تسهم بشكل كبير ومباشر في تحقيق الأهداف الدّنيويّة والأخرويّة.
يعرض القرآن الكريم مجموعة من السّنن، فيحظى اللّبيب من التّسخير، فيأمَن من التّخلّف بعدل اللّه تعالى في عباده، ويهلك من جعل عقله وراء أسوار الأقفال واستسلم للتّفسيرات الواهية، ولم يقصد النّجاة لنفسه بجهله للسّنن الحاكمة في الخلق، فلا تنفعه صيحة  التّسويف. وإذا تأمل في تعامل النّاس مع السّنن الكونيّة في السّعي وراء تحقيق التّسخير منها، تجلّى لك عدل اللّه تعالى في قسمته، يقول اللّه تعالى :﴿ ...وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾(فصلت: 46) ، فقد اتفق المفسّرون على أنّ الجزاء في المقصود هنا هو الجزاء في الآخرة، لكنّ النّظر في مآل الإنسان من حيث اختلاف الواقع الاجتماعي يستجلي البون بين الإنسان السّلبي الكَلّ والإنسان الإيجابي الفاعل، بمعنى أنّ العقاب قد يحلّ في الدّنيا قبل الآخرة على ما اقترفته يده من جرم، فإنّه يستحق الجزاء من جنس عمله، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، يقول اللّه تعالى:﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾(فصلت: 46)
لقد قصّ اللّه تعالى في القرآن الكريم تنوّع العقوبات في الذين خلوا من قبل من الأمم، ليأخذ الإنسان حذره من عاقبة التّخلّف عن السّنن الواقعة، والعاقل من تدبّر كتاب ربّه، واتعظ بما حلَّ بالأمم قبله، والشّقيّ مَن أتبع نفسه هواها، فأوبقها وأشقاها، فلا بقيت له الدّنيا، ولا سلم في الآخرة. يقول اللّه تعالى:﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(العنكبوت: 40).
إنّ الإنسان الغافل عن إطراد السّنن الكونيّة وعدم التّفاعل معها يصبح عملة لأسباب التّخلّف الحضاري عِوض أن يكون مؤثرا فيها ومستفيدا من التّسخير الإلهي. فكثيرة هي الدّول التي تملك من خزائن الأرض المختلفة الكثير لكنّها لا تستفيد منها، بل تعيش على عتبة التّخلّف الحضاري، فتلتجئ إلى غيرها لتعيش وأبناؤها تحت رحمته. فكيف يمكن لإنسان يفتقد إلى أدوات التّعامل والبحث أن ينتج المعرفة أو يدرس العلوم المتعلّقة بالإنسان والكون؟، أو أن يغوص بإجراء التّجارب والملاحظات في شتّى العلوم الدّقيقة المختبريّة التي تسعد الإنسان وتحقّق له وجوده؟.
إنّ الكون محكوم بقوانين طبيعيّة ثابتة وسُنن تتحكّم في سيره وتطوّره، قضاها اللّه تعالى وقدّرها بحكمته البالغة، يقول سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾(آل عمران: 140). والإنسان يعيش بين سنن الهزيمة والنّصر وبين سنّة الارتقاء والانحدار وبين التّسوية والفجور وبين التّحضّر والتّخلّف إلى غير ذلك من الثّنائيّات التي يعيشها الإنسان، ذلك أنّ في الأيام أحداث وتقلّبات ووقائع تجري في الأمم والدّول والمجتمعات هنا وهناك من فقر وغنى، وحرب وسلم، وأفراح وأحزان... والعاقل من ينقل عمُرهَ من أيام رقمية إلى أيام عقلية، فيغتنم عمره ليدفع  قدرا بقدر أفضل منه، يقول الله تعالى:﴿...وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً...﴾(الأنبياء: 35). ونذكر في هذا الباب انتشار الوباء على عهد الصّحابة رضي اللّه عنهم من حديث ابن عباس رضي عنهما أنّ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خرج إلى الشّام حتّى إذا كان بِسَرْغٍ، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أنّ الوباء قد وقع بالشّام، فاستشار عمر من معه من المهاجرين والأنصار فاختلفوا، فقال: بعضهم خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقيّة النّاس وأصحاب رَسُول اللَّهِ ﷺ ولا نرى أن تقدّمهم على هذا الوباء. ثمّ دعا مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فلم يختلف عليه منهم رجلان؛ فقالوا: نرى أن ترجع بالنّاس ولا تقدّمهم على هذا الوباء، فنادى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في النّاس: إنَّي مُصَبِّحٌ على ظَهْرٍ، فأَصْبحُوا عليه، قال أبو عبيدة ابن الجراحِ: أفِراراً من قَدَر اللّه؟ فقال عُمرُ: لو غيرك قالها يا أبا عُبيدةَ! نعم، نَفِرُّ من قَدَر اللّه إلى قَدَر اللّهِ، أَرأَيْتَ لو كان لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وادياً له عُدْوَتانِ، إحداهما خَصِبةٌ، والأخرى جدْبَةٌ، أَليسَ إن رعَيْتَ الخَصِبَةَ رَعيتها بقدرِ اللّه، وإن رعيتَ الجَدْبَةَ رعيتها بقدرِ اللّه؟ّ»(3)، فرجع  عمر رضي اللّه عنه ولم يلق بنفسه وبأصحابه إلى التّهلكة، وهو يعلم أن ما يصيبه لم يكن ليخطئه وما يخطئه لم يكن ليصيبه، ثمّ إنّه قام بمشورة جُمْهُور الْمُهَاجِرين والْأَنْصَار، فأقرّوه على ذَلِك من غير أن يُنكِروا عليه، ثمّ لا يمكن للإنسان أن يفرّ من قدر حاصل بإرادة اللّه تعالى، كما أنّ عدم الأخذ بالأسباب وقوع في المعصية وعدم التّوكّل على اللّه تعالى وقوع في الشّرك. 
يشمل تدبّر السّنن الكونيّة النّظر إلى الظّواهر الطّبيعيّة بعمق، وفهم العلاقات السّببيّة بين الأحداث، والاستفادة من ذلك الفهم في بناء المعرفة واتخاذ القرارات في الحياة اليوميّة. والنّظر في السّنن الكونيّة وإطرادها يساهم في رفع مستوى وعي الإنسان بها وإدراك قوانينها، أمّا الغفلة أو الجهل بهذه السّنن فتجعله متأثّرا بها دون التّأثير فيها،  بمعنى أنّه لا يستطيع أن يفسّر ما يجري حوله، فيترك حياته للأقدار، ممّا يؤدّي إلى الاستسلام أحيانا أو إلى اتخاذ قرارات خاطئة والوقوع في مشاكل بسبب عدم فهمه الصّحيح لتلك السّنن.
تعتبر الحياة مختبر التّجارب ومستودع الدّروس والعبر، ومن لم يتبصّر بالسّنن تعصف به رياح التّخلّف، وتهوي به إلى مستوى الكلالة، فتصبح السّنن الكونيّة مجرّد ظواهر طبيعيّة وأشياء ربّما لا حقيقة لها، فيقطع بها الزّمن ليصير إلى نهايته. ولو باشر معرفتها لحرِص أشدّ الحرص على التّعامل معها ليستفيد من دورتها، ويحقّق دوره كمستخلف في الكون، يقول اللّه تعالى:﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: 11). فكلّ إنسان ميسّر لما خُلق له، أي أنّه على بصيرة من أمره ليختار طريق الفلاح لنفسه أو طريقا يكون فيها هلاك نفسه.
إنّ عدم فقه السّنن يسهم بشكل مباشر في هلاك الإنسان والمجتمعات، فيأتي الدّمار من كلّ جانب، فالطّبيعة أو القوانين الكونيّة لا ترحم أحدا سواء مسلما أو كافرا، فهي تطبّق على الكون والبشريّة جمعاء. والجهل بالقوانين الكونيّة يُحدث ثغرات كبيرة في المجتمع فينعدم استمرار التّوازن في جميع مستويات الحياة البشريّة علميّا أوثقافيّا أو اجتماعيّا أو اقتصاديّا أو سياسيّا وعلى مستوى الطّبيعة(البيئة) أيضا، وهذا ما تعيشه المجتمعات المتخلّفة اليوم من انهيار على جميع المستويات.
يحذّر اللّه تعالى الإنسان من الوقوع في الغفلة عن السّنن الشّرعيّة والسّنن الكونيّة، لأنّها سنن تؤثّر إيجابا وسلبا في حياته، فمن أخذ بها حقّق غايته من النّهوض الحضاري، يقول تعالى: ﴿منْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾(فصلت: 46)، ذلك أنّ هلاك الأمم يكون بمخالفة السّنن الكونيّة والاجتماعيّة. وما يصيب النّاس اليوم من قلّة التّمتّع بالأرزاق والنّعم على اختلاف أنواعها وقلّة التّلذذ برغد العيش على وفرته، وما يصيبهم من همّ وفزع وقلق واضطراب، ومن جوع وأمراض وأوبئة ومجاعات واضطراب في أحوال السّماء والأرض، وتلَفٍ في الأموال والأرزاق وانقلاب من السّعة إلى الضّيق، ومن تسلّط العدو عليهم وسوء تدبيرٍ للمعاش وجحد للنّعم والكفر بها، واستحباب الفساد على الإصلاح والظّلم على العدل، واتباع الأهواء، إنّما هو نتيجة لما كسبت أيديهم، وعدم فقههم لسنن اللّه الاجتماعيّة والكونيّة وجهلهم لحركتها وجريانها.
يأمر اللّه تعالى الإنسان ويدعوه في كثير من الآيات إلى النّظر في الأنفس والآفاق، ليأخذ العبرة ويتّعظ بسننها، فكان من الطّبيعي أن يتعامل النّبي محمد ﷺ وصحابته مع الواقع الاجتماعي بحكمة ورؤية إستراتيجيّة شاملة في مواجهة التّحديات اليوميّة، وذلك بتقديم الحلول العمليّة واتخاذ القرارات المناسبة بعد الاستشارة ودرس الخيارات. وقد نضج لدى الصّحابة تصوّر بأنّ النّجاح وتحقيق الأهداف لا يتأتّى إلاّ بفقه ما يجري في الواقع وفهم القوانين الاجتماعيّة والكونيّة فهما صحيحا ينهض بالذّات إلى مستوى الاستفادة من التّسخير الكوني لها، ذلك أنّ اللّه تعالى وضع هذه القوانين الكونيّة التي تجري بطريقة مطردة ومحكمة تدير الكون في انسجام مع الإنسان ليفهم هذا الأخير دورتها ويتعامل معها بشكل جيد. 
لا يمكن للإنسان أن يحقّق تغييرا  حضاريّا في غفلة عن السّنن الكونيّة، كما لا يمكنه أن يستفيد من دورتها في ظلّ الجهل بها أو الجهل بالعلوم المساعدة على فهمها، لهذا أنكر اللّه تعالى في كثير من الآيات على الإنسان تعطيل العقل عن النّظر في السّنن الإلهيّة والسّنن الكونيّة وتأمّلها. ذلك أنّ هذه السّنن تحفظ الإنسان إذا حفظها وتضيّعه إذا ضيّعها.
ويعتبر التّخطيطُ السّليم في حياتنا ضرورة كونيّة، حتّى لا نعيش تحت ظلّ غيرنا الذي يخطّط، ولا يتوقّف عن التّخطيط من أجل أن يعيش حياته المادّية، وديننا يأمرنا أن نعُدَّ العدّة بالاستطاعة، وهو سبحانه يُمِدُّ عباده بجنود من عنده، ولقد أخذ النّبي ﷺ بكلّ الأسباب وحقّق تمكيناً لدعوته في الأرض. ومن يريد النّجاح لدينه ودنياه ويرتَجي الحياة الطّيبة، لا بدّ أن يسلك سبيل التّخطيط الإيجابي. فالصّراع قائم بين الحقّ والباطل، ولتمضي سنةُ اللّه في نُصَرَةِ الحقّ يجب دفع تخطيط الباطل بتخطيط قويم سليم من طرف أهل الحقّ. فلا تتحقّق الأهداف إلاّ بتخطيط وتدبير وتفويض كلٌّ بحسب طاقته وقدرته، يقول اللّه تعالى:﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾(الطلاق: 3).
لو تأمّل الإنسان المسلم جيّدا القرآن الكريم لوجد أنّه«ليس كتابا فنّيا مقسّما على قضايا معيّنة، ثمّ تنقطع فيه الرّؤية الشّاملة، بل هو يعرض الكون وهو يبني العقيدة.. ويعرض الكون وهو يربّي الخلق.. ويمزج بين الجميع بطريقة مدهشة. فالنّظر في الكون والواقع والتّاريخ يقود الإنسان إلى الإيمان، ويؤصّل التّوحيد، ويبني الخلق، فقوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: 21)(4). وسوء فهم الرّؤية الشّموليّة للقرآن الكريم يؤدّي إلى تغليب جوانب على أخرى أو إقصائها، وإلى العمل ببعض آياته وتعطيل بعضها، فتنكمش رؤية القرآن الكريم لتتعلّق بالجانب الرّوحي دون الجانب المادّي. ويجب أن يؤخذ في الاعتبار أنّ القرآن الكريم يتناول موضوعات متنوّعة تتعلّق بالعقيدة والعبادات والأخلاق والقوانين وغيرها، وهذا التّرابط في النّصوص يدفع الإنسان إلى التّعامل معها في إطار هذه السّياقات المتعدّدة ويكون على يقظة ليفسّرها بما يضمن لها حركة وجوديّة، وأن يتجنّب الانحياز إلى تفسيرات مغلوطة أو متعلّقة بماضي الزّمن.
لقد فقه علماء الإسلام السّنن الكونيّة إلى جانب العلوم الشّرعيّة، فقدّموا أبحاثا في مجالات علميّة مختلفة وفي فهم الكون ومظاهره المختلفة. هذا التّفاعل بين العلم والدّين والفلسفة في الثّقافة الإسلاميّة أثّر في العلماء المسلمين وشكّل تفكيرهم ومنهجيّتهم في دراسة الكون، فصنعوا حضارة علميّة ومعرفيّة وعمرانيّة لا تزال رفوف المكتبات شاهدة عليها، ولم يكتف المسلمون بذلك بل خلقوا جسورا مع الحضارات المجاورة واستفادوا من مختلف علوم الفلسفة اليونانيّة والرّومانيّة، وقاموا بترجمة العلوم وخدموا بما يصلح منها في تفسير العلوم الشّرعيّة والعلوم الكونيّة، ومنهم على سبيل المثال، أبو حامد الغزالي(450 هـ/1058م- 505 هـ/1111م)الذي كان فيلسوفا وعالم دين، وقد قام بتأليف العديد من الأعمال التي تناولت العلوم الكونيّة والفلسفيّة مثل «تهافت الفلسفة» و«المنقذ من الضّلال»، ورغم أنّه كان منتقداً لبعض الآراء الفلسفيّة التي انتشرت في عصره، إلاّ أنّه كان يقدّر العلم ويشجّع على دراسته، ومنهم الحسن بن الهيثم(354هـ/965م ـ 430هـ/1038م) الذي كان عالم رياضيات وفيزياء وفلك، وقد ساهم في تطوير العلوم الكونيّة من خلال أعماله في البصريّات والفلك، وقام بأبحاث في مجال البصريّات وتحليل الضّوء، وكتب العديد من الكتب في هذا المجال، ومنهم أبو ريحان البيروني(362هـ/973م— 440 هـ/ 1048م)كان عالماً متعدّد المواهب، اشتهر بأعماله في الفلك والرّياضيّات والفلسفة والجغرافيا، قام بتأليف العديد من الكتب التي تتناول مختلف جوانب العلوم الكونيّة والتّنويريّة، وغيرهم كثير كان لهم الفضل الكبير على الفكر الغربي، واشتهروا بعلوم مختلفة أسهمت في تطوير المعرفة الإنسانيّة.
لقد تخلّت الحضارة الإسلاميّة عن التّعامل مع السّنن الكونيّة ونقضت عهدها مع العلوم الخادمة للإنسان والكون مقابل اهتمامها المفرط بالعلوم الشّرعيّة إلى حدّ مناقشة حواشي النّصوص، ممّا أدّى في بعض الأحيان إلى تعقيد الأفهام والشّروحات، ونتيجة لهذا التّخلي، أصبحت هذه الحضارة تعاني من تحدّيات اقتصاديّة واجتماعيّة جمّة، رغم توفّر الطّاقات البشريّة والطّبيعيّة التي تؤهلها لتطوير المجال العلمي والمعرفي، ممّا أدى بأغلب دولها إلى أن تصبح فريسة للهيمنة الغربيّة ومُسخَّرة بشكل فعلي لخدمتها وأفقدها القدرة على التّدافع الحضاري ودعم الابتكار والرّيادة في مجالات العلوم الطّبيعية والتّكنولوجيّا، وأعطى الفرصة للغرب لاستغلال ثرواتها وخيراتها بشريّا وطبيعيّا واقتصاديّا.
الهوامش
(1) كيف نتعامل مع القرآن الكريم، للشيخ محمد الغزالي ص:38 بتصرف يسير، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عمان،الطبعة2، 1999م
(2)  جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني10/178-179، دار المعرفة ، بيروت، لبنان
(4) كيف نتعامل مع القرآن الكريم للشيخ محمد الغزالي رحمه الله ص: 54